خبز يومي – سو آليسون

يضع مخبز خبزه غير المباع عند الباب عند وقت الإغلاق. الخبز طازج للغاية، ويخبز دومًا كل يوم. الخبازون أناس لطفاء للغاية، ويحبون الخَبز أكثر من المال رغم أنهم يحتاجون منه ما يكفي بطبيعة الحال للخَبز. ولا يحبون رمي الخُبز الذي يخبزونه في القمامة، ويرون أيضًا أن من المهم مد يد العون للناس ويفضلون فعل ذلك لمن يعيشون حولهم، وهذا ما بدأ فكرتهم البسيطة بوضع خبزهم غير المباع خارج الباب ليلًا لأي شخص يحتاجه، مع لوحة تفيد بأنه لأي شخصٍ يحتاجه. فيأخذه الناس، وفيهم المشردون أو من يعيش في ملاجئ أو نزل ومن بينهم طلّاب. والخبازون سعداء بالمساعدة. لكن الخبر ينتشر. فيأتي ناس أكثر فأكثر من أجل الخبز المجاني. وبعضهم بات يأتي كل يوم سواء احتاجوه أم لا. ما عاد الناس الذين يشترون الخبز يأتون لشراءه. وعذرهم أنه ليس من التدبير أن تدفع لما يمكنك أخذه مجانًا. كما أن هناك ما سيبقى موجودًا على الدوام. فلا يحتاج شخص ليراهن على الانتظار حتى نهاية اليوم حين يكون الخبز مجانيًا. فالخبز موجود دومًا. وسرعان ما صار هناك خبز كثير جدًا لأنه ما عاد هناك من يشتريه. فمن لديهم مجمدة طعام باتوا يأخذون أكثر مما يحتاجونه، وهؤلاء ليسوا مشردين طبعًا. زاد الخبز أكثر فأكثر بزيادة قدوم زبائن الماضي حين وقت الإغلاق، عندما يضع الخبازون مخبوزاتهم من الجودار والحبوب السبعة والدقيق الأبيض والبر والجبنة والزيتون إضافة إلى الخبز الإتروسكاني والخبز غير المملح وخبز السميد وأرغفتهم الدائرية والبيضاوية وخبز الشطائر ولفائف عجين مخمر وخبز مسطح وخبز باغيت وخبز مضفر عليه طبقة من البيض. صار الجميع خبراء خُبز خاصة أن الخبز مجاني، وبات بإمكانهم الاختيار بعد أن كانوا محتارين فقط بين الدقيق الأبيض والبر. وإذا لم يعجبهم ذلك أو لم يأكلوه بالكامل، فلا بأس، إذ لم يكلفهم أي شيء. بل يقدمون اقتراحات لخبراء الخبز الآخرين: جربوا السمسم مع الدخن المتشقق أو الشعير التبتي أو بومبرنيكل الزبيب أو دقيق الذرة والليمون والجوز الأسود. ما عادوا ذواقة قمح فقط بل أساطين الخبز، حتى حلت ليلة لم يعد فيها خبز. تجمع حشد كبير ينتظرون فتح الباب حتى يضع أصحاب المحل بضاعتهم غير المباعة لأن الناس الآن صاروا يحبون الوصول إلى هناك مبكرًا، بل أن البعض بات ينتظر في الخارج بوقاحة قبل خروج الكمية اليومية من الخبز غير المباع. لقد مضى وقت طويل على الإغلاق، والناس قد اجتمعوا بكثرة. وسرعان ما شعر من في آخر الحشد بالذعر، إذ خشوا ألا يكون لديهم ما يكفي من الخبز، ويريدون معرفة ما يحدث لأن حجم الحشد لا يتيح لهم رؤية اللافتة على الباب. في نفس الوقت، ينظر من في المقدمة ذاهلين ودونما اقتناع أو شعور بالخوف بعد من اهتياج الناس في آخر الحشد عبر النافذة إلى ما وراء لوحة «للتقبيل» في المتجر المظلم والمهجور. وعلى ظن منهم أن من في المقدمة يستأثرون بالخبز كله، بدأ من في آخر الحشد بالصراخ ثم بالتدافع.

أذى – ديفيد موريس

في صغري، وبعد وفاة أمي، كنت أنظر إلى الصبية الآخرين في فصلي يلعبون بين الحصص وفي استراحة الغداء ويضحكون ثم يذهبون إلى البيت، فيخطر ببالي: “إنهم يعيشون في طمأنينة. لا يدرون ما معنى الأذى الشديد.”
لذا أريتهم.
كنت أذهب إلى الواحد منهم بينما يلعب أو يأكل الغداء أو يجلس قارئًا بهدوء فألكم وجهه، ولم آبه تجاه ما إذا كان أكبر فتى بالمدينة أم مجرد فتى هزيل. إذ سأواصل لكمه حتى يأتي أحد المدرسين فيبعدني عنه سحبًا، فأنظر في أنفه النازف أو عينه المتورمة سلفًا ثم أقول في نفسي “الآن بتَّ تدري.”
لكن الأمر لم يكمن في تألمهم، فأنا أدري بأن ذلك سيزول؛ بل كان في النظرة المرتبكة على وجوههم، في واقع كونهم الآن يعرفون أنهم يعيشون في عالم يمكن أن يحدث فيه أمر كهذا.

صحفي – لوسي كورين

هذه قصة حقيقية عن صحفي ولا آبه بما سيحدث. كنت أساعد منذ زمن بعيد أحد أساتذة الجامعة من دائرة المواد الإنسانية في مادة تتعلق بالأخلاق في الأدب والتوثيق، وذاك الشاب الذي اسمه آدم أحد المنتسبين. لم يكن في مجموعتي للمناقشة – إذ كانت هناك حوالي ثمانية مجموعات ومئتي شخص موجود من أجل الاستماع للمحاضرات، لكن آدم قرر على نحو ما أن يُعجب بي من بين الناس وبدأ يتقرّب مني خارج مصنع علب المياه الغازية المعاد ترميمه بشكل جميل حيث تُعْقد المحاضرات. أدري أنه كان وسيمًا، لكن لسببٍ ما لم أهتم لذلك برغم أنه كان في عمري وقد أكمل شهادة في جامعة رفيعة أردت الانضمام إليها ذات يوم. وقد أردت الانضمام إلى تلك الجامعة بنفس الطريقة التي تظن أنك تود فيها أن تكون ممثلة مشهورة بينما ما تقصده فعليًا هو أن تشعر بمكانتك.

المهم أننا خضنا الحديث عدة مرات وجدتها جميعًا مملة ثم سألني عمّا إذا كنت أرغب بـ.. لا أتذكر، شيئًا ما، فرفضت، لكني كنت أمشي باتجاه البيت وإن أراد، فيمكنه المشي معي والتسكع في الباحة بينما أعتني بالحديقة. من الجدير بالذكر هنا أني كنت الوحيدة من البيض القلائل القاطنين في حي ممتلئ بالسود والمكسيكيين، وأحد القلة الذين كان لهم أي شأن بالجامعة. أخبرني الناس في حيي أني شديدة – بل ناصعة – البياض، أما آدم فأبيض، بل شديد – بل ناصع – – البياض. المهم أن فكرتي راقت لآدم وأتى إلى المنزل معي وكان لطيفًا مع كلبي واتّضح أنه يفوقني معرفة بكثير في ما يخص النبات. كان يتأملني ويلقي جملة من نوع أو آخر بينما أعبث في الأرجاء فظهر نمط معين. وبعد المحاضرة، يأتي إلي فأقول، في الواقع، إني مشغولة بفعل هذا أو ذاك، وغالبًا يكون نقل الأشياء حول حديقتي أو أخذ الكلب إلى الغابة، فتعال إن رغبت، ثم بدأ يخبرني معلومات عن النباتات التي مررنا بها في الغابة من زنجبيل بري أبيض وأوركيد الخشاش. جلب لي قصاصات من مكانه الذي وَجب عليه بيعه بداعي الطلاق الذي يمر به وكان أشد ما أحزنه هو فقدان كل نباتاته. قبلني ذات مساء في الممر قرب الحمام. كنت غاضبة بشدة جرّاء ذلك، لكني وقتها تساءلت عن خطبي. أراني صورة لوالديه في عدد منشور في الستينات من مجلة «تايم». قال إنهما صديقان لآل كينيدي في الماضي. كان يواصل سؤالي دومًا إن كنت أرى إذا ما بإمكانه أن يصير كاتبًا جيدًا فقلت إني أرى أنه سيصير صحفيًا جيدًا. واصل سؤالي فواصلت قول نفس الشيء بصِيَغ مختلفة. المهم أنه بعد أن قبّلني وغضبت إزاء ذلك، أراد جزء مني أن يقبّلني مجددًا، لربما بسبب وسامته، أو بسبب مسألة الجامعة، أو آل كينيدي، أو المعرفة بالنبات، وفي تلك اللحظة تغير الموقف برمته لأنه كان بحالة مزرية بسبب الطلاق وأنا بحالة مزرية عمومًا.

