إلى من يهمه الأمر،
يحظر استخدام الورقة المعنونة بـ”متعة مطاردة المعنى” وعرضها بصيغة مطبوعة أو رقمية دون إذن خطي منّي، ومن يفعل ذلك فهو عرضة للمساءلة القانونية.
راضي النماصي
١٧ مارس ٢٠١٨
٩:١٥ صباحًا
إلى من يهمه الأمر،
يحظر استخدام الورقة المعنونة بـ”متعة مطاردة المعنى” وعرضها بصيغة مطبوعة أو رقمية دون إذن خطي منّي، ومن يفعل ذلك فهو عرضة للمساءلة القانونية.
راضي النماصي
١٧ مارس ٢٠١٨
٩:١٥ صباحًا
فيما ينشغل الناشرون العرب هذه الأيام بترجمة أعمال الكاتب والشاعر التشيلي الكبير روبيرتو بولانيو بعد أن تُوفِّيَ بثلاثة عشر سنة شاغلًا الدنيا والناس بما قدم، اتجه بقية العالم منذ أن أغمض عينيه للمرة الأخيرة من أجل متابعة مسار الرواية اللاتينية الحديثة، وذلك باعتبار أن أعمال بولانيو تشكل نوعًا من القطيعة بين الجيل الماضي بما ضم من أساطير[1] والجيل الحالي على مستوى اللغة والمواضيع والمعالجة.
سنحاول من خلال الفقرات القادمة استقراء المواضيع الجديدة للكتّاب الشباب هناك وتقديم قراءة لرواية جديدة جلبت الأنظار في أدب قارة البن والذهب والفودو وكرة القدم.
هل انقضى زمان الكتابة عن الديكتاتور والواقعية السحرية؟
يروي التاريخ أن آخر عهد لأمريكا اللاتينية بالحكم الديكتاتوري كان في تشيلي بعد أن تنحى بينوتشيه عن السلطة عام 1990، ولم يبق إلا سلطة راؤول كاسترو الموروثة من أخيه فيديل في كوبا. لكن بالرغم من أن رؤوس الأنظمة بجنرالاتها ورفاقهم قد تغير إلا أن الحال لا يشي بتغير مجتمعي كبير؛ فبقيت هناك مظاهر الحياة المعتادة بما فيها من فساد وبيروقراطية وتفكك على مستوى العائلات بفعل المخدرات وانتشار الأسلحة غير المقنن، وهذا ما دفع الكثير إلى الهجرة – إما إلى الولايات المتحدة أو أوروبا – في سبيل حياةٍ ومستوى معيشي أفضل.
**
إذن انقضى سعي الناس تجاه الديمقراطية بعد أن تحققت على الأرض، وتغيرت مواضيع الأدب بالمجمل من الديكتاتور والمخبرين والثوار وثيمة الحرية والبناء الروائي الذي يغطي فترات محددة إلى الحياة اليومية والفرد وشظف العيش في حكمٍ جديد وعن حياة لاتينيي المهجر وعن إعادة تعريف الكتابة وأغراضها ومآلاتها الجديدة، مما كان يستلزم من المؤلفين لغة مغايرة تسمي الأشياء بأسمائها ولا تتصف بالمواربة والتخييل الجامح والاستعارات المتوالية كما كان في السابق، وهذا – بدوره – أدى إلى صدام نقدي حد اعتبار بعض القصص الصادرة حديثًا عند بعض النقاد “غير لاتينية بما يكفي”، إلى أن ظهر بولانيو وغيَّر نظرة الوسط الأدبي العالمي تجاه قارته بأكملها. هذا لا ينفي بطبيعة الحال وجود الحركات التي سبقته وناهضت الكتابة اللاتينية القديمة وأعلنت عن رؤيتها تجاه الأدب بشكل قوي خلال التسعينات، مثل حركة «ماك-أوندو» برئاسة ألبرتو فوغويت، و«مانيفستو الكوكايين» الذي أمضى عليه خمسة مؤلفين مكسيكيين شباب، وهم: خورخي فولبي – بيدرو آنخل بالو – إيلوي أوروث – إغناسيو باديلا – ريكاردو تشافيز كاستانيدا.
أتى بولانيو (1953-2003) ليقلب المعادلة تمامًا بشيء لا يشبه غيره، فرغم تعريفه لنفسه كشاعر على خطى نيكانور بارا إلا أنه قد عُرِفَ بقصصه ورواياته ذات النثر الحاد المقتضب والمتسم بالواقعية الصارمة تمامًا والتي تروى بأكثر من تقنية سردية بين فلكي الأدب والجريمة المنظمة، بالإضافة إلى ما يشبه التقاطع مع سيرته الذاتية كون أغلب شخصياته روائيين وشعراء؛ مع ذكر أن الأصوات الساردة في بعض أعماله قد تصل إلى خمسين صوتًا كالموجود في رواية «رجال التحري المتوحشون»، ليلاقي انتشارًا عالميًا هائلًا بالرغم من ارتكابه جميع ما لم يُعْهَد من قبل على نصوص النثر في أمريكا اللاتينية. كانت أعماله تعلن في مضمونها عن اللا مبدأ في الكتابة، وأن جميع الخيارات متاحة في النثر ولا يوجد مكان لا ينحني للتجريب؛ فأتى ذلك بدوره على الكتّاب الجدد من جميع أنحاء القارة ليشكّل كل منهم عالمه وأفكاره تجاه ما يريد بالطريقة التي يرغبها، وهذا بدوره قد أنتج فسيفساء رائعة من الأسماء الشابة المشهورة حاليًا والمتسيدة للمشهد الأدبي هناك؛ وعلى سبيل المثال: أليخاندرو زامبرا (تشيلي)، فاليريا لويزيلي (المكسيك)، خوان غابرييل باثكيث (كولومبيا)، كارلوس لابي (تشيلي)، أندريس نيومان (الأرجنتين)، دانيال غاليرا (البرازيل).
**
«وجوه في الزحام»: مطاردة الأدباء وتعريف جديد للأدب والكتابة والحياة.
تكتب فاليريا لويزيلي (1983 – الآن) روايتها الأولى بما لا يذكرني سوى بلوحة موريتز إيشر «رسم الأيدي» التي أطلقها للملأ سنة 1948. إذ سنجد رواية ما بعد حداثية تتكون من 150 صفحة من القطع المتوسط عن أم شابة في مكسيكو سيتي وهي تحاول التوفيق بين واجباتها كأم وزوجة وكتابتها لروايتها بينما تتذكر أيامها حين كانت مترجمة تتجول في حي هارلم بنيويورك بحثًا عن آثار الشاعر المكسيكي غيلبرتو أوين الذي عاش في نيويورك خلال بدايات القرن العشرين قبل الكساد الكبير، فيما يحكي الأخير أثناء احتضاره في فيلادلفيا الخمسينات عن صداقاته بنيلا لارسن إبان تلك الفترة ولويس زوكوفسكي وفيديريكو غارثيا لوركا، وعن طيف فتاة ذات معطف أحمر كان يراها في نوافذ القطارات.
يتسم النثر في هذه الرواية بتقافز مستويات السرد الزمنية الأربعة بين المعاش والذاكرة والمتخيَّل، وكذلك بالصوتين الساردين الذين يندمجان إلى صوت واحد باستخدام عدة ثيمات؛ إذ يدخل الصوت الآخر (غيلبرتو) في البدء كشبح يُرَى في قطار الأنفاق، وبعدها يمرر في ارتجاعات ذهنية Flashbacks تعتري صوت الساردة وهي تحكي عن هوسها به ذلك الوقت إلى أن يظهر بكيانه الكامل ويتحدث عن ماضيه في ما يشبه الرواية التاريخية، فندخل ختامًا في تهويم ماتريوشكي مضاعف لكنه لا يتداخل بحيث يشتت القارئ. هل كانت الشخصية الرئيسية تبحث فعلًا عن شاعر مفقود من عصر نهضة هارلم الأدبية؟ ألا يمكن أن تكون المرأة شبحًا يتوهمه ويحلم به الشاعر الحقيقي؟ ما الذي يمنع أن يكون هناك احتمال ثالث هو أنهما شبحان يحاولان العودة للواقع بينما تجري على يديهما حكاية مؤثرة عن خلق النص الأدبي ومتاهة الترجمة والحب والفقد وعن الحياة التي نعيشها كل يوم في هذا العصر؟
صدرت الرواية بالإسبانية عام 2012، وظهرت ترجمتها بالإنجليزية التي أتمتها كريستينا ماك-سويني ببراعة عام 2014 لتعلن عن “كتاب يؤكد أن مؤلفته موهبة أدبية جديدة بشكل استثنائي” حسب صحيفة «ديلي تلغراف»، وعن “رواية مكتوبة باحتراف” حسب مجلة «باريس ريفيو» المرموقة. ومما لا شك فيه هو توصيتي بترجمة هذه الرواية الجميلة للغاية إلى اللغة العربية، وسيرافق توصيتي دعاء شخصي بالعون للمترجم لما ستمثله من تحدي على مستوى الذكاء في اللغة.
———–
[1] حركة «بووم» الأدبية: كارلوس فوينتس، غابرييل غارسيا ماركيز، ماريو بارغاس يوسا، خوليو كورتاثار… إلخ وما قبلها مثل أليخو كاربنتييه وميغيل أنخل أستورياس وخوان رولفو؛ وإن كانت إيزابيل أييندي بين حركة «بووم» وما بعد بولانيو فإن ثيماتها لم تتغير بشكل كبير عمّن سبقها.
بشكل عام، نحن نولد وفي جعبتنا أجوبة معدة سلفًا، وهذه الأجوبة لا تأتي سوى من حكايات نسمعها عن أهلنا وهي التي شكّلت هوياتنا بأبعادها (وأهمها الفكرية). ومن هنا تأتي أحد أوجه قوة وأهمية فن السرد وتحديدًا الرواية – في نظري –، إذ أنها تستعين بالحكاية وتمدّداتها من أجل أن تساءل وجودنا كبشر وما قد نكون عليه إن أتانا ما لا نستطيع إيقافه، سواء كأفراد أو كجماعات.
يخلط فهد الفهد في باكورة أعماله «هدام» (دار أثر، السعودية – 2016) بين الدستوبيا وقدر من الفانتازية ليبيّن سقوط الإنسان المعاصر ما إن يغيب النظام “كفكرة”، ويمكن استدعاء الأخلاق – على سبيل المثال – هنا كنظام فضلًا عن النظام السياسي الحاكم. يأتي مطر جارف لأيام على مدينة خليجية معاصرة دون إغاثة من الخارج، ينقسم الناس في تأويله كما ينقسمون في تأويل أي شيء، لكن في نظام غائب يمتد الاختلاف إلى القتل والسبي والتنكيل بعد أن كان أقصى مداه لا يتعدى عراكًا في مجلس بالإضافة إلى شتيمتين.
