كل عام وأنتم بخير. هنا نصوص قصصي مع «أدب» حتى الآن. آمل الإشارة أو المراسلة في حال الرغبة بنقلها إلى موقع/مدونة أخرى مع ذكر عبارة “ترجمة: راضي النماصي”
قهوة – إدغار عمر أفيليس
ترشف أول مرة من قهوتك، فتلاحظ أنها ليست القهوة، بل أنت؛ إذ تشرب نفسك مع كل رشفة لذيذة: أولًا رجليك، فبطنك، فصدرك، فوجهك، ثم أحلامك. ويبقى الكوب الفارغ على الطاولة، أو على الأريكة، مثل عدة أكواب أخرى.
مشهد ختامي – إدغار عمر أفيليس
بعد مسح العرق باستخدام منديله، اختنق حتى الموت أمام الجمهور. هكذا عرفوا أنه ليس دجالًا، إذ محا الساحر وجهه بالخطأ.
النبضة الأخيرة – إدغار عمر أفيليس
يكشف العجوز في كرسيه المدولب عن ابتسامة درداء ريثما يضع ابن حفيده بين ذراعيه. فتهل الدموع على وجهه المتغضن ما إن يرى خدي المولود الممتلئين وبشرته الناعمة وعينيه الفائضتين بالنور. وفجأة، يعجز عن البوح بعجزه حين نبض قلبه لآخر مرة. فيبتسم الطفل ويشد لحية الميت توقًا لبدء استخدام المشاية ثم المشي مجددًا.
التعريف بالكاتب:إدغار عمر أفيليس (١٩٨٠ – الآن) كاتب مكسيكي، حائز على عدة جوائز إقليمية ووطنية في مجال القصة القصيرة، ونُشرت له قصة في مجلد “أفضل القصص المكسيكية” لعام ٢٠٠٥، إضافة إلى وجوده في أنطولوجيا القصة الومضة العالمي من إصدار دار نشر نورتون.
عطاس في القطار – ليديا ديفز
يعطس الشاب الآسيوي بفارق صف إلى الأمام في الجهة الأخرى من القطار. يقول الرجل في المقعد خلفه “بوركت” بصوت واضح لكن ليس عالٍ. يبدأ الآسيوي العطس مرة أخرى، ويبدو خائفًا، لكنه لا يلتفت. ثم يعطس الرجل في المقعد خلفي مرتين بسرعة. أنتظر الرجل الكائن في الجهة الأخرى كي يشمته أيضًا لكنه لا يقول شيئًا. يعطس الآسيوي مرة أخرى، لكن بهدوء، كاتمًا عطسته باستخدام منديل ووشاح، ثم يدير رأسه ببطء إلى ما يكفي للنظر خلف كتفه حذرًا إلى الرجل القابع خلفه، الذي يستمر بالصمت. بعد ذلك بكثير في الرحلة، كان الآسيوي قد رحل من القطار منذ مدة طويلة، وصارت امرأة مكان الرجل خلفي؛ والآن تعطس المرأة أربع عطسات صغيرة حادة مكبوتة متعاقبة، تتلوها خامسة في ما بعد. ومرة أخرى، لا يقول الرجل في الجهة الأخرى من ممر القطار شيئًا. إما أنه لم يعد يهتم بينما يجلس منحنيًا ومتفحصًا شاشة جهازه، وإما أنه يحس بأن كلمة “بوركت” واحدة مقابل كل رحلة تكفي.
تعريف: ليديا ديفِز (1947 – الآن)، كاتبة ومترجمة أمريكية اشتهرت بقصصها المقتضبة جدًا، وأسلوبها التجريبي في كتابة القصة والشعر، وتلاعبها اللغوي، لدرجة أن بعض القصص لا تتعدى الفقرة أو الجملة. وقد حازت على عدة جوائز عالمية، منها جائزة المان بوكر الدولية عام 2013 وجائزة لانان للأدب – فرع القصص والروايات عام 1998. من أعمالها «نهاية القصة» (رواية)، «لا أستطيع ولن أفعل» (مجموعة قصصية)، «تنويعات الانزعاج» (مجموعة قصصية)، «المرأة الثالثة عشر» (مجموعة قصصية). بالإضافة إلى أنها قد جمعت كل ما نشرته من قصص في مجلد واحد عام 2009.
«أشياء مفقودة» للكاتب النيجيري إدون مادو.
تختفي الأشياء طوال الوقت في بيتنا. نجلس في المساء على الأريكة [الموجودة] خلف منزلنا ومقابل حقل الحشائش الطويلة الممتد بضعة أميال أمامنا. ما من أحد سواي وأخي الصغير كايتو فقط، ورائحة العشاء تعبق في الهواء من حولنا. ستنادينا أمي إلى العشاء قريبًا لكن علينا إنهاء لعبتنا، هذه اللعبة التي نلعبها بين عشية وأخرى.