لنرَ إلى أين سينتهي بنا المطاف.

دوّت الطلقات ذات يوم بينما كنت أعتني بحديقتي رفقة كلبي الذي كان يراقب، فقتل كلبي. كان الموقف جنونيًا بحق، ومصورًا بالفيديو، حدثًا إعلاميًا على أعلى نطاق، وبعد أن أجريت مكالمةً عبرتِ البلاد إلى الشخص الذي كنت أحبه في الماضي بالتحديد، اتصلت بآدم. كان الذي وضع كلبي في شاحنتي، وقاد السيارة إلى الغابة، ووجه الجزازة في جنح الليل من أجل حفر حفرة ولمّع مصابيحها بينما حركنا الجثة ثم ساعدني على تغطية المكان بالصخور. كان القصد من ذلك منع نبش المكان. ثم لم أسمع منه خبرًا، ثم أخبرني في آخر مكالمة هاتفية بيننا، أنه لم يستطع تحمل ألمي، هذه الجملة التي ظلت في بالي. لكنه الآن صحفي، ولديه مكان لطيف في المدينة ويطوف في أرجاء العالم ويحكي قصصًا عن أشياء من قبيل فتيات صغيرات سود يُبَعن لصالح الدعارة. إنه أحد أولئك الصحفيين الذين يحكون كل قصة دون غموض على الإطلاق، الذين يعثرون على قصص يحكونها فيستحيل عليك أن تمر بأكثر من شعور معين تجاه أي شيء

كيف أكتب؟ – نيل غايمان

أشد ما تغير في عادات الكتابة لدي بمرور السنين أنني لم أعد ممّن يصحون ليلًا. في الأيام الخوالي، كنت أكتب حين أنتهي من كل أمر آخر يمكن إنجازه، فأبدأ حوالي الساعة الثامنة مساء وأعمل باجتهاد حتى الساعة الخامسة صباحًا تقريبًا. بعد ذلك، في بداية التسعينات، أقلعت عن التدخين، وشكّل ذلك فارقًا بالنسبة لي، إذ لو حاولت الكتابة – بلا سجائر – سأسقط على لوحة المفاتيح دون ناتج إلا من 500 صفحة تحوي حرف M مكررًا. كما أنني صرت نهاريًا أكثر بعد إقلاعي عن التدخين، وأعتقد أن ذلك مرتبط بإنجاب الأطفال والتقدم في السن أيضًا.

لكن بما أني أكبر سنًا الآن، صرت قادرًا على الانغماس في طرق تجعل العالم أهدأ، ولم تكن تلك الطرق متوفرة حين كنت شابًا. أستطيع استئجار كوخ صغير بلا إشارة هاتف محمول أو إنترنت أو أي شيء آخر سوى التحديق في بحيرة قريبة أو….. الكتابة. وحين أكون بضائقة مالية، أستعير بيوت بعض الأصدقاء، ومن وقتٍ لآخر أختفي بداخل غرفة في فندق رخيص لمدة أسبوع أو أسبوعين كي أركز وأنتقل ذهنيًا إلى ذلك الكون الغريب حيث لديك ما يجب إنهاؤه – كما تعلمون –، ولا تقوم بشيء غير الكتابة. فتنام والقصة تفورُ في رأسك، وحين تستيقظ تلتقط دفترًا.

بالنسبة لكتابة السيناريوهات، أقوم بذلك على شاشة الحاسب الآلي مباشرة، أما الروايات فأكتبها يدويًا. إذ أحب الإحساس بالمسودة الأولى والثانية كاملة وتوسيخ الورق بالملاحظات حين كتابة الرواية. أما السيناريوهات، فأشعر بالتقدير تجاه سهولة التعامل مع الحاسب الآلي؛ ولطالما فكرت أثناء كتابتي إحداها، بعد ست مسودات مليئة بالإضافات والملاحظات، أن من المثير للاهتمام قراءة المسودة الأولى، إذ تدرك أنها كانت حية أكثر، فتعود وتأخذ بعض الأفكار منها.

أحاول أن أغير خرافاتي عن الكتابة مع كل مشروع أبدؤه. العمل بقلم حبر سائل جيد لأنه يهدئ من سرعتي بما يكفي لجعل خط يدي قابلًا للقراءة. غالبًا ما أستخدم قلمين بلونين مختلفين كي أعرف مقدار ما كتبت كل يوم بالنظر، وأعرف إن كان اليوم جيدًا حين أخرج بأكثر من 1500 كلمة عبر كتابة مريحة وسهلة أتصور بأنني سأستخدم معظمها في النهاية. وبطبيعة الحال، تكون لديك تلك الأيام السحرية التي ترى فيها أنك انتهيت من كتابة 4000 كلمة، لكن في المقابل تزنها – بل تثقل عليها – تلك الأيام الشريرة التي تخرج منها بـ 150 كلمة فقط وتعلم بأنك سترميها بعيدًا.

الضفدع – غرانت فوكنر

مسطَّح بسبب سيارة، ويداه ممدودتان، بدرجة تشبه يسوع قليلًا. حمّصته الشمس حتى بات هشًا مثل رقاقة بطاطس.

قالت ماريا: “يا للضفدع المسكين، لم يعرف كيفية عبور الطريق.”

رددتُ: “ربما ظن أن السيارة صديقة جديدة، فأقبل عليها مسرعًا يرحب بها.”

“أو ربما كان يتساءل بحيرة عن كيفية تحول شيء صغير في الأفق إلى شيء كبير للغاية.”

قضينا ساعات في أحاديث مثل هذه. كان الحال لطيفًا في أننا لم نتحدث عمّا سيحدث بعد قليل أو عمّا نحن عليه معًا؛ كما لو أن الضفدع ليس جزءًا في أي قصة، ولو بالصدفة، حتى في قصتنا.

طرقات – جوش كريغمان

عقدت اتّفاقًا مع جاري منذ شهور، بحيث كلما اشتهى تدخين سيجارة على نافذة صالته الخارجية، يطرق جدارنا المشترك مرتين، فأعلم بهذه الطريقة أن عليّ إغلاق نافذة صالتي الواقعة على بعد أقل من عشرة أقدام. كانت اتفاقية ناجحة، حتى أني صرت أرحب بالطرقات، وما تمثله من رسائل مقتضبة، والدعوة نحو عالم يتخطى مكتبي، ناهيكم عن التذكير بالنهوض ومطّ القدمين.

أحيانًا يطرق والنافذة مغلقة، لكني مع ذلك أنهض وأذهب باتجاهها إلى أن أنتبه. يخطر ببالي أنه قد طرق في أوقات لستُ موجودًا فيها، كما أميل للتفكير بأنه يطرق أماكن أخرى، وأن خاطره ينشرح إذ يربت ببراجمه على جدارٍ بعد أن يفتح نافذةً في مطبخ صديقه. أما أنا فيا كم مشيت باتجاه النافذة مباشرة حين طرق أحد الضيوف بابي.

لا أتحدث مع جاري، لكن صوته يحيط بي، بل يطوّقني، بجانب شتى أنواع قرقعة الحياة العادية التي تنبئ عن حضوره: باب سيارة يغلق، خطوات قدمين في الرواق ما بيننا، وهزيم الرعد المنتقل من مكان لآخر إثر تحريك الأثاث للداخل أو الخارج.

بعد ذلك، ومنذ أسبوع تقريبًا، اختفت الطرقات. لا أعلم التوقيت بالضبط، ولا المدة التي جلست فيها مفترضًا أني بين طرقتين حتى أدركت أني في ذلك الوقت بعد آخر طرقة. إنه فقدان غريب ولا مناص منه. فمن الخارج حياتي لم تتغير، واليوم بنصف دزينة طرقات نفس اليوم من دونها، لكن ما عاد لصمتي شكل.