اللغة متقشفة إلى قدر ما مع غياب تام للعنصر النسائي (وهذه سخرية ذات ذكاء مرعب من فهد تجاه حال المرأة في الخليج)، حتى زوجة ماجد كانت تسمى بحالتها الاجتماعية. لا يوجد ما يستدعي المحسنات البلاغية أو الاستعارات في هذه الحال، العاقل – لا بل الناجي – من نأى بنفسه عن الناس وابتعد كما في أحد الحكايات التي يرميها الراوي. تقسيم الفصول حسب مراحل المطر، وبالتالي تسارع الأحداث، واستخدام الراوي العليم أضفيا على الرواية ميزات لا تقدر بثمن، الفنتازيا في ابتعاد النظام وتسمية فريقي النعميين والنقميين بشكل كاريكاتوري كانت تحوي قدرًا من السخرية تجاه الأنظمة المستحدثة اجتماعيًا وتراتبياتها. كما كانت النهاية المفتوحة ضرورية أيضًا بسبب أن الاحتمالات على ذلك الحال لا تعد ولا تحصى، لأن بغياب العقل الجمعي لا يمكن التنبؤ بتحرك محدد وبالتالي بنهاية معينة، كل ما نستطيع فعله هو متابعة حركة التاريخ ومشاهدة من سيربح ورجاء السلامة لمن نحب، لكن يجب أن يحكي أحدهم ما جرى بأكمله كي لا يتكرر خطأ البشرية الأزلي، كتابة التاريخ بقلم المنتصر.
رواية أولى موفقة من فهد، وننتظر جديده على الدوام.
يعود المخرج كنث لونرغان (54 سنة) إلى السينما العالمية بشكل مدوي في فيلمه الثالث فقط، وهو يعد معدلًا شحيحًا بالقياس إلى سنّه. كان الأول قد صدر في عام 2000 بعنوان «يمكنك الاعتماد علي» – وهو فيلم جميل وأنصح بمشاهدته –، ثم أتى بعده فيلم عادي «مارغريت» ومن ثم هذا الفيلم الذي لن أصفه بأقل من أعجوبة.
لدينا «لي تشاندلر» (كايسي آفلك)، عامل نظافة إنطوائي ولديه مشاكله الخاصة في التواصل مع الناس، والتي تتضح من عدة مشاهد في البداية. يتلقى اتصالًا من قرية “مانشستر” – التي نشأ فيها وكانت له حياة حافلة فيها إلى أن انتقل – يخبره بأن أخاه «جو تشاندلر» (كايل تشاندلر) قد أصيب بنوبة قلبية أخرى، وما إن يصل حتى يبلغ بوفاته. يقوم بترتيب الجنازة ويخبره محامي أخيه المتوفى أنه الوصيّ على ابن أخيه «باترك» (لوكاس هيدجز) مما يضعه في صراع معه لأجل الانتقال بجانب تضامن الأغلبية مع «باترك» وبقائه في مانشستر، فهم يريدون التمسك بأماكنهم ولديهم بالفعل ما يسوغهم لذلك، بينما يريد «لي» العودة إلى بوسطن ولكن دون سبب حقيقي أو مسوغ، إلى أن يظهر السبب فيما بعد في عدة مواجهات مع بقية الشخصيات تنبؤنا أن الناس ليسوا سواء فيما يتعلق بتقبلهم للمصائب، وأن الندم قد يشلّ بعضهم عند مواجهة الحياة السابقة / الماضي فيما بعد.
هناك خفة لا تصدق في هذا الفيلم، فحين يغتاظ المشاهد من برود الشخصية الرئيسية[1] في المشهد الحالي تظهر مشاهد من حياته الماضية بشكل مفاجئ – ودون تهويل تقني – ترينا شخصًا يقف على النقيض تمامًا بمرحه ومحبته للحياة، والتي تقوده شخصيته إلى ما هو عليه الآن في سلسلة أحداث مأساوية. كذلك ينتهي كل انفعال في مشاهد الفيلم بوصف الناس له بأنه “أخ جو” أو “لي”، إذ أن ماضيه لا يدعه حتى بعد تلك السنوات، وقد ساهم تنافر طباع «لي» مع طبع البقية في جعل القصة أكثر مصداقية. تكمن خفة الفيلم في الأدوار الطبيعية والمشاهد التي يمكن أن تراها في حياتك. عم يساعد ابن أخيه بعد فتور العلاقة بينهما، زواج ينهار، التعنيف الأسري الذي يتصدى له شخص عابر – وبالمناسبة فقد كان المخرج –، كل هذه تأتي كتوليفة عبقرية من لونرغان بحيلة ذكية تكمن في إبطاء دفن الجثة لاعتبارات مناخية. حتى مواجهته عن طريق الصدفة مع زوجته بعد طلاقهما وما حدث بينهما لم تأخذ أكثر من دقيقتين – على عكس المتوقع –، وكان أغلب ما قيل بينهما عبر الإيماءات ولغة مهزوزة، لكنها قالت الكثير مما كان سيضعف الفيلم لو عُبّر عنه بالكلمات. ولعل الخليط يأتي من كون الجميع قد غفروا له ما حدث إلا هو، لم يستطع أن يغفر لنفسه.
المذهل في الفيلم بجانب خفته على الصعيد التقني هو خلوه من الأداء الدرامي أو محاولة تفسير الحياة بجمل رنانة. لا شيء سوى الحياة كما تحدث وكما نراها بأكثر من عين حسب موقفنا منها. نهاية الفيلم كانت عالية فنيًا رغم رتابة أحداثها، لتأتي بفيلم قريب للقلب ونال العديد من الجوائز حتى الآن.
ختامًا، لعل من الطريف الإشارة إلى أن مات ديمون قد شارك في إنتاج هذا الفيلم أيضًا، ولكن يبدو أنه لم يقبل الدور الرئيسي بما أنه لم يخطف أو يضيع.
[1] أميل لهذه التسمية عوضًا عن “بطل الفيلم”، لأن حمولة كلمة “بطل” في اللغة العربية قد لا تتسق مع شخصيات كثيرة رئيسية في الأفلام، مثل روبرت فورد في فيلم «اغتيال جيسي جيمس» (الولايات المتحدة، 2007).
سر الكتابة
أورهان باموق (تركيا / نوبل 2006)
ترجمة: راضي النماصي
يمكن للآخرين أن يتعلموا أشياء عديدة من حياة الكاتب لأنها مختلفة للغاية، فبعض الكتّاب مهووس بما يأتي من الخارج والبعض الآخر مهووس برؤاه، أما أنا وأمثالي فمختلفون؛ فأنا أعمل كموظف وبهذا تغدو رواياتي كاللوحات الجصية والملاحم. بذلك فأنا أبدأ من زاوية وأستمر حتى دون أن أعلم ما ستكون عليه الصورة الختامية في النهاية.
علمتني أربعون سنة من التفاني تجاه فن الرواية أمرًا واحدًا، وهو أن ننتبه إلى حيوات البشر وما نسمعه عنها. فهذه الرواية، أي «غرابة في عقلي»، مبنية على مقابلاتٍ أجريتها مع العديد من الناس، والتي تعلمت منها أن أكون متواضعًا تجاه حياتهم وألعب بتفاصيلها إلى أن تغدو حقيقية أكثر من الواقع.
في غالب حياتي لم أحظ بمحررٍ كما ينبغي منذ كنت أكتب في إسطنبول. أنا هو محرري الوحيد. لكن أسرار الكتابة تكمن في إعادتها وتحريرها بنفسك وإعادة تعديلها وقراءتها على من تحب – على زوجتك أو ابنتك أو صديقك وسماع القصة من منظور الآخرين دون أن تترك معاييرك الخاصة عن الكتابة الجيدة – ومن ثَمّ تستمر بالتعديل والحذف هكذا دون أن تهتم بالوقت الذي منحته لتلك الصفحة الجميلة، والتي من الممكن أن تحذفها أيضًا.
ليس ذلك رأيي لوحدي، بل هذا ما تلهج به أوساط الأدب العالمية مؤخرًا عن الكاتب والأكاديمي النيجيري الشاب تشيغوزيي أوبيوما، الذي بلغ ثلاثين عامًا منذ فترة بسيطة ويتصدر مشهد الأدب الأفريقي حاليًا بجانب مواطنته تشيماماندا نغوزيي أديتشي. يمكن تلمس ذلك منذ الشروع في قراءة روايته الأولى «صيادو السمك» الحائزة على جائزة منحة «فاينانشال تايمز/أوبنهايمر» العالمية وجائزة معرض إدنبره للكتاب – فئة الإصدار الأول، كما وصلت كذلك للائحة القصيرة لجائزة «بوكر» البريطانية سنة 2015 والتي اختطفها الجامايكي مارلون جيمس عن رواية «تاريخ مقتضب لسبع جرائم قتل»، بالإضافة إلى القائمة القصيرة لجائزة «الغارديان» في فئة الإصدار الأول. أشاد به أحد أعلام الأدب الأفريقي الكبار، وهو الصومالي المرشح باستمرار لجائزة نوبل للآداب نور الدين فرح عبر تصريحٍ ظهر مؤخرًا بأنه “ذو أسلوب فصيح بشكل هائل في الكتابة بجانب موهبته العظيمة، وأن لديه ما يجعله في مصاف أفضل أفراد الجيل القادم من المؤلفين الأفارقة الشباب”، بالإضافة إلى العديد من الإطراءات من كبرى الصحف والمجلات والملاحق الأدبية حول العالم.
تحكي «صيادو السمك» حكاية أربعة أشقاء في نيجيريا خلال منتصف التسعينات – وذلك إيان الحكم العسكري للجنرال ساني أباتشا – على لسان أصغرهم المدعو بينجامين، ويتداخل فيها عنصر الإثارة والتأمل في الذات وفترة الصبا والرشد والعلاقات الأسرية – بين الإخوة على وجه الخصوص – عبر نبوءة عجوز مجنون يقابلونه حين يتهربون من الدراسة لصيد السمك في نهر قريب أثناء غياب أبيهم. كتب أوبيوما رواية ذات مهارة قوية في سرد القصص والتلاعب باللغة عبر مستويين، كما أنها قادرة على شد انتباه القارئ مع الإبقاء على هوية الأجواء الأفريقية بإشكالاتها الاجتماعية والدينية والسياسية والجمال الثقافي الهائل التي تتسم به القارة السمراء.
لأوبيوما حتى الآن هذه الرواية فقط بالإضافة لبعض النصوص على شبكة الإنترنت، كما أنه يعكف على كتابة رواية أخرى هذه الأيام بعنوان «الصقَّار»؛ وهو أستاذ مساعد في مجال الكتابة الإبداعية بجامعة نبراسكا الأمريكية. ستصدر ترجمة هذه الرواية إلى اللغة العربية قريبًا عن دار جامعة حمد بن خليفة للنشر في دولة قطر، وندعو دور النشر العربية لالتقاط النتاج القادم لهذا الكاتب الواعد وترجمته في خضم غرقنا بنتاج القارة العجوز والأمريكيتين خلال الأعوام الماضية.
فيما يلي ترجمة شخصيّة لمقطع من الفصل الأول للرواية:
“كنا صيادي سمك.
