من تاريخ الفاصلة المنقوطة (؛)

صباح / مساء الخير،

x400

منذ عرفت التدوين، أو بالأحرى الكتابة خارج المنهج المدرسي، ما فتنتني علامة باستخدامها مثل الفاصلة المنقوطة بمرونتها وإمكانيات استخدامها. ولذا، فرحت كثيرًا بصدور كتابٍ عن تاريخها ونشأتها.

صدر الكتاب قبل شهرين بعنوان «الفاصلة المنقوطة: ماضي وحاضر ومستقبل علامة ترقيم مظلومة» للأكاديمية الأمريكية سيسيليا واتسُن، المؤرخة وأستاذة الكتابة وفلسفة العلوم بكلية بارد بولاية نيويورك في الولايات المتحدة.

وفي ما يلي، ترجمة لمقطع من الكتاب.

قراءة ممتعة!

ميلاد الفاصلة المنقوطة

pg-12-illustration

 

أبصرت الفاصلة المنقوطة النور في فينسيا عام 1494، وكان القصد منها أن تبين مسافة توقفٍ في مكان ما بين الفاصلة والنقطة، وقد انعكس هذا الإرث في شكلها الذي يجمع النصف من كلا العلامتين. لقد ولدت علامة الترقيم هذه في زمن التجريب والاختراع في الكتابة، زمن لم تكن فيه قواعد للإملاء، ويتبنى فيه القراء علامات الترقيم الجديد وينبذونها باستمرار. وتسجل النصوص المطبوعة والمكتوبة باليد محاولات طبقة المثقفين في القرن الخامس عشر – المعروفين بـ”طلاب الدراسات الإنسانية الإيطاليين” – لتجربة علامات الترقيم وتعديلها، فقد وضعوا تقديرًا خاصًا للفصاحة والإتقان في الكتابة، ونادوا من أجل دراسة النصوص الكلاسيكية الإغريقية والرومانية وإعادة تدوينها بحيث تصبح طريقًا “للإحياء الثقافي” عقب العصور الوسطى المظلمة. ولخدمة هذين الهدفين، قاموا بنشر نصوص جديدة وأعادوا إملاء النصوص الكلاسيكية وطباعتها.

كان أحد هؤلاء، وهو طابع الكتب وناشرها ألدوس مانوتيوس، أول من قرن بين الفاصلة والنقطة كي يخترع الفاصلة المنقوطة، وأول نص أدبي لاتيني نشره باسم “دا إتنا De Aetna ” لمعاصره بييترو بيمبو، بصيغة مقالٍ مكتوب على هيئة حوار حول تسلق جبل إتنا البركاني في إيطاليا، وعلى صفحات ذلك المقال توجد علامة ترقيم هجينة ومصممة خصيصًا لهذا النص على يد مصمم الخطوط البولوني فرانسيسكو غريفو: أي الفاصلة المنقوطة (التي اخترع غريفو نسخة سمينة جميلة منها) المنثورة هنا وهناك عبر النص، في تعاونٍ مع الفواصل والنقاط والأقواس لمساعدة القارئ.

pg-15-1

في هذه الصورة، يمكنكم رؤية أربعة من تلك الفواصل المنقوطة الجديدة على ذلك الزمن. قد تعتقدون أنكم ترون ثمانية، لكن انتبهوا! فما يبدو فاصلة منقوطة في آخر السطر الرابع من الأسفل ليس كذلك، بل اختصار لكلمة que باللاتينية وتعني “و” العطف. في هذه الحالة، من المفيد اختصار neque بنفس اللغة، وتعني “ليس كذلك أيضًا.” تظهر تلك العلامة مرة أخرى في المقطع، مالئة فراغ -ue من كلمة que . وإن نظرتم عن كثب، سترون أن دمج النقطة والمنحنى مرتفع قليلًا عن مستوى الفاصلة المنقوطة. فهي موضوعة بالمساواة مع مستوى الكلمات لأنها اختصار كلمة بدلًا عن كونها إشارة توقف.

pg-16-1
ما إن جف حبر تلك الفواصل المنقوطة الأولى حتى بدأت بالتكاثر، وتبنتها عوائل خطوط اليد الجديدة بحكم المسلم به. فالفاصلة المنقوطة الطويلة الظاهرة في خط بيمبو كانت الأصل الظاهر في مقال “دي إتنا”، بنصف الفاصلة المرسوم بشدة وذيلها الحاد تحت الدائرة المرسومة باتقان في الأعلى. أما الفاصلة المنقوطة في خط بوليفيلوس، التي تبدو ساكنة وغير واضحة، تبدو عادية الوقع بالمقارنة مع الأولى، وكأنها أحد شخصيات رسام الكاريكاتور كيث هارينغ أثناء الراحة من الاهتزاز في رسوماته. وفاصلة غاراموند المنقوطة حذرة وعنيفة وأنيقة، برأس الكوبرا لديها المتوجه للخلف من أجل الهجوم. أما فاصلة جيمسون المنقوطة فتبدو مثل شهاب عابر. وقد أنشأنا في هذا الزمن عددًا من الفواصل المنقوطة بسمات مميزة للانتقاء منها، فتبدو التي لدى بالاتينو مثل شابة نحيفة متواجدة أمام جدار في حفل وترتدي قبعة قبعة كبيرة، بينما التي لدى جيل سانز م. ت. مظهر مثالي، وتعبر ما لدى ديدوت عن مكنونها بخيلاء. (ولم يفلح أي من تلك الأشكال المتنكرة في إقناع الكاتب ما بعد الحداثي، دونالد بارثلمي[1]، في إخفاء فظاعة الفاصلة المنقوطة بالنسبة له، إذ كانت مثل ما يقول “قبيحة، قبيحة، مثل ندبة على بطن كلب.”)