ما زال علي التقصي بشكل دقيق عن ذلك. هناك عدة تفسيرات محتملة، ويعتريني الخزي لكونها أثّرت فيّ بنفس القدر.

حوار سري عبر الهاتف برقائق البطاطس – براثنا لور

تلقيت بالأمس مكالمة هاتفية من شخص مجهول. قلت “مرحبًا” عدة مراتٍ ولكن لم أسمع ردًا. بدا الصوت وكأن الشخص يأكل من كيس رقائق بطاطس. كان هنالك أشخاص آخرون يتحدثون بأصوات نائية، بل يخوضون شجارًا. بقيت مستمعًا حتى نفد رصيد شريحتي مسبقة الدفع.

ذهبت في اليوم التالي إلى هاتف عمومي واتصلت على ذلك الشخص. لم أقل أي شي، ولم يغلق السماعة. أمكنني سماع تلفاز من بعيد والشخص إذ كحّ مرتين. استمع إلي أثناء أكلي من كيس رقائق بطاطس. أكلت كل رقائق البطاطس ثم أخرجت جوف الكيس وشرعت في لعقه، ثم بدأت مضغ الكيس حين لم يبق ما يمكن لعقه. أصِبت بجرح في شفتي من الكيس فتخلت أسناني عنه. ضحك الشخص قليلًا من التلفاز. أغلقت السماعة ثم خرجت من كشك الهاتف فجلست على الرصيف متفكّرًا في الضفادع.

الكرسي المتحرك – ماهرين سهيل

في البداية، اشتريت الكرسي المتحرك مع أمي وأخي، ثم أخذنا أبانا إلى محل البقالة. طلب منا التوقف قرب أحواض الثوم المخلل، والمانجو المخلل، والفلفل المخلل، والزيتون المخلل. ثم قال، أليس من الرائع أن تكون مخللًا؟، بوجه يضحك وينفرج مثل ثمرة برقوق. حدث ذلك بعد أن زارتنا السيدة التي قالت إنها تعرف شبحًا، وأن الشبح قال إن أبانا ليس مريضًا. يا له من يوم؛ كانت معنوياتنا مرتفعة.

سأل أبي، أيمكن أن يتحول ذلك إلى قصة إحدى المعجزات؟، ولم نقدر على قول “لا” رغم صراخ أفئدتنا بذلك، إذ كنا نعيش مع عمتنا التي يقع بيتها قرب جميع المستشفيات. كنا حزينين جدًا في بيتها، وكنت أرتدي كل يوم نفس الملابس.

لم يحظ أبي باستقرار في نومه، فكان يلوح بيديه في الهواء وأصابعه تتلوى فوق رأسه. ظننا في ذلك أنه يتحدث مع الشبح، فكنا نوقظه طيلة الوقت؛ خفنا أنه قد يهين الشبح فيسلبه الشبح تشخيصه المطمئن.

لم يستطع أبي الذهاب إلى الحمام بمفرده. كان عليه أن يتلقى المساعدة قيامًا وقعودًا على المقعد، ويأخذ الأدوية في كل وقت، من أجل الحديد ومن أجل الدم ولإيقاف الألم. يا لها من طريقة كي يبقى الجسم على قيد العمل، ويا له من حزن. كان يحدق بعض الأيام في يده وفي كل الأقراص البيضاء ويسأل، ما كل هذا المسحوق؟ فنرد عليه كما لو أنه طفل. كنت أبكي وأبكي كل يوم، فتحاول أمي إيقافي بعض الأحيان، وتشاركني أحيانًا أخرى. ولما بكتْ، تورم وجهها مثل بطيخة، وصارت عيناها مثل بذور بإمكانها أن تبصقها بعيدًا. كان منظرها أكثر منظر محزن قد ترونه طوال حياتكم لولا احتضار أبي.

كنت أذهب إلى أندية الكوميديا المستضافة على أسطح المنازل متى ما أمكنني الفرار. جلست على وسائد أرضية حمراء بجوار أولاد، ودخلت نسوة بشعر مضفر وملابس بيضاء فضفاضة ذات خطوط ملونة. كانت المراوح ومكيفات الهواء تتحرك بيننا، والجبال مرئية في الأفق. أطلقت مؤديات الفقرات الكوميدية بضع نكات ساخرة ضد بعض أفراد الجمهور، فضحكنا جميعًا بشدة حد أن وجوهنا تعبت من إبداء السعادة. كان يخطر ببالي كم الحظ الذي لدي في تلك الأيام.

في متجر البقالة وقرب أحواض المخللات، كان أبي يرتدي قميصًا أخضر بحال جيدة، وعليه بنطال رياضي. وقف لوهلة أمام واجهة عرض العينات صغيرة، ثم جرب الزيتون المحشي بالثوم، والمحشي بالجبن أيضًا. كان واقفًا بساقين مرتعشتين إلى جانب أخي، وثبت نظره على البائع. قال إنهما لذيذان للغاية.

أخذت الكرسي المتحرك من خلفه ثم جلست عليه لمدة، إذ كنت متعبة بعد تجوالي معه في أرجاء المتجر بعد أن تعدينا الملابس وأجهزة التلفاز والفاكهة والخضروات والمخبوزات والشوكولاتة المستوردة. كان يحادثني دون أن يلتفت فأضطر إلى أن أميل نحو قفاه، فإذا به يتحدث مثل رجل أدرد وشفتاه مضمومتان إلى فمه.

جلست على الكرسي المتحرك أثناء وقوفه ريثما يتذوق عينات الزيتون مع أخي. أغمضت عيني واستغرقت في استراحة، ولما فتحتهما لاحظت أن جميع من تعدّاني يحدق بحزن شديد. كانت الشابات ينظرن إلى ساقي، والرجال متحلقين حولي كما لو أنني أحترق، والعجائز يبحثن عن مُرافقي. بدوا جميعًا وكأنهم يفكرون بالمأساة والشابة الصغيرة والساقين المعطوبتين.

لاحظت أن أبي يتمسك بسطح العينات ورجلاه ترتعشان، وعلى كتفيه لوحين عظميين بدلًا من الذراعين. وضعت قدمي في مكانهما بالعربة وأمسكت بالعجلتين، ثم درت بنفسي وأخذت أتجول حول المتجر. تأكدت من كون الجميع قد رأوني أدور وابتسامة عريضة تعلو محياي. تعديت مجددًا كلًا من الملابس وأجهزة التلفاز والفاكهة والخضروات والمخبوزات، إضافة إلى الشوكولاتة المستوردة. ثم حدقت بلهفة تجاه الملابس، خاصة البناطيل، ودردشت مع الزبائن رافعة عنقي بشدة إلى الأعلى كي أنظر إليهم. رأيت عيونهم تفيض بالشفقة. قال دماغي حسنًا، حسنًا، حسنًا، حسنًا، أحسنتِ، كما لو أنه يغني. سألتني سيدة عجوز بلطف في منطقة الأحذية، ماذا حدث لساقيك؟ قلت، حادث، ثم نظرتُ إلى فاترينة الكعوب الطويلة مثل ثلج متراكم. ربتت على كتفي، وقالت، أنتِ شجاعة جدًا. كان الشعور بالتقدير طيبًا.

تغيرت الأغنية في رأسي، وصارت كلماتها، أنتِ شجاعة جدًا. عدت مجددًا إلى منصة الزيتون. رأيت أن أبي ما زال واقفًا يأكل. سأل أخي، أين كنتِ؟ وقفتُ على ساقيّ المعافاتين القويتين وأعنتُ أبي على الجلوس مكاني. أخذ بعض الصبية يشيرون. بقيت مبتسمة رغم أنني شعرت بأن الأجواء في المتجر تتغير، وتغمرها الربكة قليلًا، بل لربما العدائية. أستطيع المشي، كنت كاذبة، لكني متعبة في نفس الوقت. دافعت عني الحقيقة. كانت تقرقع في المال الذي دفعه الناس للمحاسبين، وحملت نفسها إلى الخارج عبر أكياس التسوق، ودخلت بيتنا. أكلنا – أنا وأمي وأخي – الطعام وكانت تحافظ على اجتماعنا لسنوات. أنت شجاعة جدًا، نحن شجاعان جدًا، نحن أقوى من تعرفين.