أصبحنا أنا وأخوتي صيادي سمك في يناير عام 1996 حين انتقل والدي إلى خارج أكور، وهي قرية تقع غربي نيجيريا وقد عشنا فيها طوال عمرنا. نقله عمله في البنك المركزي النيجيري إلى فرع يقع في يولا – قرية تبعد عنا أكثر من ألف كيلومتر شمال البلاد – منذ الأسبوع الأول في نوفمبر الفائت. أتذكر الليلة التي عاد بها أبي حاملًا رسالة النقل. كان ذلك يوم الجمعة، ومنذ الجمعة مرورًا بالسبت كان والداي يتبادلان الاستشارات همسًا كما لو أنهما راهبين شرقيين. في صباح الأحد صارت أمي مخلوقًا آخر، إذ كانت تتحرك كفأر مبتل وتجول بعينيها في أرجاء المنزل. لم تذهب إلى الكنيسة، بقيت في المنزل وغسلت مجموعة من ملابس أبي وكوتها بينما يعتري الحزن وجهها. لم يقل أيٌّ منهما كلمة لنا ولم نطلب منهما ذلك في المقابل. فهمنا فيما بعد أنا وأخوتي – إكينا وبوجا وأوبيمبي – أننا قد نغرق المنزل حزنًا إذا ما سألنا بطيني البيت – أي أمي وأبي –، إذ كانا يكتمان الأمر مثلما يحبس بطينا القلب الدم. لذلك فقد تركنا التلفزيون في دولابه ذا شكل الرقم ثمانية في غرفة الجلوس خلال أوقات كهذه وذهبنا لغرفنا كي ندرس أو نتظاهر بالدراسة، ولم نسألهما عن أي شيء بينما كان القلق يغمرنا. حاولنا بما نستطيع لاحقًا أن نجمع أي معلومة عما يحدث.
مع غسق السبت بانت بعض المعلومات من همهمات أمي كما يظهر زغب الفرخ: “أي عملٍ يحمل رجلًا على الابتعاد عن أبناءه بينما يشبون؟ حتى لو ولدت بسبع أيدي، فكيف سيمكنني الاعتناء بهؤلاء الأطفال لوحدي؟”
على الرغم من أن تلك الأسئلة المحمومة لم تكن موجهة لأحد، فقد كان من الواضح أن أبي هو المعني بها. كان جالسًا على أريكة كبيرة في الصالة بينما تغطي صحيفته المفضلة «الغارديان» وجهه وهو يقرؤها ويستمع لأمي في نفس الوقت. ومع أنه قد سمع ما تقوله، إلا أن أبي كان يصم أذنيه عن أي كلام لا يوجه له مباشرة، أو ما كان يسميه بـ”الكلمات الجبانة”. كان سيكمل قراءته، وربما سيتوقف كي يحتفي أو يشجب شيئًا مما ورد في الصحيفة بجمل من نوع “واو، فيلا رجل عظيم! يا إلهي!” أو “يجب أن يُطرَد روبين أباتي”؛ كل ذلك لأجل أن يعطي انطباعًا بأن ندب أمي يتطاير في الهواء، وأن لا أحد يعير انتباهًا لنشيجها.”
صدرت قبل ساعات اللائحة القصيرة لجائزة “مان بوكر” هذا العام بست روايات موزعة بين ثلاثة بلدان: المملكة المتحدة – كندا – الولايات المتحدة، وذلك بحضور اسم وحيد معروف للعرب هو البريطانية ديبورا ليفي؛ في حين بقي الجنوب أفريقي الحائز على نوبل جون كويتزي في القائمة الطويلة.
تبدو الحظوظ ميّالة بشكل كبير للأمريكيين بول بيتي وروايته “الخيانة – The Sellout” وأوتيسّا مشفق بروايتها “آيليين – Eileen”؛ خصوصًا وأن الأول فاز مؤخرًا بالجائزة الوطنية للكتاب في فرع الرواية وكون الثانية مرشحة في القائمة القصيرة لذات الجائزة. يضاف إلى ذلك كونهما الأعلى مقروئية بين الروايات الستة حتى الآن.
تعود أغوتا كريستوف إلى بودابست في زيارة مقتضبة بعد أربع سنوات منذ آخر زيارة، وذلك للمشاركة في برنامج «إكسايل/المنفى»، والذي يركز على المؤلفين المهاجرين من شرق أوروبا. وصلت أغوتا إلى مدينة نيوشاتل السويسرية كلاجئة سنة 1956 مع زوجها وطفلها الوحيد، وبقيت في نفس المدينة منذ ذلك الحين.
تغير حال أغوتا كريستوف عبر السنين من عاملة مصنع ساعات إلى روائية تنال تقديرًا عالميًا، وذلك بقصصها المكونة من الجمل القصيرة القاسية. حازت كتبها على مقروئية عالية جدًا في بلدها الأم هنغاريا. تُرجمت الرواية التي أطلقت شهرتها، وهي بعنوان «الدفتر الكبير»، إلى خمسٍ وثلاثين لغة. وعلى الرغم من كل هذا النجاح، لا تزال تتحدث عن نفسها بهدوءٍ وأحيانا بمرارة، كما لو كانت تعتبر نفسها الآن غريبة في موطنها.
المحاور: برنامج «المنفى» هو عبارة عن سلسلة من الأمسيات التي تستضيف الكتـّاب المهاجرين في بودابست؛ نحن الآن مقبلون على الذكرى الخمسين لثورة 1956. ما الذي تعنيه هذه الثورة للناس من منظور أجنبي؟ هل رأيت اهتمامًا من بقية أوروبا حول هذه المناسبة؟
أغوتا كريستوف: نعم، فكثيرٌ من الناس يولي اهتمامًا بتلك الثورة وذكراها الخمسين في كل مكان هذه الأيام. ولكنه يظل نشاطًا محصورًا بالهنغاريين الذين يعيشون هناك، وليس مواطني تلك البلاد.
المحاور: هل لا زالت إلى اليوم مجرّد شأن هنغاري فقط؟
أغوتا كريستوف: ذلك واضح في سويسرا على الأقل، وعلى الرغم من مشاركة المسؤولين السويسريين في تلك الذكرى. أعتقد بأن عام 1956 كان نقطة تحولٍ في تاريخ أوروبا بأكملها وليست هنغاريا فقط، بيد أن القليل يلاحظ هذا الأمر.
المحاور: هل يمكنكِ أن تصفي لنا ما يعنيه لك هذا الحدث بالذات؟ وأعني الهجرة وما تلاها؟
أغوتا كريستوف: كان كل ذلك منذ زمنٍ بعيد، وكنت شابّة جدًا إبان ذلك الوقت. لا أزال قادرة على تذكر ما حدث، فقد كانت لدينا طفلة واحدة، وتبلغ من العمر أربعة أشهر فقط. أتذكر أيضًا نزوحنا في تلك الأيام خلال غابات كوشيغ. لو لم يرد زوجي السابق المغادرة لما فعلت.
المحاور: ما قدر معرفتك بالعالم حينما كنتِ تعيشين في بلد منعزل وأنتِ تبلغين العشرين من العمر؟ هل كنت تعلمين ما ستقدمين عليه؟
أغوتا كريستوف: لم تكن لدي أدنى فكرة، فأنا لا أعرف أي شيء عن سويسرا في تلك الأيام، إضافة إلى أني لا أعرف أي لغة أجنبية. لكن زوجي تولى المسؤولية فيما يتعلق بكل شيء. فَهُوَ من قرر الوجهة التي سنهاجر إليها، واللغة التي سنتحدث بها لاحقًا. أما أنا، فقد كان اهتمامي منصبًا على الطفلة.
المحاور: لو كان الأمر عائدًا إلى رغبتك، فهل كنتِ ستفضّلين البقاء؟
أغوتا كريستوف: نعم، وأنا نادمة على رحيلي.
المحاور: هل هذا الجواب يعود إلى الظروف المالية التي عشتها، أم هي مجرد مشاعر انتماء؟
أغوتا كريستوف: إنه يعود لكل أمر تعتقده. كلما مرت السنين شعرْت بأن انتمائي لهذا البلد يزداد مع الوقت.
المحاور: ولكن كان من المحتمل ألا نرى كتبك فيما لو قررت البقاء.
أغوتا كريستوف: بدأت الكتابة بشكلٍ جيد قبل رحيلي، فقد كانت بداياتي في الرابعة عشر من العمر. كنت أكتب القصائد في ذلك الوقت. وللأسف، فكل ما كتبته في ذلك العمر قد ضاع. كنت أكتب أيضًا بالهنغارية حينما هاجرنا إلى سويسرا، وكانت كتاباتي تُطبَعُ في مجلة «الأدب الهنغاري» التي تصدر من باريس في تلك الأيام. يدور كتابي الأخير، «االأمّية»، بشكل كبير حول أيام تشردي.
المحاور: عرفتِ عن طريق الهجرة علاقتك باللغة. فمن الواضح أن لغتك الجافة الوحشية، التي لا تحفل بأي كلمة زائدة، قد أنتجت نصوصًا قويّة حينما نقرأها بالهنغارية. هل تعرفين مقدار قراءة نصوصك لدى الناس باللغة الهنغارية؟
أغوتا كريستوف: لدي جميع نصوصي وقد تمّت ترجمتها، ولكني لم أقرأها مطلقًا؛ خشيت من أنها ستكون سيّئة بعد الترجمة. تُرجمت نصوصي إلى خمسٍ وثلاثين لغة، ولا أستطيع القراءة بغير الفرنسية إلا بالهنغارية، ومع ذلك لم أجرؤ على الإطلاع عليها.
المحاور: إذن، دعيني أؤكد لكِ بأن الكثير يقرؤون نصوصك هنا في هنغاريا.
أغوتا كريستوف: نعم، أعتقد ذلك. فهناك الكثير ممن يتواصل معي في سويسرا، وتصلني الكثير من الإنطباعات حول ما أكتب. لا يزال أخي الأصغر يعيش في هنغاريا، ويرسل هو وعائلته لي باستمرار أي شيء يُكتب عنّي هنا.
المحاور: هل يهمّك كل ذلك؟ أقصد النجاح والانتشار في هنغاريا؟
أغوتا كريستوف: نعم، ويهمني جدًا.
المحاور: هذا الجواب يفاجؤني. توقعت أنّك ممن يقيّم كتابته بناءً على الرضى الشخصي، وليس أرقام المبيعات. فما تكتبينه ينتمي لك أكثر مما ينتمي للخارج. ربما تكوَّن لدي انطباع خاطئ.
أغوتا كريستوف: هناك بعض الحقيقة فيما قلْتَ، فأنا متحفظة جدًا، ولكن لا زلت أبتهج حينما أعلم أن رواياتي لا تزال مقروءة في جميع البلدان، وأني أستطيع العيش من عائداتها. لو لم أكن كاتبة في سويسرا لما استطعت تكوين مصدرٍ ماليّ للمعيشة.
المحاور: ما الذي تعنيه سويسرا بالنسبة للمهاجرين؟
أغوتا كريستوف: تختلف مدن سويسرا وأماكنها كثيرًا فيما بينتها، فهم يتكلمون بثلاث لغاتٍ مختلفة. أنا أقرأ بالفرنسية السويسرية، وأكتب بالفرنسية أيضًا. هاجرنا إلى ذلك المكان، وتعلمنا اللغة فيه. كان الأمر بطيئًا. كنت أعمل في مصنع ساعات، ولم تكن هناك فرصةٌ للحديث بسبب صخب آلات التصنيع، إلا في وقت الاستراحة حينما نقوم بالتدخين خارجًا. عملت هناك لمدة خمس سنوات، ولكن كنت أتعلم الفرنسية بشكلٍ سيء، ولم أستطع تعلم القراءة بما يكفي. تطلب مني الأمر اثنا عشرة سنة لكي أبدأ الكتابة بالفرنسية. حاولْتُ ترجمة قصائدي المكتوبة بالهنغارية إلى الفرنسية. لم يكن الأمر ناجحًا بذلك القدر، ولكن استطعت استعمال بعض العناصر الموجودة في نصوصي النثرية لاحقًا.