قاعدتا اللعبة بسيطتان؛ التقط شيئًا وارمه بأقصى ما تستطيع نحو الأجمة أمامنا، ثم نرى مسار المرميِّ فنحدد من الفائز. كانت هذه القاعدة الوحيدة حتى هذا المساء، فغالبًا تكون الأشياء المرمية مما لا نرغب في رؤيته في المنزل أبدًا، مثل العصا التي يستعملها أبي ضدنا، أو علب السجائر التي تخفيها أمي في درج البناطيل؛ وهذا سبب اختفاء الأشياء في منزلنا طوال الوقت. أعتقد أن الحماس يغلب كايتو أثناء وقوفنا هناك رامين كل ما نقدر على الحصول عليه. لا أرى ذلك قبل رميه، لكن ما إن أنظر إلى الأعلى كي أحدد مسار قذيفته ثم أعلن فوزي – لأني أفوز دائمًا، فذراعاه ضعيفتان ولا يقوى على الرمي بتلك القوة –، أنتبه أن قذيفته هي دميتي الماتريوشكا الروسية. هدية من أبي، من زمن كان يرتحل فيه للعمل، زمن ما قبل فقدانه وظيفته وبدئه السُّكر وضربي أنا وأمنا، زمن ما قبل نطق كايتو.
“لماذا رميتها؟!” الغضب في صوتي ليس خفيًا، وأحس بحرارة في حلقي.
“لكنك قلت إنني أستطيع رمي أي شيء…” ينبؤني الارتباك على محياه أنه لا يفهم أيضًا سبب غضبي، لأنني لم أذكرها ضمن القواعد.
أقول له “اذهب داخل الأجمة، اذهب والتقطها الآن” مشيرًا بسبابتي نحو الحشائش الطويلة.
أراقبه ريثما يمشي ببطء نحو الحشائش ببطء ولا أراه مجددًا. تختفي قبعته الحمراء القانية ومعطفه البرتقالي في خضرة الحشائش الطويلة المتمايلة ولونها البني.
يقول “ثمّة حفرة يا رومي”، ويشوب الفرح كلامه، “كل ما رميناه هنا. تعال وانظر.”
أتردد لكن سرعان ما أبدأ الانطلاق باتجاه صوته، ويضحك ريثما أقترب. أصل إلى حيث كنت واثقًا من مكان صوته حيث مساحة جرداء ولا حشائش تنمو فيها. أنظر حولي باحثًا عنه لأني بدأت أسمع أمي تنادينا. أناديه فأسمع ردًا خافتًا. إنه يصدر من المساحة الخالية، من حفرة صغيرة في الأرض.
تعريف بالكاتب:إدون مادو، كاتب نيجيري شاب. نشرت أعماله في العديد من المجلات الأدبية، وتأهلت إلى القائمة الطويلة لأكثر من جائزة أدبية في بلاده.
«البيضة» – مكسيم لوسكوتوف
البيضة
قبل عدة سنوات، في مدينة تشبه هذه كثيرًا – برغم أنها أكبر وأكثر ازدهارًا –، قتل رجل جاره. ارتُكبت الجريمة باستخدام مطرقة أو كرسي أو أداة أخرى صماء، وذلك إما صباحًا وإما عصرًا. ثم قطّع الرجل الجثة إلى أجزاء، وغلف كلًا منها بالبلاستيك، ولعله حشرها في الثلاجة بقرار ألّا يفتحها مجددًا. بعد بضعة أسابيع، إثر اعترافه، اكتشفت الشرطة الجثة على حالها. أخبر المحقق المراسلين المجتمعين لتفاصيل الجريمة قائلًا “كانت ممتلئة جدًا لدرجة أنك لن تستطيع وضع بيضة. ولا حتى بيضة.”
وفي النهاية هذا كل ما تتذكره؛ لا اسم المجرم ولا ضحيته ولا سبب الجريمة أو أسلوب القتل أو السلاح. حتى تلك المدينة الضخمة التي أمضيت شبابك فيها تلاشت من الذاكرة، مثلما تلاشت حبيباتك هناك منها. لكن الثلاجة المملوءة لدرجة أنها لا تكفي حتى البيضة ستبقى، أما أنت فستتساءل عمّا إذا كانت غرابة العالم نظرًا لرؤيتك تجاه الماضي، أو أنك كنت مخطئًا بشكل ما.
مكسيم لوسكوتوف: كاتب أمريكي شاب، حازت مجموعته القصصية بعنوان «تعال إلى الغرب وانظر» على جائزة كتاب العام ٢٠١٨ لدى كل من موقع أمازون وإذاعة البث الوطنية في الولايات المتحدة.