الفئران – ليديا ديفز

تعيش فئران بداخل جدراننا لكنها لا تتسبب بالمشاكل تجاه مطبخنا. ونحن راضون، لكننا لا نفهم سبب عدم دخول مطبخنا حيث المصائد مُجهزة مثلما يدخلن مطابخ جيراننا. على الرغم من كوننا راضين إلا أننا محبطين أيضًا، لأن الفئران تتصرف وكأن في مطبخنا خطبًا ما؛ وما يجعل الأمر محيرًا أكثر أن بيتنا أقل نظافة بكثير من بيوت جيراننا، فهناك طعام متناثر أكثر في مطبخنا، وفتات أكثر على الطاولات وقطع بصل قذرة تحت قواعد الخزانات. في الحقيقة، هناك الكثير من الطعام المتروك في المطبخ لدرجة تحدوني للتفكير فقط بأن الفئران نفسها مهزومة تجاهه. ففي مطبخ نظيف، يُعد الأمر بالنسبة لهن تحديًا كي يجدن الطعام الكافي ليلة إثر ليلة من أجل النجاة حتى حلول الربيع، إذ يسرقن ويقضمن ساعة بعد ساعة بصبر حتى يصرن راضيات. لكن في مطبخنا، يواجهن شيئًا أكبر بكثير من المقسوم لهن حسب ما عشنه لدرجة أنهن لا يستطعن التعامل معه. قد يغامرن بخطوات قليلة، لكن سرعان ما تعيدهن المناظر والروائح الغامرة إلى جحورهن في الخلف تحت شعور بالانزعاج والخجل تجاه العجز عن النبش كما يجب.

البائع – إيميلي ديزوريك-بدران

لم يعد لدى البائع دولارات كافية كي يصل إلى البيت. مرت ثلاث أشهر على وجوده في المدينة بينما يمشي متثاقلًا على آخر رصيف في الشوارع العريضة مثل سهول الوطن، تحت أضواء الشوارع التي لا تهب نور الشمس. ما من تغريد طائر بري أو شجر ملتف من جوف الأرض لأنه ما من أرض، بل اسمنت على اسمنت وعشبة هنا وهناك. كانت هناك مسافة أميال بين مركز المدينة – حيث يبيع – ومكان نومه، وكانت المشاوير على القدمين متعبة وأهل المدينة يتجنبونه في أجواء الريح الباردة. أحيانا يتعثر الناس على الأرض ويقعون، فتجد أناسًا آخرين يقعون على الأجساد الساقطة بسبب عجلتهم. لقد مشى البائع فوق الأجساد أيضًا، إذ ما من مكان آخر كي يمشي فيه، فالحركة البشرية كثيفة وسريعة للغاية. لماذا يتحرك هؤلاء الناس بسرعة شديدة ويتحدثون بصوت عال؟ كان لدى البائع صوت هادئ، ولعل هذا سبب عدم بيعه الكثير من الحلي الرخيصة في حقيبته، على عكس الآخرين الذين باعوا الألعاب في وسط المدينة، فحلي البائع لا تضيء أو تدور أو تطير. وحين يحاول شرح كون حليه مصنوعة بأيدي أصدقائه البارعين من الوطن، يكتفي الناس برد من قبيل “هل لديك أي شيء أرخص؟ شيء للأطفال؟”

فيجيب البائع بصوته الضائع في ضجيج المدينة “هذا كل ما أستطيع عرضه.”

وعلى أنه لم يكن متدينًا، إلا أنه في كل ليلة يضع يده على صورة منزل أمه ويقول بما يشبه الصلاة: أرجوك، خذني إلى الوطن مرة أخرى قريبًا. ثم يذهب إلى غرفة النوم – حيث سريره السفلي تحت بائع آخر – فينام بلا أحلام لأن المدينة سرقتها.

وما إن حل الشتاء حتى باتت طرق المدينة العامة مثلجة بشكل خطر، لأن سكان المدينة رفضوا دفع المال لأجل الملح كي يفرشوا به شوارعهم قائلين “لم علي دفع المال الذي جنيته بمشقة لأنقذ الآخرين من حماقتهم؟”، وفي كل يوم يقع الناس أكثر فأكثر على الشارع، ويمشي أهل المدينة على أكوام أكبر فأكبر من الأجساد. باع البائع في كل مرة حليًا أقل من ذي قبل، وصارت حزم الأموال التي يرسلها إلى الوطن أقل سماكة فأقل، بينما تكبر الثقوب في نعليه، ومعطفه قد تقطع حتى صار خيوطًا.

آخر ما حدث أن حل يوم لم يبع فيه البائع أي شيء على الإطلاق. وخلال طريقه الطويل عائدًا إلى سريره، تعثر فوقع على الشارع، وفي لحظة تعثرت امرأة فوقعت فوقه؛ فوقع أحدهم فوقها؛ وآخر على ذلك الشخص؛ وهكذا. تسبب كل الأشخاص فوق البائع بحرارة هائلة. وقبل أن يتكسر بالكامل، شعر بالدفء من أجسادهم، مثلما كان يشعر به من النسائم اللطيفة في وطنه البعيد.

جمعية المؤرخين – غلن شاهين

هناك احتفاء عظيم. لقد اكتشف الباحثون توًا أنه في موضعٍ ما وُضعت سنتان في المكان غير الصحيح من القرن الثالث عشر في التقويم الروماني. كان ذلك الزمان مربكًا، إذ دُمّر العالم الغربي بفعل الحروب والأمراض والمجاعات، وربما بسبب روبن هود إن كان حقيقيًا في الأصل. كان وقتًا كارثيًا، لكن في مكانٍ ما وبطريقةٍ ما أغفِلَت سنتان، والآن فقط أدركت جمعية المؤرخين خطأ الماضي. تم الإجماع على استعادة السنتين، وها نحن في عام 2012 مرة أخرى، وسينال الجميع فرصة ثانية. إذ سيعيد فتىً ما في ولاية جورجيا تسجيله في تخصص الرقص الإيحائي بدلًا عن الكيمياء الحيوية. وبعد انفصال ممتلئ بالاتهامات، يعود عاشقان من ولاية مينيسوتا إلى بعضهما ويأكلان وجبة باستا المانيكوتي في مطعمهما القديم المفضل، على الرغم من أن موعدهما الأول كان في مطعم تايلاندي. كما يعيد سائق أجرة هديتَي عيد الميلاد مقابل رصيد في متجر، وستعلن الحكومة عن إجازة ممتلئة بالولائم مدة أسبوع. ثم خلال سنتين من الآن، سيغمر الجميع رعب هائل. سيضيعون كل شيء، وكل فرصهم الجديدة. وستكتَب الشيكات فترسل ثم تودع. سيفتش المحامي الذي أمضى كلتا السنتين الجديدتين متعاطيًا حشيش ابنه الصندوق، حيث يخبئ أغراضه، لكنه سيجده فارغًا كل مرة إلا من راقصة باليه صغيرة على عزف بطيء جدًا لمعزوفة “بحيرة البجع”. سيدعي الجميع شعورهم بالقرف حتى إن مُنحوا السنتين الجديدتين للبدء بهما. وسيسألون عن الفرق الذي تعنيه أرقام التواريخ، وسبب اهتمام الحكومة أصلًا بالاستماع إلى الباحثين. مع ذلك، في كل مرة يضغطون فيها روابط مواقع الأخبار، سيبقون على أمل أن تعثر جمعية المؤرخين على سنتين إضافيتين، ولو واحدة، أو يوم؛ أي شيء يمكن إعادته والاستفادة منه فعلًا هذه المرة.

حارسة الفن – ميريداون دكلر

ترجمة راضي النماصي

هل توجد دورة مياه؟ هل بإمكاني التقاط صورة؟ الاجابتان هما نعم ولا. أحيانًا أبدل ما بينهما من باب الملل. لقد عاد اليوم. لا أستطيع المغادرة. من سيحرس الفن؟ لكنه يستطيع العودة والنظر إليّ كل يوم. أحلم أحيانًا بسقوط ذلك الشيء الهلامي المعلّق. طلبت النقل إلى الطابق الثاني لحراسة دونات برونزية وزوج حذاءين. ما من حظ. لقد التقط صورة. لحقت به لكن صدتني امرأتان تتجادلان بخصوص معنى أشعة نيون مسلّطة باللون الأحمر. ها هو المخرج. لم يحضر في أحد أيام الأسبوع الماضي. لا يهم. ما زلت مؤمنة بالفن.

روابط في كل مكان

صباح الخير،

شهدت الفترة الماضية عددًا من المقاطع الثقافية المميزة، وأوصي بها جميعًا.