المحاور: ما هي المفاهيم التي آمنت بها كنتِ حينما كنت تنظرين للحياة أثناء عملك في مصنع الساعات؟ وكيف كانت فرص الكتابة بالنسبة لك؟
أغوتا كريستوف: في البداية لم تكن هناك أي فرصة في العمل ككاتبة وترك مصنع الساعات الذي أعمل فيه. لو استمريت بالكتابة باللغة الهنغارية لما كان هناك أمل بالانتشار إطلاقًا. حولت لغة الكتابة إلى الفرنسية لكي أعرف جدوى ما أقوم به. كان كل شيء صعبًا في ذلك الوقت، لدرجة أن أربعة مهاجرين معنا في نفس المدينة قاموا بالانتحار. لم يكن هناك أي أملٍ ظاهر.
المحاور: هل كانوا يشعرون بالعزلة؟ هل أتوا إلى مجتمع مغلق، فَصَعُبَ عليهم الاندماج فيه؟
أغوتا كريستوف: لم يكن لديهم خيار آخر، ولم يكن عملهم لطيفًا. تم زجّ الجميع في مصانع الآلات، ولم توجد إمكانية للعودة مطلقًا. أكمل العديد من المهاجرين طريقهم إلى بلدٍ ثالث لأنهم لم يحتملوا العيش في سويسرا.
المحاور: كيف ينظر لك المشهد الثقافي السويسري ككاتبةٍ سويسرية اليوم؟ وهل ترين نفسك كذلك؟
أغوتا كريستوف: صحيحٌ أني أكتب بالفرنسية، إلا أنني لا زلت هنغارية، وأمتلك جواز سفر تم تجديده للتو. يحترمني الناس في سويسرا كثيرًا، وقد فزت بالعديد من الجوائز، وتمت دعوتي إلى العديد من الأماكن.
المحاور: هل تتابعين ما يحدث في الأدب السويسري؟
أغوتا كريستوف: كلا، فأنا أؤمن بأني خارج هذا النطاق. من الصعب على أية حال أن نتحدث عما يسمى بـ”الأدب السويسري”، وذلك لأن كتابتهم ترتبط كثيرًا بانتماءاتهم، سواء كانت لألمانيا أو فرنسا. دائمًا ما أجد السويسريين الألمان على تواصل مستمر مع ألمانيا، في حين أن السويسريين الفرنسيين يجدون صعوبة في التواصل مع فرنسا.
المحاور: نستطيع إذن أن نقول بأنك كنت محظوظة إذا ما نظرنا إلى ظروف سيرتك الكتابيّة، فقد وجدت طريقك إلى مرتبة مميزة ومهمة.
أغوتا كريستوف: ما صنع ذلك هو أنني نشرت كتبي في باريس، ولولا ذلك لم يعرفني أحدٌ على الإطلاق. تمت ترجمتي من تلك المدينة إلى خمس وثلاثين لغة، بينما لا يحصل المؤلفون السويسريون على ترجمةٍ بهذا القدر. كتبت العديد من المسرحيات الحية ومسرحيات المذياع قبل رواياتي، وهناك الكثير ممن يتبناها الآن، حتى في اليابان! ولكن – والحق أقول – بأني لم أتوقع كل ذلك القدر من النجاح. بدأ كل ذلك سنة 1986، وقد كانت بدايةً متأخرة، وأنا لا أستثني نفسي من هذا التأخير. لكني لم أستطع التحدث بالفرنسية جيّدًا قبل ذلك.
المحاور: الكتابة بأسلوبك، وهو استخدام الجمل المقتضبة، نوع شائع. هناك العديد من المؤلفين الذين يستخدمون هذا النوع، حتى في أوساط المهاجرين. يبدو أن مثل هذه الكتابة تجد انتشارًا بين القراء…
أغوتا كريستوف: لم أكتب بهذا الأسلوب لهذا السبب، بل كتبت لأني كنت مدفوعة بقصائدي، والتي كانت عاطفية وناعمة جدًا. لذلك أردت الكتابة بطريقةٍ أكثر جفافًا وفائدة. كان ابني في الثانية عشر من عمره، واستفدت من واجباته المنزلية، وقد ظهر ذلك في رواياتي من خلال الجمل البسيطة والأقرب للطفولية. من يتحدث في «الدفتر الكبير» هم أطفال، وكان ابني يكتب بذات أسلوبهما. تُستخدم الرواية الآن لتدريس اللغة في العديد من الأماكن، حتى أنهم يدرّسون الأطفال بها. بعد صدور «الدفتر الكبير» تغيَّر أسلوبي قليلًا، لكنه بقي جافًا وبسيطًا.
المحاور: يقول العامل في مصنع الساعات، وهو الشخصية الرئيسية في رواية «أمس»، بأنه يكتب داخل رأسه، وذلك لأن الأمر يكون أسهل مقارنة بوضع ما نود كتابته على الورق؛ إذ أن الطريقة الأخرى ستسبب بتشتت الأفكار ولن تخرج بنتيجة جيدة بسبب الكلمات. هل كنت تترجمين أفكارك من الهنغارية عندما كنت تكتبين أولى جملك بالفرنسية؟ هل كنت كلماتك أدق في وصف ما تريدين التعبير عنه بحكم أنها كانت تمر عبر منخل الترجمة؟
أغوتا كريستوف: حسنًا، أعتقد بأن هذه مشكلة أمام كل كاتب، لأنه لا يمكن لنا أن نعبر بدقة عما نقصده. كنت أكتب وأحذف ما أكتبه في نفس الوقت، وقد حذفت الكثير وخصوصًا الصفات والأشياء غير المحسوسة التي تقبع في المشاعر. على سبيل المثال، أذكر بأني كتبت هذه العبارة التالية: “عيناها اللامعتان”، ومن ثم فكرت: هل تلمع العينان حقًا؟! ونتيجة لذلك قمت بحذف هذه الصفة.
المحاور: وعلى الرغم مما تقولين فإن هناك العديد من الأشياء غير الواقعية في رواية أمس، فقد كان الحلم والواقع يتداخلان بشكل مستمر.
أغوتا كريستوف: لكن ذاك أمر مختلف، فتلك الأحلام موجودة فقط في «أمس»؛ وقد كتبت العديد من قصائدي القديمة باللغة الهنغارية في وصف الأحلام.
المحاور: بجانب أسلوبك المقتضب، فأنتِ كثيرًا ما تتركين للخيال مهمة استحضار المكان عوضًا عن كتابته. لا يمكن لنا في بعض الأحيان أن نعرف أين نحن، أو من يتحدث.
أغوتا كريستوف: تعودت على ذلك حتى في مسرحياتي. أنا لا أحدد أين يحدث ذلك الشيء أو لمن يحدث. لم أرد تسمية أي شيء.
المحاور: كيف تكتبين؟ وإلى أي قدر تستطيعين المضيّ في كتابتك؟
أغوتا كريستوف: حينما بدأت الكتابة كان هنالك ثلاثة أطفال، ولم أستطع العمل إلا إذا ذهبوا إلى المدرسة. كنت أكتب بيدي، ولم تكن لدي آلة طابعة. عندما أكون مشغولة بكتابة رواية، فإن ذهني يبقى منشغلًا بها تمامًا، حتى وأنا أقوم بأعمال المنزل. أفكر بها ولا تبارح ذهني مطلقًا، وعندما أجلس للكتابة، تحضرني كل الجمل. لا أستطيع أن أخبرك عما يحدث ذلك في نفس اللحظة التي أجلس بها، لأني لم أعد أكتب.
المحاور: لماذا؟
أغوتا كريستوف: لا أعرف. فقدت اهتمامي بالأدب بشكلٍ أو آخر. المثير هو أني عندما أكون منشغلة بأمرٍ ما، كالعمل في مصنع أو العمل كبائعة، أجد أن هناك وقتًا للكتابة. والآن، بعدما صرت من دون حاجة للكتابة، وهناك خادمة تقوم بأعباء المنزل، فإني لا أقوى على الكتابة.
المحاور: ما الذي يفعله أطفالك الآن؟
أغوتا كريستوف: لدي ثلاثة أطفال. وُلدت الأولى في هنغاريا، وتدعى «شوشا»، وهي مديرة ثقافية في إحدى المراكز السويسرية. الثانية اسمها «كارين»، ولدت في سويسرا وتعمل ممثلة في باريس. أما الثالث فهو صبي، وكان يتاجر بالكتب، أمّا الآن فهو موسيقي. أواصر الثلاثة متينة تجاه سويسرا، ومع ذلك فهم فخورون بكون جزء منهم هنغاري. وحتى أحفادي كذلك.
رابط المقابلة في جريدة الرياض
عنوان شيّق وجذاب لحوار أجراه جان-فيليب دي توناك بين أمبرتو إيكو وجان-كلود كارييه على أكثر من ٣٠٠ صفحة حول طبيعة الكتب وأهميتها للمجتمع وهوس اقتنائها (ببليومانيا) وتاريخ إتلافها وإمكانية بقائها في الحقبة الالكترونية التي نعيشها الآن وأهمية الكتب الورقية كقطع فنية، بالإضافة لتاريخهما الشخصي حول الكتب التي اقتنوها والتي باعوها والتي يودون امتلاكها لاحقًا. لا يخلو هذا الحوار الطويل من المتعة والظرف بجانب الثقل التاريخي والفكري في مناقشة تلك المواضيع بين الشخصين، إذ أنه حوار متبادل وليس استجوابًا لواحد منهما.
كان الكتاب من أجمل ما قرأت مؤخرًا، وسأعكف على ترجمته على شكل حلقات قد تطول في المدونة أو غيرها🙂
من باب التعريف، جان-كلود كارييه هو كاتب سيناريو فرنسي كبير وروائي وممثل حائز على عدة جوائز أوروبية وعالمية. شارك بكتابة السيناريو والتمثيل في عدة أفلام مع لويس بونويل وعباس كياروستامي وفيليب كوفمان وفيرناندو ترويبا وعتيق رحيمي، بالإضافة للفيلم المقتبس من رواية “الطبل الصفيح” للألماني غونتر غراس وفيلم “خفة الكائن التي لا تحتمل” المقتبس من رواية التشيكي-الفرنسي ميلان كونديرا. وهو زوج الكاتبة نهال تجدد التي ترجم لها الأستاذ خالد الجبيلي مؤخرًا رواية “الرومي: نار العشق” الصادرة لدى منشورات الجمل ببيروت.
أمبرتو إيكو هو…. لا حاجة للتعريف به 😀
رسالة لإيتالو كالفينو حول الكتابة
ترجمة: راضي النماصي
هذه الترجمة مهداة إلى صديقي وأستاذي عبدالله ناصر، لكونه أول من عرفني على المدهش كالفينو. وعبدالله – بالمناسبة – قاص سعودي من الطراز الأول بمجموعته الجميلة (فن التخلي) الصادرة عن دار التنوير في بيروت.
إلى لويجي سانتوتشي – ميلان
سان ريمو، 24 أغسطس 1959
عزيزي سانتوتشي،
منذ شهر وأنا أتجول حاملًا صراخك التنبيهيَّ في بالي بينما أرتب الأفكار الرئيسية لردي عليك، ولكن لكتابة رسالة – كما تقول بطريقة أؤيدها – فالمرء يحتاج عطلة؛ وليست عطلة عادية – إن كان امرؤ ما يسكن على الشاطئ – بل مطرًا ومدًا بحريًا غزيرًا كي يحبسني في البيت. إن كان هذا التأجيل هو ما قاد لكتابة رسالتك الراقية والمنعشة، والتي وهبت روحي متعة كبيرة بمجرد أن عرفت أنها منك.. فيمكن لك أن تتخيل كيف شح خيالي هذا الصيف، فأنت تعلم كم من العمل والسخط والبناء والشك الذي يكتنف مثل هذا العمل.