«قاتل مأجور متقاعد»
روبرت سكوتيلارو
ترجمة: راضي النماصي
استيقظ وجرّ جثثهم خارج السرير. حدّث نفسه بأن المشكلة التهاب مفاصل. تصدر الأصوات أثناء شرب القهوة (المشتبه بهم المعتادون)، حين يرتعد بعضهم مذعورًا قبل أن ينطق كلمة واحدة بفعل الرذاذ، وآخرون يتوسلون عبر عرض المال الوفير بعيون جاحظة متوترة، حدَّ أن أحدهم عرض زوجته مقابل النجاة وفرصة للخروج من البلاد.
لكن المهنة تبقى مهنة، وأي رجل هو إن لم يُعتمد عليه ويفعل ما أنيط به. نظر إلى الجريدة متنقلًا بين بعض عناوينها، وهز رأسه متبرمًا إزاء حال العالم بشفة مزمومة، ثم انتقل إلى تصفح صفحة النعي.
كانت بعض طيور الحَمَام في الشرفة بالخارج، وبدا أنها في حالة حب، فأخرج بعض الفتات، لكنها رفرفت بعيدًا، وسرعان ما ستعود. لو عاد به الزمن إلى الطفولة لدقّ أعناقها. تساءل عن احتمال معاودة جانيت الاتصال. مر اثنان وثلاثون عامًا على الفراق وما زال يشتهي منها كلمة أو كلمتين. لم تسأل أي سؤال خلال هذه السنوات قط.
عاد ماشيًا ببطء إلى المطبخ جارًّا معه بضع جثث تحكّ أحذيتها مشمع البلاط.
——
روبرت سكوتيلارو قاص وشاعر أمريكي، نشرت نصوصه في أكثر من ٣٠٠ مجلة ومجموعة قصصية مشتركة وكتاب، ويعد أحد أعمدة القصة القصيرة جدًا في المشهد الأدبي الأمريكي المعاصر.
«تطور أوليفر»
جون أبدايك
ترجمة: راضي النماصي
لم يرد والداه أذيته؛ بل أرادا أن يحباه، وقد كانا كذلك. لكن أوليفر أتى متأخرًا في زواجهما، أي في وقت كان فيه تحدي تربية طفل أمرًا غير مرغوب بالمرة. وقد أثبت أنه عرضة للمصائب، إذ وُلِدَ بقدمين مشوهتين وتعلم الحبي بقلبي تقويم يصلان إلى كاحله؛ وحين نُزِعَا منه في النهاية، بكى رعبًا لأنه ظن أن تلك الجبيرتين الضخمتين اللتين كانتا تضربان الأرض وتحتكان بها جزءًا منه.
وَجَدَاه ذات يوم خلال طفولته في خزانتهما مع صندوق مليء بكرات النفثالين، وكانت بعضها ملطّخة باللعاب. وقياسًا على ما مضى، فقد تساءلا عما إذا كانت هناك حاجة فعلًا إلى الإسراع به إلى المستشفى وغسل معدته الصغيرة المسكينة، فصار وجهه رماديًا مخضرًا بعدها. في الصيف التالي، حين تعلم المشي، قام والداه بأخذه والسباحة جميعًا في الشاطئ ريثما يبحثان عن جو رومانسي بعد صحوة أعقبت حفلة متأخرة ليلًا وشجارًا بينما كانا ثملَين، ولم يكونا بوعيهما إلى أن رأيا حارس الإنقاذ يذرع الشاطئ ركضًا تجاه أوليفر الذي كان يدرج خلفهما ثم صار يطفو على بطنه لمدة بضع دقائق مميتة بحسب المنقذ الذي لم يلمّح كثيرًا. كان وجهه أزرق هذه المرة وطالت كحَّته لعدة ساعات.
كان أقل أطفالهما شكوى، ولم يلم والديه أو إدارة المدرسة على أنهما لم يلاحظا عينه اليمنى “الخَدِرَة” في الوقت المناسب لعلاجها إلى أن نتج عن إغلاق تلك العين كون كل شيء معتمًا بقدر عضال. كان مرأى الصبي وهو يحمل كتابًا بزاوية غريبة تجاه الضوء فقط يدفع والده إلى الرغبة بالبكاء عجزًا.