بودكاست أسمار مع عدي الحربش

بودكاست أسمار مع عبد الواحد الأنصاري

بودكاست عفة مع سليمان الناصر

بودكاست فنجان مع طارق القرني

عليكم بها.

مسلسل بديع آخر

على غرار «برودتشرتش»، ينطلق هذا المسلسل العظيم مستخدمًا خط الجريمة التي يتكتم عليها الجميع، ويضيف عليها خط المحققة التي تسعى – في نفس الوقت – لحياة نفسية متماسكة في حاضر ينافس ماضيه سوءًا ما بين أحداث مريعة وخيارات شخصية صعبة.

أرشحه لكم بضمير مرتاح.

قدمان – ريبيكا بيرغمان

قدما الطفل متسختان.

قالت الأم: “يا للقرف، انظر كم قدماك متسختان.”

مر ببال الأم زمن كانت فيه قدما الطفل الصغيرتان منغمستين بالحبر، وكيف كانت أولى خطوتين له في الحياة على ورقة نظيفة. ما زالت تحتفظ بتلك الورقة في مكان ما، بتلك القدمين الصغيرتين من حبر، على نية أن تضعها في إطار. والآن، تركض نفس تلك القدمين في كل أرضيات شقتهما التي لم تكنس بعد، بينما تلتقط ما لا يعلمه إلا الرب ما بين قطع مكسورة وطفيليات.

قالت الأم بصرامة: “اذهب للاستحمام، الآن.”

رد الطفل “ماذا لو كنت لا أرغب بذلك؟”، وعلى شفتيه المزمومتين أثر غريب لمصاصة حمراء.

أجابت الأم بينما تنظر شزرًا: “لكن انظر إلى قدميك”. وإذّاك نظرت إليهما مرة أخرى: كل ظفر ناعم يشكل نصف قمر، وعظما الكاحل بارزان مثل كرتين من القشدة. أين كانت تلك الورقة التي تحوي أثر قدميه صغيرًا؟ اشتهت رؤيتهما الآن.

“متى كان آخر استحمام لك؟”

“الجمعة.”

“لكن اليوم الخميس!”

يرى الطفل ذلك مضحكًا للغاية، حتى أن كتفيه وصدره اهتزا من شدة الضحك.

وفجأة يركض هاربًا منها، فتضحك الأم أيضًا رغم الصدمة. بدأت بمطاردة الطفل، فركضا بسرعة في الصالة، وآخر الممر، ثم إلى داخل الحمام.

قالت الأم: “سأقفل عليك بالداخل” وما من قفل، ثم أردفت: “لا تخرج حتى تصير نظيفًا.”

يركض الطفل ويرتمي بثقل جسده على الباب.

قالت الأم: “توقف”، لكنه يفعل ذلك مرة أخرى.

أعادت الأم بصوت أعلى: “هذا ليس مضحكًا.”

وإذ يضغط مقبض الباب على بطنها، تفكر في خفة تَينِك القدمين، وكيف ضغطتا سرتها ذات مرة من الداخل. يدفع الباب باتجاهها مرة أخرى.

تكرر الأم مقولتها: “هذا ليس مضحكًا.”

أطل برأسه من خلال فتحة في إطار الباب. أسنانه متكسرة ورأسه يبدو كبيرًا للغاية على عنقه.

تأمر الطفل قائلة: “توقف عن ذلك. اهدأ. هذا ليس مضحكًا.”

التقت عيناهما ومرت لحظة لم يعودا يعرفان فيها بعضهما. يتساءل الطفل بكل جدية وبراءة: “كيف لا يكون ذلك مضحكًا؟ لقد كنا نضحك قبل قليل، أليس كذلك؟”

لكن في تلك اللحظة، يُمحى السؤال من وجهه المكتنز، فيستمر بدفع الباب. ويواصل ذلك مرارًا باتجاه أمه، حتى يصير حرًا.

ريبيكا بيرغمان

كاتبة أمريكية، حازت على ماجستير الفنون الجميلة من الجامعة الجديدة في نيويورك. برزت قصصها في أكثر من مطبوعة أدبية على شبكة الإنترنت، مثل «جويلاند»، «هوبارت»، «باساجز نورث». كما حازت على منحة تينيسي وليامز التي تقدمها جمعية كتّاب سيواني بولاية تينيسي، وكانت ضمن القائمة القصيرة لجائزة كاثي فيش المقدمة من موقع «سموك- لونغ» الشهير للقصص القصيرة جدًا.

تغير – ج. روبرت لينون

بينما يموء قطنا بسعادة متكورًا في حضني ذات ليلة إذ لاحظتُ أن طوقه متجعد بطريقة ما، وأثناء عملي على تسويته لمحت بطاقة التعريف المتدلية منه. كانت البطاقة المتلفة قرصًا معدنيًا مدموغًا يفيد بأن اسم القط “فلافي”.

لكن اسم قطنا “هوراس”. بعد مواصلة القراءة، اكتشفت أن البطاقة تشير إلى عنوان في شارع قديم في قرية بعيدة، سبق أن سكنا فيه بصفة مؤقتة وليست دائمة.

فكرت في الأمر قليلًا، وانتهيت إلى أحد احتمالين يشرحان ما حدث. أحد الاحتمالين أنه حين كنا في تلك القرية البعيدة، بدَّل أحدٌ طوق قطنا بطوق آخر من باب صنع مقلب. أما الآخر، فكان أننا استولينا بالمصادفة على قط أحدهم وهجرنا قطنا.

في البدء، نفيت الاحتمال الثاني، لأنه قد مضت خمس سنوات منذ عشنا في تلك القرية وكان هذا القط يشبه قطنا إلى حد كبير، وأن القرية التي نعيش بها بشكل دائم صارت موطنه؛ لكن ما إن أمعنت التفكير حتى أدركت انعدام احتمالية حدوث مقلب من نوع تغيير الطوق، وفي نفس الوقت بدأت أتذكر التغيرات التي اعترت شخصية قطنا خلال وقت الانتقال، التي افترضنا – بشكل طبيعي – أنها أحد عواقب الانتقال إلى مكان آخر فقط، لكنها صارت الآن عواقب الاستيلاء على قط مختلف تمامًا.

نهضت مباشرة واتصلت على رقم الهاتف المطبوع على البطاقة، فأجابت امرأة. سألتها عما إذا فقدت قطًا اسمه “فلافي”، وبعد صمت طويل ردت بالإيجاب وأنه كان لديها منذ عدة سنوات، وهل لديَّ أي معلومات عنه؟ فأخبرتها أني وجدت طوقه مفصولًا، وهل ترغب مني إرساله إليها؟ بعد صمت مؤثر، طلبت مني المرأة أن أباشر ذلك، وفعلته في اليوم التالي. كما طلبت بطاقة جديدة مطبوعًا عليها اسم “هوراس” عبر كتالوج لمستلزمات العناية بالحيوانات.

على أنني لم أعد أعتبر ذلك فعلًا جبانًا، إلا إن الشك قد اعتراني لعدة أسابيع؛ أما الآن، فآمل فقط أن “هوراس” الحقيقي لدى عائلة لطيفة.

ج. روبرت لينون

أستاذ الكتابة الإبداعية في جامعة كورنِل، وأحد أهم الأسماء الشابة اللامعة في الأدب الأمريكي المعاصر. صدرت له ثمان روايات ومجموعتان قصصيتان. من أعماله «بروكِن ريفر»، «مألوف»، «ساعي البريد»، «المضحكون»، «قطع لليد اليسرى»، «أراك في الجنة».