على أي حال فإن هذا العمل يستحق كل ذلك – وهنا ما يهم –، أو يمكن أن نقول بأن المرء لا يسأل عم إذا كان هذا العمل يستحق. فنحن أناس نوجد فقط إذا ما كنا نكتب، وإلا فنحن لن نوجد على الإطلاق. وحتى إن لم ننل قارئًا واحدًا، فسيتوجب علينا أن نكتب؛ وهذا الأمر ليس لأن ما نقوم به وظيفة فردية، فهو – على النقيض – حوار نكون أحد طرفيه بينما نكتب، مجرد خطاب جاد، لكن يمكن أن يفترض هذا الحوار بأنه يحري مع كتّابٍ نحبهم ويقودنا النقاش معهم إلى أن نطور أنفسنا، أو مع من لم يأت بعد ونحن نجول بينهم لكي نجد طريقتنا التي تميزنا. أنا أبالغ: فلتكن السماء بعون من يكتب دون أن يقرأه أحد؛ لأن هناك الكثير ممن يكتبون لهذا السبب، ولا يستطيع الواحد منا الحِلْم على من لديه القليل ليقوله، كما لا يستطيع السماح بتكوين نقابة كتّاب أو المتاجرة بمشاعره.
لا تزعجني مهاجمة الكتاب والنقاد لكمِّ الكتابة والنشر الهائلين التي تحدث هذه الأيام. ربما يخطؤون ما يرمون إليه وما يختارونه، ومشكلتهم هي هذه تحديدًا، أنهم يقومون بهذا العمل المفيد جدًا بشكل خاطئ، أي إتلاف وتثبيط الآمال والطموحات المفرطة. (من يتحدث إليك هو شخص يقوم في عالم النشر بتشجيع الكتّاب الشباب، وهذا أمر ضروري بالتأكيد؛ وما هو ضروري بقدره في مرحلة لاحقة هو تثبيط تسعة وأربعين كاتبًا من الخمسين الذين شجعهم.)
وما يزعجني أكثر هم أولئك الذي ينظرون للرواية على أن تكون بهذا الشكل أو ذلك، أو أن ذلك الشخص يجب أن يكتب الرواية… إلخ. فليذهبوا إلى الجحيم! يا للطاقة المهدورة في إيطاليا من أجل محاولة كتابة الرواية التي ترضي جميع القواعد. كان من الممكن أن تفيد تلك الطاقة في إنتاج أشياء أكثر تواضعًا وأصالة ولديها ظهور أخف: قصص قصيرة، مذكرات، ملاحظات، شهادات… أو أي كتاب مفتوح بأي مستوى، دون خطة مسبقة.
أؤمن بالسرد شخصيًا لأن القصص التي أحبها هي التي تشتمل على بداية ونهاية، وأحاول كتابتها بأفضل ما تأتي به إلي بناءًا على ما يجب عليَّ قوله. نحن في فترة يمكن للفرد بها أن يقوم بأي شيء في الأدب، وخصوصًا في الكتابة القائمة على الخيال بشكل مطلق، وكل الأساليب والطرق في هذا الوقت متاحة. ما يوده العامة (وكذلك النقاد) هو الكتب (الروايات “المفتوحة”) الغنية بالإثارة والكثافة والعناصر…
أنتظر المطر القادم وردك في هذا الحوار. أطيب الأماني.
كالفينو.
فرغت صباح اليوم من قراءة الرواية السيرية (بجعات برية) للكاتبة البريطانية من أصل صيني يونغ تشانغ، وربما تكون أحد أجمل قراءات هذا العام.
تمرر يونغ في هذا الكتاب تاريخ المجتمع والدولة في الصين منذ نهاية القرن التاسع عشر، وذلك عبر سيرتها الذاتية وسيرة أمها وجدتها.
يندرج ما فعلته تشانغ في نوع مما أسميه “التأريخ الشعبي”، وهذا النوع يجمع بين حميمية المذكرات وتوثيق التغير الاجتماعي والسياسي الذي حدث لشعب المليار ونصف، وذلك دون الاكتفاء ببعض الالتقاطات أو النظر من الخارج كما يفعل هاوارد زن أو إدواردو غاليانو أو سفيتلانا ألكسيسفيتش – البيلاروسية النوبلية هذا العام.
يمتع هذا الكتاب القارئ العادي ويثير أقصى المشاعر المتنوعة مع شخصياته، ويفيد الباحث في علم الاجتماع فيما يتعلق بتشكل الظواهر والقوانين، ويثري المؤرخ عبر قيمته المعرفية العالية.
أختم بالقول أن ما جرى للبجعات الثلاثة في هذا الكتاب فظيع بكل المقاييس.
توصية لأصحاب النفس الطويل.
وكنوع من الامتنان، ترجمت مقابلة للمؤلفة حول الكتابة.
قراءة ممتعة.
لماذا أكتب؟ – يونغ تشانغ
ترجمة: راضي النماصي
لماذا أكتب؟
الكتابة هي أكثر شيء يمتعني، فهي تمتصني تمامًا، وتهدؤني كما لا يفعل غيرها.
هل تكتبين كل يوم؟ إذا كنت كذلك، فكم ساعة تقضينها؟
كل يوم تقريبًا حينما أكون في لندن، وبأطول قدر ممكن.
أسوأ مصدر للتشتيت؟
الترحال. لكنه متعة بحد ذاته.
أفضل مصدر للإلهام؟
الوثائق التاريخية.
كيف تتغلبين على حبسة الكاتب أو الشك الذي يعتريك حول قدراتك؟
شعرت بالضياع بعدما كتبت مع جون هاليداي سيرة “ماو: القصة المجهولة” وترجمتها إلى الصينية وقيدت الملاحظات بها في نهاية عام 2007. لم أعتقد أني سأجد موضوعًا أخاذًا بقدره، لكني – ويا للسعادة – وجدت ما أكتبه عن تسيشي، إمبراطورة الصين الأرملة (1835-1908)، والتي كانت ملفتة للإنتباه.
هل هناك كاتب معاصر لا تفوتين جديده؟
إن كنت تقصد كاتبًا أتابع ما يصدره باستمرار فهو المدون القاطن في شانغهاي هان هان.
كاتبك الصيني المفضل؟
آيلين تشانغ.
أفضل كتاب عن الصين؟
الأرض الطيبة. إنه أحد أفضل الكتب بالتأكيد.
كتابك المفضل؟
أكن لكتاب “الحب الأول” لتورغينيف منزلة خاصة، فقد قرأته إبان الثورة الثقافية عام 1969 حين تم نفيي إلى جبال نينغان، والتي تقع جنوب سيشوان. اشترى أخي ذلك الكتاب مع المئات من الكتب الكلاسيكية الصينية والأجنبية التي نجت من محرقة “الثقافة” وبيعت في السوق السوداء في شينغدو. وكفتاة بعمر السابعة عشر، فقد وقعت في غرام تلك النوفيلا، وحفظت العديد من فقراتها عن ظهر قلب.
كاتبك المفضل؟
الوحيد الذي منحني متعة لا توصف حين أعدت قراءته هو فلاديمير نابوكوف.
ما هو الكتاب الذي توجَّب عليك قراءته ولكنك لم تفعلي؟
يوليسس.
بم تفكرين حينما تعودي بالزمن إلى أول ما نشرت في الماضي؟
“واو. هل كنت أعلم كل ذلك؟”. كان أول ما نشرته هو مقال حول اللسانيات، والتي كنت أدرسها خلال مرحلة الدكتوراة.
هل تغير الكتابة شيئًا؟
نعم، غيرت حياتي.
جزء من حوار الكاتب الأمريكي بول أوستر مع موقع BigThink.
ترجمة: راضي النماصي.
س: كيف يقرأ الشخص مثل كاتبٍ جيّد؟
ج: حسنًا، نحن نصل هنا مرة أخرى إلى منطقة ضبابية وغير محددة، وذلك لأن الأمر يتعلق بالذوق الشخصيّ لكلّ فرد. أقصد بأن لديّ كتّابي الذين أمنحهم أقصى اهتمامي، وأعتقد بأنهم أفضل من كتب ويكتب حتى الآن. ولكنّي أعتقد أن قائمتي ستكون مختلفة عن قوائمكم. أهم شيء بالنسبة للكاتب الشاب هو أن يقرأ، ويقرأ بالذات للروائيين العظماء. أظن بأنّي أعني بكلمة “عظماء” أولئك الذين صمدوا أمام تحدّي الزمن، وأنتم تعلمون أولئك العظام جيّدًا، مثل هاوثورن، وميلفيل، ودوستويفسكي، وتولستوي، وكافكا، وديكنز. هؤلاء هم من أعتقد أنّ الشخص يستطيع جني أغلب الفائدة منهم. تستطيع أن ترى كيف يفعلون كلّ ذلك ببراعة، ولا أنسى فلوبير أيضًا ضمن أولئك الكتّاب. كل أولئك بقوا في تلك المنزلة لسبب، وهو أنهم بالفعل أفضل من يكتب. وأعتقد بأن على الشباب أن يتعلموا من الأفضل.
س: ما هو الفخ الشائع الذي يقع فيه المؤلفون الشباب؟
ج: أعتقد أن الفخ الذي يقع فيه أغلبهم هو نوعٌ من الغرور والاعتداد بالذات، وعدم القدرة على النظر خارج أنفسهم. أؤمن بأن من المهم أن ينظر الفرد إلى العالم عن كثب، وأن يرى الأحداث التي تجري من حوله، وهذا شيءٌ يصعب على غالبية الشباب.
وهناك فخ آخر يتمثل بكون الشباب يتمسكون بما يعتقدون أنه من الذكاء فعله. أعتقد بأنه ربما للذكاء مناطقه ومكانه في العالم، ولكن الحاجة المتأججة للكتابة هي ما تصنع العمل الجيد. فالأمنيات لا تساعدك. الكتابة تتحقق عندما تكون حاجة ملحة.
لذلك عندما أتحدث للكتّاب الشباب أقول لهم بألا يفعلوا ذلك. لا تكونوا مؤلفين. إنها طريقة فظيعة للعيش، ولن تنالوا منها إلا الفقر والعزلة والتجاهل. لكن إن كنتم تريدون ذلك، وهذا يعني أنكم توّاقون حقًا لفعل الكتابة، فتقدموا واكتبوا؛ لكن لا تتوقعوا أي شيءٍ من أحدٍ ما. لا يدين لك العالم بشيء ولم يطلب منك أحد أن تكتب. أفترض أن الشعور بالإنجاز هو ما يدفع الشباب للاعتداد بما يكتبون واعتقاد أنهم يستحقون العيش على ما يكتبونه، والأمر لا يجري كذلك.