نجحت الفاصلة المنقوطة في غزو حاملات الحروف في أفضل مطابع أوروبا، على عكس العديد من علامات الترقيم المستحدثة؛ إذ جرب المنشغلون بالآداب الإنسانية العديد من أفكار الإملاء الجديدة، لكن أغلب تلك العلامات عاشت لفترة قصيرة. تبدو أحد النصوص المطبوعة التي ظهرت في زمن ميلاد الفاصلة المنقوطة وكأنها مكتوبة بلغة سرية، إذ أنها مليئة بالنقاط الغامضة وعلامات الشرطة الأفقية والشاقولية والمنحنيات. وكانت تلك العلامات لأدق الفروق وتستخدم في أكثر المناسبات خصوصية. فمثلًا، كان هناك ما يسمى punctus percontativus، أي علامة استفهام بلاغية، على شكل علامة الاستفهام العادية إذا عُكست في المرايا. فلماذا عاشت الفاصلة المنقوطة وازدهرت في حين لم تقدر العلامات الأخرى على ذلك؟ لربما بسبب أنها مفيدة. إذ وجد القراء والمؤلفون والطابعون أنها تستحق عناء وضعها، بينما فشلت علامة الاستفهام البلاغية ثم تلاشت بالكامل. وهذا ليس مفاجئًا بشدة: فهل يحتاج المرء علامة ترقيم خاصة لمعرفة ما إذا كان السؤال بلاغيًا؟

في زمن الإنشغال بالعلوم الإنسانية، مثلما يحدث في زمننا، تنبأ الحكماء الحزانى بكارثة أدبية تنشأ من تعامل متهاون تجاه علامات الترقيم. إذ كتب مرة أحدهم إلى آخر في فرنسا

لا يخفاك مدى النقص المهول في الكتاب الأذكياء هذه الأيام، وفوق كل شيء، وضع تلك الأشياء التي تبين درجة إتقان الأسلوب، من علامات ونقاط التوضيح التي يمر بها ولولاها لكان المكتوب همجيًا وغير مفهوم، بين نقاط رأسية، وفواصل مفصولة، ونقاط نهايات الجمل …. فأي إهمال حديث، وهذا رأيي، قد حل بقدر كبير، منذ أن افتقدنا أناقة الأسلوب الضرورية لمثل تلك الأمور بزمن طويل، أقصد الكتابة القديمة باليد، التي توضع فيها نصوص الكتب antiquarii بدقة مع إملاء دقيق، التي ماتت بموت فن التعبير (dictatu).

إذن، لقد مات فن التعبير بكامله لأن الكتاب المهملين لم يبرعوا بخصوص الإملاء. حسنًا، أعتقد أننا المحدثون قد نستطيع القول بأن فن التعبير منحنا بضع أعمال أدبية لائقة حتى بعد تلك الرسالة من القرن الخامس عشر. لكن نبرة الفرنسي مألوفة، أليس كذلك؟ الناس لا يتقنون الإملاء بشكل صحيح، وأناقة الأسلوب تحتضر وتذوي.. Plus ça change [2]…

ومع ذلك، ورغمًا عن الشكاءين القلة، فقد آمن أغلبهم بأن على كل كاتب اختراع الإملاء الذي يخصه بدلًا عن استعمال قوانين موضوعة سلفًا، ولكل كاتب أو قارئ متمرس ممارسة تذوقه الخاص وإطلاق حكمه. وقد عاشت فكرة الإملاء الشخصي لما يزيد عن حيواتهم وامتدت إلى أبعد من النصوص اللاتينية التي طبعها مانوتيوس، عابرة المحيطات والقارات، واستمرت بوصفها طريقة للتفكير بإتقان الإملاء خلال القرن الثامن عشر.

[1] كاتب أمريكي (1931-1989) – المترجم
[2] مثل فرنسي ورد بصيغته الأصلية في النص الأصلي، ويعني “بعض الأمور لا تتغير أبدًا”. – المترجم

رأيان حول “من تاريخ الفاصلة المنقوطة (؛)

  1. أتذكر كتبت مقالاً عن النقطة و الصفر، تشابه الشكل والفعل والمعنى، لا أستطيع إيجاده الآن بسبب أنني كتبته في موقع قبل ١٠ أعوام، أقفل الموقع ولا أملك نسخة منه، والآن عادت مشاعري بالتذكر عند قراءتي لهذه التدوينه التي يستهويني كثيراً موضوعها. شكراً لك راضي.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s