الفكرة – روبرت لوبيز

كانت لدي فكرة ذات مرة، لكنها ذهبت الآن. كانت تلك الفكرة تتعلق باستعمال جديد للمراوح الكهربائية. يحدث ذلك لي أحيانًا، إذ أنسى الأفكار مثلما نسيت اسمي. أظن ان اسمي على وزن اسم طائر، لكني لا أعرف ما الطائر. أنا جاهل تمامًا بالطيور. جزء من المشكلة أني مصاب بعمى الألوان، لكن الأدهى أني لست مثل بقية المصابين؛ فهم يرون طائرًا أزرق محلقًا على أن لونه أخضر، والفرق أنهم يعلمون بأن الطائر ليس أخضرَ، في الواقع لأنهم يعرفون أن كل أخضر يرونه إنما هو بلون أزرق، فالأخضر أزرق بالنسبة لهم والأزرق أخضر في معظم الأحيان. إن كنت مصابًا بعمى الألوان فسيكون هذا حالك. أما أنا فلا أستطيع رؤية اللون الأخضر أو الأزرق، إذ كل الطيور تبدو متشابهة بالنسبة لي. كلها بلا ألوان. ذهبت إلى أطباء العيون، لكنهم لا يستطيعون معالجتي. يقولون إن هناك مشكلة في قرنيتيَّ وعلي استئصالهما وزرع قرنيتين جديدتين. سألتهم عن سبب حدوث ذلك لي، لكنهم لم يقدروا على الإجابة. أعتقد أن ما حدث ذات ليلة أني أويت إلى الفراش، وكان كل شيء على ما يرام واستيقظت في الصباح التالي مصابًا بعمى الألوان على هذه الحالة، وما أذكره أني نظرت من حولي في أرجاء الغرفة متسائلًا عمّا جرى للجدران والسجاد. لكن حتى هذا ليس مهمًا؛ فمن الصعب دومًا التفرقة بين المهم وغيره حين تصاب بعمى الألوان. المهم فكرتي عن المراوح الكهربائية. حلت عليّ تلك الفكرة قبل أن أغرق في نومي وأحلم بكابوس. حتى كوابيسي بلا ألوان. لكن ذلك ليس مهمًا مثل كل شيء آخر، لذلك دعونا ننسَها الآن وننسَ كلَّ شيءٍ آخر عدا فكرتي التي نسيتها أصلًا ذات مرة. أعتقد أني لو كنت مصابًا بعمى الألوان كما أصيب به الآخرون لكنت قد استيقظت في الصباح التالي وتذكرت فكرتي عن المراوح الكهربائية، لكن الحقيقة المحزنة أني لست مثلهم؛ ولذا ذهبت الفكرة إلى الأبد مثل الريح. أظن أني سأتذكر اسمي يومًا ما، لكني لا آبه بشأنه كثيرًا، ولو خُيِّرت بين تذكر اسمي أو فكرتي عن المراوح الكهربائية فلن أفكر بينهما أساسًا. والآن، أحاول تذكر اسمي كل مرة حين آوي إلى الفراش، لكني دومًا أفشل وأنام قبل أن أفلح، وحين أستيقظ لا يمكنني التفكير بأي استعمال آخر للمراوح الكهربائية، غير وصلها بقابس في الجدار، وتركها تنفخ على كل شيء آخر بلا لون في الغرفة.

روبرت لوبيز

روائي وقاص أمريكي، يعمل إلى جانب الكتابة أستاذًا بجامعة كولومبيا وكلية باين مينور، وظهرت أعماله في العديد من المطبوعات الأدبية في الولايات المتحدة. من أعماله «جزء من العالم»، «أناس طيبون».

تدوين الملاحظات – كيري كولين

كتبتُ كل كلمة قالها الطبيب، ووضعت مكان نحنحاته نجمات صغيرة، وأقواسًا مكان وقفاته، وعلامة شرطة طويلة مقابل كل تعليق على ما قال. حين مرر يديه عبر شعره المتموج، رسمتُ سلسلة من المنحنيات تتدلى من حواشي الورقة. وفوق ذلك، بعض تعبيراته، كالتكشيرة محل جملة “صرع محتمل”، وهز الكتفين مقابل جملة “نتائج غير قطعية”، وهكذا. كما غير الضماد على رأسك، ولذا قصصتُ مربعًا من القماش الذي علقتْ به خصلة من شعرك في الشاش بفعل الدم، ثم ألصقتها في الضماد الجديد.

حين غادر، شاهدنا ثلاث حلقات من مسلسل تلفزيوني لا بأس به على جهاز “آي-باد”، ثم دونتُ ضحكاتك: كانت قهقهتين، وأربع عشرة ضحكة مكتومة، ومزيجًا سريعًا بين ابتسامةٍ متكلفة وتنهيدة. وعندما تثاوبتَ، عصرتَ يدي وعبرتُ عن ضغط تلك العصرة بتمرير قبضتي لتترك أثرًا في صفحة الكتابة. لن تتذكر أيًا من ذلك لاحقًا. أما أنا فبالكاد أتذكر ما جرى هذا الصباح: أذكر فقط أنني حين كنت في ذلك القطار، وكتبت “ماما مستشفى ماذا أفعل” على محرك بحث غوغل، اقترحت المنتديات عبر الإنترنت أن عليَّ تدوين الملاحظات.

ولمّا نمتَ، تجولتُ في الممرات المضاءة بمصابيح الفلورسنت بينما ألتقط صورة لكل ممرضة في النوبة بعدسة البولارويد، وأضع كل صورة من تلك الصور بين الصفحات، ثم خرجتُ نحو المواقف وأخذت أثرًا من الغرافيت يعود إلى مطاط عجلة سيارة الإسعاف التي أحضرتك إلى هنا أثناء نومي، وحدثتُ النجوم بلا تصنع عن رؤيتي العميقة تجاه تزجية الوقت، ثم سجلتُ ضوءها الخافت باستخدام خرّامة مستعارة من مكتب فارغ. عدتُ إلى غرفتك مع كيس رقائق بطاطس من آلة بيع. كنتَ ما تزال نائمًا، وفمك عبارة عن فجوة مظلمة. رذذت الملح على أغطيتك بينما أقرأ ما جرى في يومنا وأستنتج بعض التوضيحات بأثر رجعي. إنني أبقيك في أمان.

لماذا لم أخض سباق ترجمة نص للكاتب عبد الرزاق قرنح؟

الفائز بجائزة نوبل لهذا العام.

صباح الخير،

الاجابة بشكل مختصر هي رفضًا لما حدث وكنت متأكدًا من أنه سيحدث رغم أنه لا يعلم الغيب إلا الله. أربعة ترجمات، أربعة أعمار أنفقت لترجمة نفس النص فقط لأجل السبق لا أكثر. رغم ما قد يجلبه ذلك من أخطاء قد تنال من سمعة الكاتب والمترجم الجاد.

هنا الترجمة الأولى، والترجمة الثانية، والترجمة الثالثة، والترجمة الرابعة.

على أني لا أعلم إن كان الأربعة يتقاضون مقابلًا لترجماتهم (ولا يهمني)، إلا أن الموضوع مضحك، فالرجل لديه من القصص والروايات والجهود الأكاديمية الكثير، لكن الولع بالسبق والمادة القريبة المجانية يجعل من الوضع مهزلة، بينما يفترض بالابداع الشخصي عمومًا والأدبي خصوصًا أن يمثل الشخص وما يعتنقه من أفكار وما يراه من مستوى أدبي، ولا يبحث عن إعجاب وقراءات من وراءه أو يجعل منه مجرد نشرة أخبار، فلهذه الأمور أهلها.

على أي حال، هنا تصريحي في جريدة الرياض ما إن فاز بالجائزة.

“أعترف أن الأمر مفرح قليلًا على المستوى الشخصي لأني أتشارك بعض الانتماءات معه. أما مجهوليته لدى القراء العرب فليست حصرًا بهم، إذ لا يُعرف على مستوى الترجمة الى الفرنسية إلا لمامًا، وهي لغة مركزية في الثقافة الغربية؛ ولم يبع من كل كتبه في الولايات المتحدة، ذات السوق الهائل القائم بنفسه عالميًا، إلا ما يقارب ٣٠٠٠ نسخة، وهذا ما يعد عددًا مخجلًا هناك ويمكن لأي كاتب متوسط المستوى تخطيه. أما فيما يتعلق بكوني مهتمًا بذوي المستوى الرفيع ومن يجددون الأدب، فليس لي تعليق ولن يضايقني ما حدث حتى أقرأ كتاباته فتعجبني، فالفيصل عندي هو الجودة وإن فاز الكاتب بنوبل أو غيرها، فكم كاتب فاز بنوبل ولم يعجبني، وكم من كاتب لم يفز بنوبل ويحبه الجميع.”

علمت أن دار أثر نالت حقوق ترجماته، وأبارك لهم ذلك، ولنترقب معًا ما سيُتَرجم من أدبه ونقرؤه.