عنوان شاعري، وقرّاء مختلفون، ونصوص وشهادات تؤكد أن القراءة ليست نشاطاً للمترفين، أو زينة يمكن التخلي عنها.. يحفل بها كتاب «داخل المكتبة خارج العالم»، للمترجم السعودي راضي النماصي، الذي ينطلق من محبة خاصة وتجربة ذاتية مع الورق، إذ إنه كقارئ جيد كان يجد صعوبة وعقدة لسان، حينما يريد التعبير عن كتاب يبجّله، بأبعد من كلمات الإعجاب؛ لذا بحث عن «قراء يملؤون هذا العالم حكمة ويقيناً بنظرتهم المختلفة، ووعيهم المتزايد تجاه النصوص النصوص الماثلة أمامهم». في حضرة الكتاب، تأتي النصوص التي تنتمي إلى تسعة مبدعين من وجهات مختلفة حول العالم، يسردون حكايا الشغف بالورق، ونعيم المكتبات الذي وجدوا أنفسهم في رحابه. وترفض معظم الشهادات الوصاية على القارئ، ويطالبه أصحابها بالتعويل على حدسه، وقطع الطريق بقليل من النصائح وكثير من المتعة، حتى ولو صادفه أحياناً بعض الهراء.
يبدأ الكتاب، الصادر عن دار «أثر» السعودية، الرحلة مع مبدعة تيار الوعي فرجينيا وولف (1882 – 1942)، التي تسعى للإجابة عن سؤال: «كيف نقرأ كتاباً كما يجب؟»، وترى أن مفتاح ذلك يأتي عبر المقارنة، فهنا السرّ من وجهة نظرها، لأن القراءة الأولى «ليست سوى نصف عملية القراءة.. انتظر دع غبار القراءة يهدأ».
وتهاجم وولف أصحاب الكتب السيئة، مشبهة إياهم بالمجرمين: «ألا يجب أن نعتبر بعض المؤلفين كالمجرمين؟ ألا يحق لنا أن نعتبر أولئك الذين يكتبون كتباً سيئة، كتباً تضيع وقتنا وتعاطفنا، كتباً مسروقة، كتباً خاطئة، كتباً تملأ هواءنا بالعفن والأمراض، ألا يحق لنا أن نعتبرهم أخبث أعداء المجتمع؟». وتختتم شهادة وولف بحلم شاعري، أشبه بقصيدة، عن متعة القراءة و«عاقبتها».
روح اللعبة
الكاتب الأميركي هنري ميللر (1891 – 1980)، صاحب المسيرة الطويلة في عالم الكتب؛ يشير إلى أنه «لا أحد في هذا العالم يستطيع الحكم على كتاب ما بكلمة جيد أو سيئ.. وأعظم فائدة يجنيها المرء من القراءة هي رغبته في التواصل مع غيره، فأن تقرأ كتاباً يعني أن تستيقظ من سباتك الروحي وتحيا، وتحتوي اهتماماً أكبر بمن يجاورك».
وفي حين يقسم الروائي الألماني هيرمان هيسه (1877 – 1962) القراء إلى أصناف، يشدد صاحب رواية «لوليتا» فلاديمير نابوكوف (1899 – 1977) على أن القارئ العظيم هو الذي يعيد ما يقرأ: «نحن نحتاج وقتاً عندما نقرأ أي كتاب لنتآلف معه.. عندما نقرأ للمرة الثانية، الثالثة، الرابعة، فإننا بشكل ما نتعامل مع الكتاب كما لو كان لوحة.. ما الذي يفعله القارئ النكد عندما يواجه كتاباً جميلاً؟ أولاً سيذهب المزاج المتجهم بعيداً، وبشكل أفضل أو أسوأ سيدخل القارئ في روح اللعبة». ويضيف نابوكوف «هناك ثلاث وجهات للنظر نستطيع أن نرى بها الكاتب: قد نراه حكاء، وقد نراه كمعلم، أو قد نراه كساحر. الكاتب العظيم يحتوي هؤلاء الثلاثة، لكن الساحر بداخله هو من يتحكم به، ويجعله كاتباً عظيماً».
وصية في ختام كتاب «داخل المكتبة خارج العالم»، للمترجم راضي النماصي، وتقديم الدكتور سعد البازعي، والذي يقع في 160 صفحة، نصّ مختصر لمبدع أبصر العالم مكتبة، وتخيّل الفردوس كذلك، وهو لويس بورخيس الذي ينصح: «لا تقرأوا أي كتاب لأنه مشهور أو حديث أو قديم، إذا كان الكتاب الذي تقرأونه مملاً فاتركوه، حتى ولو كان الفردوس المفقود أو دون كيخوته.. إذا شعرتم بالملل من أي كتاب فاتركوه.. فهذا الكتاب لم يؤلف من أجلكم. يجب أن تكون القراءة أحد أشكال السعادة الخالصة، ولذا فإني ألقي بوصيتي الأخيرة إلى جميع قرائي الحاليين والمستقبليين، بأن يقرأوا كثيراً، ولا يغتروا بسمعة كاتب ما.. اقرأوا من أجل متعتكم، ولأجل أن تسعدوا فهذه هي الطريقة الوحيدة». |
وماذا عنك؟
أما الروائي البيروفي ماريو بارغاس يوسا؛ فبسخرية يبدأ الإجابة عن سؤال: لماذا نقرأ الأدب؟ قائلاً: «دائماً ما يأتيني شخص حينما أكون في معرض كتاب أو مكتبة، ويسألني توقيعاً، إما لزوجته أو ابنته أو أمه أو غيرهن، ويتعذر بالقول بأنها قارئة رائعة ومحبة للأدب. وعلى الفور أسأله: وماذا عنك؟ ألا تحب القراءة؟ وغالباً تكون الإجابة: بالطبع أحب القراءة، لكني مشغول طوال الوقت. سمعت هذا التعبير العديد من المرات.. أنا سعيد من أجل أولئك النسوة، لكني أشعر بالأسف للرجال، وللملايين ممن يستطيعون القراءة لكنهم اختاروا تركها.. مقتنع بأن مجتمعاً بلا أدب أو يرمي بالأدب – كخطيئة خفية – إلى حدود الحياة الشخصية والاجتماعية، هو مجتمع همجي الروح، بل ويخاطر بحريته».
وكما الحال في رواياته؛ لا يتخلى يوسا هنا في نصه بالكتاب عن المشاغبات، والاشتباك مع أحد مؤسسي شركة «مايكروسوفت» بيل غيتس، الذي يحلم بـ«وضع حد للورق، ومن ثم الكتب» لتكون شاشات الكمبيوتر بديلاً. واستهجن يوسا، صاحب «حفلة التيس» و«شيطنات الطفلة الخبيثة» و«حلم السلتي»، حلم غيتس، مؤكداً أنه ليس ثمة متعة أكبر من قراءة الكتب، وأن تحيّزه ليس فقط لطول عِشرته الشخصية مع الكتب والورق، ولكن لصعوبة الذهاب إلى الشاشة لقراءة شعر أو رواية أو حتى مقال. ويذهب يوسا إلى أبعد من ذلك، محذراً من كابوس المجتمع الممتلئ بالشاشات والسماعات: «مجتمع يعتبر الكتب فضولاً قديماً مجتمع من شأنه أن يكون غير متحضر بعمق وسيكون خالي الروح. ستكون إنسانية آلية تركت حريتها بمجرد أن تخلت عن الأدب». ويضيف: «ليس من المرجح أن هذه اليوتوبيا المروعة سوف تأتي.. نهاية قصتنا ونهاية التاريخ لم تكتب بعد.. ولكن إن أردنا أن نتجنب فقر خيالنا، ونتجنب اختفاء ذلك الاستياء الثمين الذي يهذب حساسيتنا ويعلمنا التحدث ببلاغة ودقة، وأن نقاوم أي مساهمة لإضعاف حريتنا، فيجب أن نتصرف. وبعبارة أدق، يجب أن نقرأ»، معتبراً أن «الأدب قوت الحياة المتمردة، هو إعلان عدم الانقياد».
ويواصل كتاب «داخل المكتبة» الرحلة مع الشاعر الروسي – الأميركي جوزيف برودسكي (1940 – 1996)، صاحب «نوبل» عام 1987، الذي يرى أن الكتب «بشكل عام أكثر خلوداً منا، حتى أسوأ الكتب تخلد مؤلفيها». ورغم القناعة بأن الذوق الفطري ينحاز إلى الكتب الجيدة، إلا أن على «الكاتب أن يقرأ الكثير من الهراء. وإلا فلن يستطيع تطوير الخاصية المهمة للقراءة». وينحاز برودسكي لفنه، معتبراً أنه السبيل لاختصار الطريق بالشكل الأرقى للخطاب البشري «وكلما أكثر أي شخص من قراءة القصائد، أصبح أقل تسامحاً مع أي نوع من الإسهاب.. لا يعد النثر بجانب الشعر إلا مجرد طالب كسول. أرجوكم، لا تفهموني خطأ، أنا لا أحاول أن أحتقر النثر. كل ما في الأمر هو ببساطة أن الشعر أقدم من النثر، وبالتالي فقد غطى مساحات أكبر من التاريخ.. ومع أنني عقدت مقارنة بين النثر والشعر كمن يعقدها بين سلاح الجو والمشاة، فإن اقتراحي الآن ليست له علاقة بترتيب معين أو أصول أنثروبولوجية لنوع محدد من الأدب. كل مسعاي هو أن أكون عملياً وأوفر على عقولكم وعيونكم أكواماً من الأشياء المطبوعة وغير المفيدة».
جنة على الأرض
المكتبات منابع للمعرفة.. كما يصفها الكاتب البريطاني نيل جايمان «نشعر فيها بالأمان، بل إن الواحدة منها جنة على الأرض، وأمناء تلك الجنة موجودون بيننا». ويؤكد أن الكتب ستقاوم ولن ينافسها سواها، ولن يزيحها من الأيدي شيء حتى ولو روّج البعض لذلك، فالكتب مثل «أسماك القرش حافظت على وجودها، رغم أنها أقدم من الديناصورات».
واجب الكتاب تجاه القراء، وفق جايمان أيضاً، عدم إشعار القراء بالملل «بل جعلهم يقبّلون الصفحات إثر بعضها تشوقاً. أحد أفضل العلاجات لقارئ متردد هي حكاية لا تبعثه على التوقف عن قراءتها».
«داخل المكتبة خارج العالم» ينهي الرحلة مع الكاتب – أو بالأحرى القارئ الأرجنتيني الأشهر – ألبرتو مانغويل، الذي يعتز بهذه الصفة الأخيرة، قائلاً: «هناك شيء ما بداخلي يحرض على التصحيح حينما أسمع أحدهم يناديني بذلك (الكاتب) وأقول بأني قارئ، قارئ استطاع الكتابة». ويكمل: «ننتمي كبشر إلى فصيلة القراء.. قد أقول إن الإنسان حيوان قارئ، لأننا نأتي إلى هذا العالم بقدرة على التكيف معه، وأيضاً نأتي ويرافقنا توق لقراءة القصص من كل شيء حولنا؛ فنحن نقرأها في وجوه الناس، وفي المناظر الطبيعية، وفي النجوم أثناء الليل، ونقرأها بالطبع أيضاً في ثنايا الكلمات».
ويسلط مانغويل الضوء على مسيرته مع القراءة، منذ أن كان في الثالثة أو الرابعة من العمر (من مواليد 1948)، إذ تعلم ذلك في مرحلة مبكرة، وكانت معرفة الحروف وفك الكلمات أشبه بالسحر كما يصفه، ولأن والده كان سفيراً كثير التنقل، لذا اعتبر الابن الكتب موطنه الواقعي: «التجارب مع الكتب تعني لي أن هويتي الشخصية في هذا العالم هي كوني قارئاً.. الكتب تمنحنا تجربة الحياة قبل أن نعيشها».