وحدث أنه كان في العمر الخطأ والحساس تمامًا حين انفصل والداه وشرعا بالطلاق. كان إخوته الكبار خارج المنزل في مدارس وجامعات خارجية وفي مقتبل الرجولة وأحرارًا من العائلة، أما أخته الأصغر فكانت صغيرة بما يكفي لتلاحظ التغيرات الجديدة فقط – كالوجبات في المطعم مع أبيها ثم الرجال الودودين الذين يظهرون ويأخذون أمها إلى الخارج -. لكن أوليفر، ابن الثالثة عشر من عمره وقتها، قد أحَسَّ بثقل الاهتمام بالبيت وحمل شعور الهجران من أمه. ومرة أخرى، اغتمّ والده عجزًا؛ فقد كان السبب بالفعل – وليس الولد – عندما بدأ ظهور الدرجات المتدنية في المدرسة ثم الجامعة، ثم كسْر أوليفر ذراعه إثر انزلاقه من الدرج – أو إثر القفز منه، حسب مرويّة أخرى لتلك الحادثة الغريبة من نافذة فتاة -. ولم تلق سيارة واحدة مما قادها من ممتلكات العائلة مصيرًا شنيعًا، بل العديد منها، وقد خلت كلها من الإصابات ما عدا ركبتين مليئتين بالرضوض وسنّين أماميين مهتزين. نمت الأسنان مستقيمة مجددًا – حمدًا للرب – في ابتسامته البريئة التي تمتد ببطء عبر وجهه بينما بدأت تشيع الأنباء المضحكة حول مصيبته الأخيرة، إذ كانت تلك الابتسامة إحدى أجمل صفاته، لأن أسنانه كانت صغيرة ودائرية وتبتعد عن بعضها بمسافات، كأنها ابتسامة طفل.
ثم تزوّج، وهذا ما بدا مصيبة أخرى عبر مروره بليالٍ ملأى بالسهر ووظائف متروكة وفرص حياتيّة مهدرة بالنسبة لشخص بالغ. كانت الفتاة، واسمها أليشيا، عرضة للحوادث بقدره، وذلك للعنف المستمر وعدة حوادث حمل غير مرغوبة. خلفت اضطراباتها العاطفية الكثير من الكدمات فيها وفي غيرها. وبالمقارنة، فقد كان أوليفر حذرًا ورزينًا، وكانت تتطلع له باحترام. وهذا السر، فالآخرون يحاولون منح ما نتوقعه منهم. تمسك أوليفر بوظيفة ما، أما هي فأبقت على حملها. والآن عليكم رؤيته مع طفليهما – فتاة بملامح لطيفة وصبي بشعر غامق – وقد كبر طولًا وعرضًا ويحملهما دفعة واحدة، وكأنهما طائران في عش وهو شجرة أو صخرة واقية. صار حاميًا آخر للضعفاء.
–
جون أبدايك
روائي وقاص وشاعر أمريكي، وأحد أغزر الأدباء إنتاجًا في جيله، إذ كتب 21 رواية و18 مجموعة قصصية و12 مجموعة شعرية وأربع كتب أطفال و12 مجموعة من المقالات والنصوص غير الروائية. من أعماله «نفس الباب»، «أرامل إيستويك»، «قرى»، «الإرهابي»، «دموع أبي».
«جريمة شرف»يونغ-ها كيمترجمة: راضي النماصي
كانت في الحادية والعشرين من العمر، وذات بشرة ناعمة وصافية، ووجه مشرق ونديّ لا يحتاج إلى مساحيق. ولذلك السبب تحديدًا عيَّنها طبيب الجلدية بمنصب موظفة استقبال في المكتب. كانت وظيفتها سهلة، فكل ما عليها فعله هو كتابة أسماء المرضى، ثم تقول للواحد منهم بصوت ودود: “اجلس حتى نناديك باسمك”، بعدها تبحث عن بياناتهم وتسلمها للممرضين. منحت بشرتها آمالًا عالية للمراجعين، مما شجعهم على منح العيادة ثقتهم الكاملة، فسبَّب زيادة مفاجئة في المبيعات.
لكن في يومٍ ما أخذ وجهها بالتداعي، إذ بدأت المشكلة بظهور بثرة صغيرة، ثم تكاثرت بشكلٍ أسوأ حتى غطت الوجه بالكامل، ولم يعرف أحد السبب. في البدء، قام الطبيب الشاب – الذي لم يستطع بدء مشروعه دون قرض بنكي – بمساعدتها بكل طيبة، لكنه توقف عن ذلك مدفوعًا باليأس، إذ كلما ركز على علاجها ازدادت حالتها سوءًا. غطت البقع الحمراء كامل الوجه حتى غدت كقطعة بيتزا مرمية من مكان بعيد. جن جنون الطبيب وكرهتها الممرضات بعد ذلك. في يوم ربيعي، تركت رسالة خلفها تقول “أعتذر للجميع، أنا آسفة” ثم انتحرت. عين المكتب موظفة جديدة، وكان وجهها مشعًا لدرجة أغمضت أعين الجميع.