الجرح – تيارا شلي

أؤكد لك منذ الآن أنها ستجرح نفسها. ستمر السكين المنشارية في لحمها مباشرة حتى تصل إلى العظم. ليس في تلك الشريحة أو التي تليها، بل بعد ثلاث شرائح من الآن، سيخرّ رأس اصبعها الذي على الطماطم دمًا فوق لوح التقطيع بأكمله، وستحمل يدها وتحدق مرعوبة بينما ينزّ على قماش فستانها المشجّر.
لا تعرف ما سيحدث الآن، لكن سينقضي المساء – الذي يفترض أن تمضيه في انحناءات صينية لأقاربها – في غرفة انتظار بمستشفى بارد ذي جدران زرقاء على تقاطع الشارع التاسع مع شارع فورستار. قطعت شريحة من الطماطم، والآن تقرر وضعه مع الريحان. حين تفْرِق السكين جلد اصبعها، ستكون في زاوية تجعلها تتساءل عن تجربتها التي دفعتها إلى تخيلها خارج جسدها ناظرة من بعيد. لطالما دوّخها مرأى الدم، وسيكون هذا الجرح سيالًّا بحق. ستدرك بعد شريحتين أن عمها الجالس بجانب أبيها حساس تجاه الريحان. لم تعجب به قط، إذ كانت رائحته مثل قفص هامستر ودائمًا ما كان يسكر في الكريسماس. إضافة إلى أن الأطفال يحبون الريحان والطماطم، أسهل شيء يمكن إعداده في العالم. ستستغرق في التفكير لوهلة، لكن في الشريحة الثالثة سيخطر القرار ببالها “سيكون طبق طماطم وريحان. تبًا للعم تيم.”
ستضع شريحتي الطماطم الحمراء على طبق في هيئة دائرتين فوق بعضهما، يعلوهما الريحان ومرشوشتان قليلًا بزيت الزيتون، ثم ستقرر أنها تحتاج شريحة أخرى.

حوار مع إيان مكيوان

ترجمة: راضي النماصي

متى تكتب؟

في الصباح. تنقسم البشرية حسب صديقي الفيلسوف غالين ستراوسون إلى من يشعرون أنهم يعيشون في حكاية طويلة تتكشف بشكل مستمر، قصة حياة تعرض كل لحظة منّا، وإلى من يرون الوجود متقطّعًا. أنا الآن موقن بكوني أنتمي إلى المجموعة الأخيرة رغمًا عن كوني أقنعت نفسي باستمرار أنني من المجموعة الأولى. إذ جلست في مؤتمرات أدبية وقلت جُملًا من قبيل “نحن جميعًا حكّاؤو قصص بالنسبة لحيواتنا.” ومؤخرًا أدركت أني لا أؤمن بذلك، بل كنت أحاول أن أكون طيِّعًا في محاولة للانضمام [إلى المجموعة الأولى]. والآن بات بإمكاني أن أرتاح؛ فأنا ممن تُعاش حيواتهم في أجزاء منفصلة.

يمكننا بالطبع تذكر طفولتنا وغرامنا الأول وأخطائنا وما أفرحنا حين يُطلب منا، لكن تكاد حياتنا اليومية تكون منفصلة تمامًا عن أي وعي بالماضي. كما نقر بأن أغلب ذلك الماضي مفقود إلى الأبد. إذ نستيقظ نحن معشر ذوي حياة الحلقات، لا الحكاية الطويلة، في الصباح ونبدأ يومًا جديدًا. أنا ورقتي الفارغة. وبينما ينقضي اليوم، تتزاحم بداخلنا مخاوفنا المألوفة بين المحلية والمهنية والسياسية. والأمر المرتبط بمكتب الانتظار هو أن عليك النهوض وتصل قبل أن تتكرمش أيتها الورقة.

كيف تواجه حبسة الكاتب؟

أولى الخطوات إعادة تسميتها. سمّها “التردد” وستتبطل قدرتها القهرية وتتحول إلى جزء من العملية – بل جزء أساسي. فكل عمل إبداعي بحاجة إلى وقفة مثمرة في مراحل معينة. ومن النادر أن يكون هناك تواصل في الابتكار أسبوعًا بعد أسبوع. لذا: اهجر المكان واطبخ العشاء. أو ابق في المكتب، وخذ قلمًا (يُفضَّل أن يكون قلم حبر أسود)، ثم عد إلى الدفتر، أهم ما مع الشاشة، واكتب كلمة “يحتوي”. ثم دوّن بلا تفكير كل ما يجب أو يمكن أن يحتوي عليه الجزء أو الفصل التالي. بعدها اطبخ العشاء.

ما القطعة الثقافية غير الأدبية – فيلم، مسلسل تلفزيوني، لوحة، أغنية – التي لا تستطيع تخيل حياتك بدونها؟

منذ سن السادسة عشر وأنا أعيش باستمرار على موسيقى باخ، بالبيانو أولًا ثم تأتي بقية الآلات. وهي تجريدية مثلما الأدب محدد كما حال كل الموسيقى، لكن اختراعات باخ تزيد عن ذلك – مثل عمليات التفكير التي تسبق اللغة، الإنسانية بعمق دون أن تقول أي شيء على الإطلاق. أعتقد أني أواجه في موسيقاه أقصى تجلٍ للعبقرية البشرية، وتغليفها بالجمال ضرب من الجرأة والنبض المرح. فالأعمال التي أمتعتني في شبابي ما زالت تمتعني الآن، مثل تنويعات غولدبرغ أو كلافيير الرائق.

ما أفضل نصيحة تلقيتها في الكتابة؟

لمّا كنت أعيش في لندن خلال بداية مسيرتي الاحترافية في السبعينات، صادقت فيليب روث الذي أولى اهتمام العم بابن أخيه تجاه عملي. إذ حين ظن الكثير أن كتابتي غريبة وجامحة، كان يرى أن كتابتي ليست جامحة بما يكفي. إذ أتي مرة إلى شقتي ونثر مسودة عملي الأول “الحديقة الاسمنتية” على الأرض، ثم جلس يحرّك الفصول فيما بينها مستندًا على يديه وركبتيه. أراد مني أن أكون أكثر جرأة وجنونًا، إذ قال “عليك الكتابة كما لو أن والديك ميتين” وكانا حيين، فأخذت بتلك النصيحة.

.

توصيات معرض الرياض الدولي للكتاب ٢٠٢١

صباح الخير

دون خوض في التفاصيل، أنصح بالعناوين التالية:

– الرجل الذي كان يحب الكلاب، ليوناردو بادورا، المدى

– أطلس القارات الضبابية، إحسان أوقطاي أنار، صوفيا

– كتاب النوم، هيثم الورداني، الكرمة

– في غرفة الكتابة، محمد عبد النبي، الكرمة

– مفكرة عابر حدود، غازميند كابلاني، أثر

– مملكة مارك زوكربرغ وطيوره الخرافية، أحمد عبد اللطيف، المتوسط

– البشر والسحالي، حسن عبد الموجود، الدار المصرية اللبنانية

– الجيوش، ايبيليو روسيرو، كلمات

– آنا، نيكولو أمانيتي، كلمات

– فان غوغ: منتحر المجتمع، أنطونان أرتو، الرافدين

– حلقات زحل، زيبالد، التنوير

– أزمة العالم الحديث، رينيه جينو، مدارات

– عودة البحار، جورجي أمادو، الساقي

– ميثولوجيا الأيام، عبد الله العقيلي، جداول

– لماذا لا تزرع شجرة، أحمد شافعي، الكتب خان

– موسم الأوقات العالية، ياسر عبد اللطيف، الكتب خان

– وردية الليل، ستيفن كينغ، المحروسة

– حمى الذاكرة، جيوكوندا بيلي، مدارك

– إلى اللقاء.. إلى الغد، وليم ماكسويل، مدارك

– كونت مونت كريستو، ألكسندر دوما، التنوير

– كتب عيسى مخلوف عن دار التنوير

– عازف البيانو، شبيلمان، صفحة ٧

– اسمي ماريتا، سبيفيداس، صفحة ٧

– كالوكين، كارين بوي، صفحة ٧

سلوفينيا وما يأتي منها

شروخ

حدثت العديد من القصص، وهذه إحداها. لديك زوجة، وأطفال، وعمل، وسيارة، وبيت في الضواحي. يبدو أنك ستموت سعيدًا، وسيبكي أبناؤك في جنازتك، وسيأسى الجيران على رحيلك. لكن في ليلةٍ ما، بينما تقود سيارتك بسرعة لا تزيد عن المعتاد عائدًا إلى البيت خلال آخر خيوط النهار الذاوية، هناك صوت ارتطام لكونك قد اصطدمت بشيء. لم ترَ أي شيء، كان هنالك صوت الارتطام فقط مقابل سيارتك. ثم تتوقف وتخرج لترى ما الذي حصل. هناك طفل تحت سيارتك، في السابعة أو الثامنة من العمر، ولديك طفل مثله بالضبط وينتظرك في البيت، وكان من المحتمل أن يكون هذا الطفل. إنه لا يتحرك، وهناك بقعة من الدم تنبع تحت رأسه.