بعد أن قدم المترجم الشاب راضي النماصي تجربته الأولى في الترجمة في كتاب “داخل المكتبة خارج العالم” والذي احتوى على تسعة مقالات محورها الرئيسي هو “القراءة” كرافد أساسي للكتابة الإبداعية، كتب هذه المقالات تسعة كتاب من كبار أدباء العالم، مثل “فيرجينيا وولف” و”هنري ميللر” و”فلاديمير نابوكوف” و”ماريو بارغاس يوسا” وغيرهم.
“النماصي” كشف ل”الرياض” في هذه الحوار عدداً من الأمور، كالأسباب التي دعته لترجمة هذه المقالات، وما يحتاجه المترجمون في الوطن العربي، وغير ذلك، وفيما يلي نص الحوار:
ترجمة السرد
* يعرف عنك شغفك الكبير بقراءة الرواية لكنك في إصدارك الأول على صعيد الترجمة لم تترجم رواية، لماذا؟
– بالفعل، شغفي كان -وما يزال- الرواية، لكني لم أبدأ بها تهيبًا، إذ أني لم أجرب ترجمة نص سردي مكتمل في مقابل خبرة لا بأس بها بترجمة المقالات والخطب، لكن خلال الفترة الماضية عكفت على قراءة بعض المراجع حول فن الترجمة الأدبية، بالإضافة لبعض التجارب في ترجمة السرد، ولعل الرواية المترجمة الأولى تكون قريبة.
اختيارات المحتوى
* ترجمت عدداً من المقالات التي محورها الأساسي هو “القراءة” ما الذي شدك في هذا الموضوع؟ ولماذا هذه المقالات بالذات؟
– شدتني عدة أمور، منها ما ذكرتُه سابقًا في مقدمة الكتاب –قصة “ماريو بارغاس يوسا” ورواية “مدام بوفاري”– باعتبار أنّ المبدع له نظرته الخاصة للقراءة، ومنها حاجة الوسط الثقافي العربي لكتاب مثله، في خضم طوفان الكتب التي تتحدث عن الكتابة باعتبار أن القراءة هي الرافد الأساسي لها، كانت الاختيارات مبنية على ثلاثة معايير: شهرة الكاتب، عمق المحتوى، وكونه مترجماً للمرة الأولى؛ مما شكل تحدياً صعباً لي؛ كون عدة أسماء كبيرة حول العالم كتبت عن القراءة وهي –في الوقت نفسه– مجهولة بالنسبة للقارئ العربي، حتى أني فكرت عدة مرات بإلغاء نص كلمة “رديارد كيبلنغ” بحكم قلة رواجه لدى العرب، على الرغم من سمعته العالمية كمؤلف كبير، وكون إحدى الشخصيات التي ابتكرها معروفة لدينا باسم “ماوكلي”، بطل الفيلم الكارتوني الشهير، لكن غلب حب نشر الفائدة على الشهرة، وقمت بنشره.
زيادة الإقبال
* برأيك، ما الذي زاد إقبال القراء على الكتب المترجمة؟
– هذا سؤال غائم، إذ أنه لا يحدد نوعية معينة من القراء لكي نعرف أسبابهم الخاصة للتوجه نحو الأدب المترجم، لأننا نعرف من يذهب إلى المعارض ويقرأ الكتب المحلية أو من يكتفي بالكتب الشرعية ولا يقرأ الأدب أصلًا، سأفترض أن سؤالك موجه لي وللأصدقاء من حولي، وأجيب بأنها الرغبة في رؤية أساليب كتابة جديدة ونظرات مختلفة للحياة من حولنا والتعاطي معها، كما أن هناك سببًا آخر وهو التفات الناشرين في الآونة الأخيرة –واتحدث عن آخر أربع سنوات– للأدب المترجم أكثر من غيره مقارنة بالأعوام السابقة.
مظلة المترجمين
* تشهد حركة الترجمة نشاطاً ملحوظاً وبجهود فردية، ما الذي يحتاجه المترجمون لتوحيد جهودهم؟
– الساحة مبهجة جدًا في وجود كل هؤلاء المترجمين الشباب، سواء من نشر منهم أو اكتفى بالانترنت كمنصة، ونرجو أن تكبر أكثر، كل ما أرجوه من المترجمين الشباب هو الاهتمام بالشق المعرفي أثناء الترجمة، ولو على حساب الشق اللغوي، وذلك منعًا لأخطاء لا تغتفر، أما ما يحتاجه المترجمون الشباب فهو مظلة تضمهم وتقوم بدعمهم، ولعل تجربة “المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب” بدولة الكويت أو “مشروع كلمة للترجمة” بدولة الإمارات العربية المتحدة أمثلة رائعة على مثل هذه المظلات، بشرط أن تنجو من البيروقراطية في مؤسساتنا الثقافية.
الانحياز للنصوص
* هل المترجم مسؤول عن اختياراته؟ فنقول أنّ كل ما يترجمه يمثله؟ هل تراعي هذا الجانب في اختياراتك؟
– نعم، هو مسؤول ما لم يكن مكلفًا بالترجمة، ففي النهاية اختيار المرء قطعة من عقله، أما فيما يتعلق بتمثيل النصوص لوجهة نظر المترجم فالأمر بين هذا وذلك، إذ أني لا أجد نفسي منحازًا تجاه جميع النصوص التي ترجمتها خلال عامين، وهناك ما ترجمته في كتابي ولا أتفق معه مثل نص “جوزيف برودسكي”، لكنه نص مثير للاهتمام، وأنا أحب قصائد “برودسكي” للغاية بالإضافة لكونه شاعرًا مرموقًا وحائزًا على نوبل للآداب، فقمت بترجمته، وهناك ما أتفق معه بشكل مطلق مثل نص “ماريو بارغاس يوسا”، ولعل القارئ الكريم يرى أن وجهات النظر في “داخل المكتبة.. خارج العالم” لم تكن على رأي واحد يمكن أن يخلص له القارئ.
شهادة مقتضبة حول تجربتي في الترجمة، صدرت في جريدة الجزيرة يوم السبت 27 فبراير 2016
لعل الترجمة هي الفن الوحيد الذي يعتبر أحد أشكال الكرم، وهو الوحيد الذي يكون التميز به بمقدار ما تمنح من ذاتك، إذ لا توجد فيه أي نزعة فردانية، بل إن جودة الترجمة تتناسب عكسيًّا مع ظهور شخصية المترجم وأسلوب الكتابة الخاص به، في فعل ينم عن لمسة كرم عالية.
لم تكن علاقتي بالترجمة أكاديمية، إذ تخرجت العام الماضي من قسم الهندسة الكيميائية في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، ولكن مشواري معها كان منذ أيام الدراسة هناك، وبالتحديد قبل عامين خلال شهر رمضان المبارك في مدينة الخفجي بالمملكة العربية السعودية، وأول نص كان بعنوان «لماذا نقرأ الأدب؟»، للروائي البيروفي الحائز على جائزة نوبل للآداب ماريو بارغاس يوسا. كان السؤال نفسه مؤرقًا لي منذ مدة طويلة، فالأدب أكثر أصناف الكتب رواجًا، ومع ذلك يواجه استهجانًا غريبًا عند فئة لا بأس بها من القراء. تضمن مقال يوسا إجابة رائعة وحساسة على هذا السؤال، وتنبئ عن وعي واطلاع واسع على عدة معارف أنتجت ذلك النص الموسوعي والثاقب. فترجمته من باب المسؤولية في المقام الأول، وكتجربة أولى بهدف المتعة؛ فلم أكن مرتبطًا بموعد تسليم لأحد. أرسلت ترجمتي للصديق العزيز فيصل الحبيني بهدف التعقيب، وإذ به يطلب مني أن ينشره مباشرة، فوافقت؛ ولم أعلم أنني سأفاجأ بتواجده في موقع عربي جديد كل فترة حتى اليوم.
تابعت القيام بما أفعله عبر مدونتي الإلكترونية (www.radhiblog.com) وأنا أضع نصب عيني أن يكون المحتوى متميزًا ومؤصلًا وذا فائدة جمة للمتلقي، ففي النهاية أنا قرأت النص واكتفيت، لكن هو حب نشر المعرفة بين الناس الذي يحدوني للقيام بالترجمة إلى الناطقين بلغة الضاد بالإضافة إلى المتعة التي أجدها أثناء نقل نص ما من ضفة لأخرى، وما زالت ردود الفعل تبهجني في كل مرة أترجم بها نصا جديدًا.
أما بالنسبة للنشر الورقي فلم أقتنع بإمكانيتي له إلا بعد مدة طويلة. كان النشر بحد ذاته تحديًا عسيرًا، ولم يكن متعلقًا بإمكانية الطباعة قدر ما أن يكون المحتوى مختلفًا، ولم تكن الرؤية واضحة بخصوصه لظروفي الشخصية وقتها، إذ يجب أن أجد عنوانًا عظيمًا يستحق الترجمة؛ لذلك عزفت عن البحث عن عنوان جاهز وقررت أن أكون كتابًا من مختاراتي الشخصية، وهنا برز تحد آخر، ففي المعارض العربية كتب مختارات كثيرة حول غالبية المواضيع، وبالتالي فلا بد أن يكون ما يجمعها مميزًا، فاخترت موضوع القراءة بسبب قصة أخرى بطلها ماريو بارغاس يوسا أيضًا – وقد ذكرتها في الكتاب –، وكانت هذه المجموعة هي أول مجموعة نصوص مترجمة حول القراءة في الوطن العربي. اخترت لما جمعته عنوان «داخل المكتبة.. خارج العالم!» وقد قدم الكتاب الدكتور سعد البازعي مشكورًا، ونشرته عند دار أثر السعودية دون أي صعوبات تذكر.
اتضحت الرؤية حاليا فيما يتعلق بالعناوين القادمة، ونسأل الله التوفيق والسداد والقبول فيما نقدم.
بشارة خيرة
من جهته اعتبر المترجم الشاب راضي النماصي أنّ الترجمة الأدبية في المملكة مشهد ثقافي جميل ويبشر بالخير في الأيام القادمة، موضحاً أنّ هناك ميلاً لترجمة الرواية على بقية الأجناس الأدبية، وذلك بسبب شعبيتها الطاغية حول العالم، ولكن مع كثرة المترجمين سيتم الالتفات إلى الشعر، والقصة، والمسرح، وغيرها، متمنياً وجود مترجمين سعوديين عن غير اللغة الإنجليزية.
وعن مسألة تزايد الترجمات الشابة وربطها بفعل الحماس، علق: “لا يمكن الحكم على ظاهرة معينة وهي في طور النشأة، لكن من المؤكد أنّ هناك من دخل بقصد اللحاق بالموجة، وسينتهي عندما يشعر بالملل، وعلى الطرف الآخر نرى أنّ هناك من ذهب إلى الخارج بشهادة الهندسة وعاد بماجستير في الترجمة، ولا ننسى من اختار لحياته الجامعية أن تكون في كليات اللغات والترجمة منذ البداية”، موضحاً أنّه ليس هناك ردود فعل سلبية حول ترجمات الشباب السعودي.