تشرع بالبكاء، وتقعي، وتتفقد نبضه، ولا تحس بشيء. تنظر حولك وما من أحد هناك، فالشارع خال، وتقود عبره كل يوم دون معرفة أحد، وهناك مشروع سكني رمادي متعطل. لا أحد يراك، وكل الأضواء مطفأة.

ماذا سيحدث الآن؟ ما الذي ستفعله حين يحدث مثل ذلك لك؟ فكما تعلم، لو كان الصبي يئن قليلًا، سيكون الأمر برمته هينًا، إذ ستحمله في سيارتك وتهرع به إلى المستشفى أو تتصل بسيارة إسعاف؛ لكن فات الأوان كما ترى. وحين تهدأ قليلًا ستلاحظ أن أنوار الشارع لم تعمل حتى الآن، ولا ترى أي سيارة فيه. تلتفت وتنظر من حولك لتتفقد إن كان هناك شخص قادم أو يراقب مختبئًا خلف مكبات القمامة، لكن ما من أحد في المكان.

ترغب بالاتصال بأحد، لكن من؟ إلى جانب أن بطارية هاتفك فرغت فجأة، وبت تدرك بأن ما من أحد سيجيب حتى لو كان يعمل. تنظر إلى الطفل مرة أخرى. يبدو أنه كان يرقد هناك منذ ساعات، بما أن وجهه غدا بلا لون، فالدم في رأسه قد جف. تجيل النظر من حولك مجددًا، فتبدو المباني آخذة بالانهيار، وتظهر شروخ كبيرة في سماء الليل قد تتسرب منها الهاوية في أي لحظة. ما زالت مفاتيح السيارة في يدك، فتنظر إليها وإلى سيارتك، وتدرك بأنها لن تتحرك مرة أخرى. فترمي المفاتيح فتهوي إلى الظلام تحتك، حتى إنك لا تتفاجأ حين لا تسمع صوت ارتطام المعدن بالإسفلت. ما من صوت في أي مكان. لا كلاب تنبح أو أجهزة تلفاز مشوشة أو هواتف ترن. تقعي باتجاه الطفل مجددًا. إنه يتقلص أكثر فأكثر ويذوي أكثر فأكثر، تنظر إلى يديك وتنتظر الشروخ حتى تظهر عليها. فتفكر: كانت لدي زوجة وأطفال، وبدا أني سأموت سعيدًا. ستحدث الآن أمور مختلفة. لا تنتهي العديد من القصص نهاية سعيدة، وهذه القصة إحداها.

أندري بلاتنك

كاتب ومترجم سلوفيني معاصر، وأحد أرفع المؤلفين شأنًا في بلاده منذ جيل الثمانينات في فن الرواية والقصة القصيرة والمقال. من أعماله «قانون الرغبة»، «متاهة ورقية»، «شريعة الطاو للحب»، «قضمات».

مقال وقصة

صباح الخير

تلقيت دعوة كريمة من جريدة «القافلة» الأسبوعية، الصادرة عن شركة أرامكو السعودية، لكتابة مقال في أحد أعدادهم المميزة، وقد نشروه مشكورين ضمن عدد اليوم، والرابط من هنا. يطيب لي في هذا المقام شكر أستاذنا عبد الوهاب أبو زيد على تحريره المتميز في كل مرة لدرجة تبعث الحياة في ما أكتبه.

أما القصة فنشرتها لدى حساب «أدب»، ورابطها من هنا.

قراءة ممتعة!

مكان واحد وزمانان

صباح الخير،

سعدت بتسليم ترجمتين لأديبين من الولايات المتحدة في زمنين مختلفين، أولهما عاشت في بداية القرن العشرين، وآخرهما أبدع في القرن التالي.

أولهما ويلا كاثر، والرابط من هنا. أما الآخر فمكسيم لوسكوتوف، ورابطه من هنا. إضافة إلى نص قصته.

البحيرة

ذات مرة، كانت هناك قرية تطل على بحيرة. ولم يكن هناك وحش أو غول مخيف يتربص في الأعماق. لا شيء أكبر من أسراب سمك البلمة العابرة والضفادع الموسمية. كان بإمكانك النظر حتى في منتصف البحيرة إلى الأسفل قرابة مائة قدم حيث يوجد القاع الصخري.

لم يثق رجال القرية بالبحيرة، إذ جعلتهم يتوترون. كانوا يصطفون في الخارج ويحدقون في الأعماق ورماحهم جاهزة بانتظار شيء كي يظهر، لكن لم يحدث شيء طبعًا.

زاد قلقهم يومًا بيوم وشهرًا بشهر. فرفضوا الصيد والنوم والرقاد مع زوجاتهم. حدقوا في الأسفل داخل البحيرة. قالوا إنها مثل نوم بلا أحلام. ونظرًا لأنه لا يستطيع شرح الموت بلا إله، طُرد الكاهن من القرية.

بينما كان الرجال يجلسون مجتمعين في قواربهم إبان أبرد ليالي العام ، مشت أخيرًا امرأة إلى داخل البحيرة. كانت ترتدي فستانًا أبيض بحجارة حيكت في القماش، وثقيل لدرجة أنها بالكاد ترفع ذراعيها. مشت حتى غرقت تحت السطح وانجرفت نحو القاع حيث رقد جسدها الشاحب الجميل.

غمرت الراحة الرجال، وباتوا يقولون للزوار الذين يعبرون القرية “احذروا؛ ثمة امرأة مجنونة في البحيرة، يمكنكم سماع صوتها ليلًا.”

كل يوم – لينور غوراليك

اقتنت البارحة آلة إعداد اسبرسو وخمسة أكواب قهوة متطابقة: كبيرة وثقيلة وغالية بشكل بشع، لكنها لم تأسف على المال. فها هي كل الأكواب واقفة أمامها في صف قصير، وكل من تلك الأكواب مليء بالاسبرسو وعلى طبقه المخصص. كانت لديها بعض الشكوك حيال رغوة الحليب المصبوبة بعناية باستخدام ملعقة صغيرة مخصصة، إذ بدت كثيفة للغاية بالنسبة لها، لكنها قررت أنها أفضل مما لو كانت تلك الرغوة أقل من اللازم. أفسدت صبّ الكوب الأول حرفيًا خلال ثانيتين، إذ اهتزت اليد التي تحمل الملعقة الصغيرة، وصار الخط الذي يفترض أنه يمضي بداخل بتلة زهرة بنية كبيرة على طبقة الرغوة البيضاء متعرجًا. في الكوب الثاني، حاولت أن تصنع بتلتين من أربعة قبل أن تبدأ الرغوة الطفو فوق حافة الكأس. رن الهاتف أثناء إعداد الكوب الثالث.

  • “نعم.”
  • “السيدة دارنتون؟”
  • “صحيح. معك السيدة دارنتون.”، ثم مر الهاتف بفترة صمت.
  • “يا سيدة دارنتون. معك المحقق ميلفرز. لقد تحدثنا البارحة.”

فقالت بأسلوب ودود “صحيح. أتذكر ذلك تمامًا.”

ثم مر الهاتف بفترة صمت أخرى، فأكمل: “والليلة التي قبلها أيضًا.”

فوافقته دون اعتراض “والليلة التي قبلها”، وهي تربت بنعلها على كعبها دون صبر، إذ كانت الرغوة على وشك التفكك، وسيكون عليها البدء من جديد.

  • “يا سيدة دارنتون، أخشى أنك لا تفهمينني. لقد عثرنا على جثة، ونعتقد أنها جثة زوجك، ولا بد أن تأتي إلى هنا لتحديد ذلك.
  • “بالتأكيد، سآتي اليوم حتمًا.”

فيلم بديع

على أني لست من عشاق أفلام الزومبي وأفلام الكوارث بشكل عام، إلا أني البارحة شاهدت أحد الأفلام البديعة التي لا يمكن حصرها بهذا النوع، وإن اتسم ظاهريًا بسماتها.

الفيلم “قطار إلى بوسان” من إنتاج كوريا الجنوبية، وأدعوكم إلى مشاهدته بضمير مرتاح.

ليلة ممتعة!

ملصق الفيلم الدعائي