وحول الدعم من أجل ترسيخ حركة ترجمة واعية وهامة في المشهد الثقافي المحلي، استشهد النماصي بتجربة الأشقاء في الإمارات، التي تعتبر رائدة في دعم حركة الترجمة العربية، والمتمثلة في مشروع (كلمة)، مضيفا: “أرى أنّ نسخة سعودية مثل هذا المشروع كفيلة بإحداث نقلة نوعية للمترجمين الشباب بالمملكة، ولكن بشرط أساسي وهو أن لا يخضع المشروع للبيروقراطية أو القيود المعطلة لمثل هذه المشروعات، وإلا فلا فرق بينها وبين العديد من الجمعيات والفروع الثقافية لأندية رعاية الشباب والأندية الأدبية التي أنشئت وبعضها قد احتوى أقساماً للترجمة، ولم نقرأ لها نتاجاً”.
لتسعة أدباء عالميين
“داخل المكتبة خارج العالم”.. نزهة كونية في عوالم القراءة
الدمام – علي سعيد
يترجم راضي النماصي شغفه بعوالم القراءة إلى كتاب. المترجم السعودي الشاب يجمع عددًا من خطب ومقالات تسعة أدباء عالميين حول عالم القراءة في كتاب صدر أخيرًا عن دار أثر بالدمام، تحت عنوان (داخل المكتبة خارج العالم). الكتاب حظي بتقديم الناقد المعروف الدكتور سعد البازعي، تشجيعا ومباركة لهذا الجهد المثابر، الذي تضمن خلاصات آراء وتجارب كتّاب الأدب العالميين حول مسألة القراءة.
قد يراود الكثير منا، شعور بأن قراءة الأدب قد تكون غير ضرورية، أمام ضرورات أخرى أكثر إلحاحا في الحياة. غير أن نزهة في واحدة من حدائق هذا الكتاب ستجيب على هذا السؤال الأساسي، كما في مقالة الروائي البيروفي ماريو بارغاس يوسا (لماذا نقرأ الأدب). يقول الروائي الحاصل على جائزة نوبل: ” لا شيء يحمي الإنسان من الغباء والكبرياء والتعصب والفصل الديني والسياسي والقومي أفضل من تلك الحقيقة التي تظهر دائما في الأدب العظيم، بأن الرجال والنساء من كل الأمم متساوون بشكل أساسي وأن الظلم بينهم هو ما يزرع التفرقة والخوف والاستغلال، لا يوجد من يعلمنا أفضل من الأدب أننا نرى برغم فروقاتنا العرقية والاجتماعية.. ثراء الجنس البشري، و لايوجد مثل الأدب لكي يمجد هذه الفروقات بوصفها مظهرا من مظاهر الإبداع الإنساني”. للروائي الروسي فلاديمير نابكوف، صاحب رواية لولينا، عبارة جميلة في الكتاب تقول: القاريء النشط، القاريء العظيم والقاريء الخلاّق هو قاريء يعيد مايقرأ. أما البيرتو مانغويل له خطبة مؤثرة في الكتاب، يقول فيها: علينا التزام تجاه القراءة لأطفالنا وبصوت عالٍ. يجب ان نقرأ أشياء تمتعهم. متذكرا قصة لقائه الكاملة مع الأديب الأرجنتيني الكبير خورخي لويس بورخيس عندما كان يعمل في متجر للكتب وهو لايزال في سن الخامسة عشرة. أما هيرمان هيسه الروائي الألماني العبقري فيحضر في الكتاب بقوة من خلال خطبة، هامة صنف فيها أنواع القراء. نتوقف عند نوع أسماه (القاريء الساذج)، يقول هسه، معرفا: ” يأخذ هؤلاء شخصية الكاتب لا مؤلفاته على أنها آخر وأعلى قيمة في الكتابة.. ولا يضع هذا القاريء الساذج أي اعتبار له حين يقرأ”. في الكتاب الكثير من الكلمات التي ألقاها أدباء كبار أمام محافل، وفيه أيضا للقاريء فرصة للتأكد على أهمية أن ينتمي الإنسان لعالم الكتب والقراءة. لكن أيضا فيه، إشارة نبيهة للمترجم الذي يختم بالقول: كل ما يتطلبه منك هذا الكتاب هو ألا تقرأ مثل باقي الناس وإلا ستفكر مثلهم.
الثقافية – عطية الخبراني :
قال الكاتب والمترجم راضي النماصي إن كتابه الصادر حديثاً عن دار أثر (داخل المكتبة .. خارج العالم) هو عبارة عن نصوص مطولة مختارة حول تسعة من كبار المؤلفين حول العالم عن القراءة. ويضيف النماصي: أتت فكرة الكتاب من اقتناعي بأن الكاتب المبدع – وبالضرورة القارئ – ينظر للقراءة من ناحية الممارسة بشكل مختلف، كما أن من المؤكد أن لهم أسبابهم الخاصة للقراءة في جنس معين دون الآخر وأسبابهم الخاصة لحب القراءة من الأساس؛ وذلك بعد قراءتي للرواية الرائعة ((مدام بوفاري))، ومن بعدها قراءة كتاب الروائي البيروفي الكبير ماريو بارغاس يوسا عن الرواية، وهو بعنوان ((مجون لا نهائي))، إذ شعرت بأني لم أقرأ الرواية مطلقًا بعد تبصراته المذهلة في الرواية.
ويرى النماصي أن ما يميز ((داخل المكتبة.. خارج العالم!)) هو أنه ليس عن الكتابة أو حب الكتب، بل عن القراءة بأعين مبدعين من حول العالم. كما أني – والحديث للمؤلف – أستطيع القول بأنها أول أنطولوجيا مترجمة عن القراءة في العالم العربي في وجود طوفان من الكتب التي تتحدث عن الكتابة، سواء مترجمة أو مكتوبة باللغة العربية، معتقداً أن الكتاب حافل بالآراء المميزة والغريبة التي تستحق الاهتمام والتداول، والخروج بقناعة مختلفة عما كان عليها أي شخص ممن اقتنى أو سيقتني الكتاب.
الجدير بالذكر أن الكتاب قدم له الناقد الدكتور سعد البازعي ومن المتوقع وجوده في معرض الكتاب القادم في جدة.
أحمد زين- جريدة الحياة
«داخل المكتبة خارج العالم» (دار أثر) هو باكورة الكاتب والمترجم السعودي الشاب راضي النماصي. والكتاب الذي قدم له الناقد سعد البازعي عبارة عن نصوص مختارة لعدد من الكّتاب العالميين عن موضوع واحد، هو القراءة وأحوالها. الأسماء التي توقف عندها راضي النماصي، على قدر كبير من الأهمية، كما أنها معروفة جدًا لدى القارئ العربي، عبر ترجمات عدة لبعض كتبها. ومن هؤلاء: فيرجينيا وولف: كيف نقرأ كتابًا كما يجب؟ رديارد كيبلنغ: منافع القراءة، وهنري ميللر: أن أقرأ أو لا أقرأ، وهيرمان هيسه: حول قراءة الكتاب، فلاديمير نابوكوف: القراء الجيدون والكّتاب الجيدون، وماريو بارغاس: لماذا نقرأ الأدب؟ وجوزيف برودسكي: كيف نقرأ كتابًا؟ ونيل جايمان: أهمية المكتبات والقراءة، وألبرتو ما نغويل: فن القراءة وحرفة الكتابة.
يقول البازعي في مقدمته للكتاب: مفرح هو الطموح لدى شبابنا المثقف، ومبهج على نحو خاص حين يكون الطموح إلى النشاط في مجال يملؤه الفراغ، لا لقلة الإسهامات وإنما لضخامة الحاجة. ذاك كان شعوري وأنا أتلقى من المترجم الشاب راضي النماصي هذه الإضمامة من النصوص التي محورها الكتابة. سعدت بالعمل سعادة مضاعفة، لأنه جهد شاب مثقف طموح، وسعدت به لأنه في الترجمة، وسعدت به ثالثة لأن ما ترجمه يعّرف برؤى مجموعة من أهم كتاب العالم في العصر الحديث. إنني إذ أقدم هذا العمل للقارئ لأشعر بأنه سيضيف إليه الكثير مثلما أضاف إلي، متمنيًا للمترجم استمرار النشاط وللقارئ محصوًلا وفير المتعة والفائدة».
أما راضي نفسه فيقول في تقديمه: أزعم أني قارئ جيد على أقل تقدير، ولكني أواجه مشكلة منذ زمن بعيد في الحديث عن الكتب التي تعجبني. أستطيع الكتابة على امتداد صفحات عن روايات جيدة أو معقولة، وأستطيع الإفاضة حينما أتحدث عن الكتب التي لا تعجبني، لكني لا أعلم ما الذي يحدث حينما أود الحديث عن كتاٍب أبجله.. حدث أن انفكت هذه العقدة عندما أردت الحديث عن إيما بوفاري وحكايتها الساحرة، ويا لها من رواية عظيمة. ولكن بمجرد أن قرأت كتاب الروائي البيروفي العظيم ماريو بارغاس يوسا عن هذه الرواية، الذي كان بعنوان «مجون لا نهائي: فلوبير ومدام بوفاري»، شعرت بأني لم أقرأها مطلقًا. كيف له أن يرى كل ذلك الكون الكامن في ذات الكتاب الذي قرأته؟ وكيف استطاع الحفر في هيكل الرواية والخروج بمعاٍن أنفذ مما وجدت؟ ألم نقرأ الكتاب نفسه؟
كل ما يطلبه منك هذا الكتاب هو ألا تقرأ مثل بقية الناس وإلا ستفكر مثلهم. فهذه المجموعة ليست عن الكتب، ولا عن المكتبات، بل عن القراءة فعًلا وممارسة وكيف ينظر إليها تسعة من كبار المؤلفين العالميين الذين أثروا العالم بنتاجهم المميز. لا أطلب منك أن تتبع ما قالوه وإن أردت فهذا خيارك لكن لا تقرأ كما كنت تفعل، أو على الأقل لا تقرأ من أجل ما كنت تقرأ لأجله. اقرأ بشكل مختلف لترى بطريقة مختلفة، ومن هنا ستنطلق وتعبر عن ذاتك بما يختلف عن بقية من حولك. سترى في هذا الكتاب نماذج مختلفة من القراء المميزين ونظرتهم المختلفة للقراءة وما يتصل بها، مما سيخرج بك كما آمل إلى مستوى جديد للقراءة، سواء بإتباعهم أو بشق طريقك الخاص». ظلت فكرة الكتاب تراودني كالهاجس. كنت أعمل عليها ببطء شديد، ولم يكن في البال إنهاؤها خلال فترة قريبة؛ ولكن تشجيع الأصدقاء هو ما حفزني للبحث عن هذه النصوص المميزة، التي تتعلق بموضوع القراءة كونها ممارسة، ومن ثم ترجمتها.
جريدة “نيويورك تايمز” – 8 مايو 1971م
ما يقوم بمقايضته الكاتب أو الشاعر دائمًا غريب. أتذكر اقتباسًا لتشسترتون[1] يقول فيه: “هناك شيءٌ واحدٌ تبقى له الحاجة مستمرة: كل شيء!”. وبالنسبة للكاتب، تعني كلمة “كل شيء” أكثر من كلمة شاملة، فهو يأخذها بشكل حرفي، وتعني له الشيء الأهم والأساسي، أي التجربة البشرية بشموليّتها. على سبيل المثال، يحتاج الكاتب للعزلة، وينال حصّته منها. ويحتاج أيضًا للحب، ويجد من يشاطره الحب ومن لا يشاطره. ويحتاج للصداقة أيضًا.. بل للكون بأكمله في واقع الأمر. إذ يجب أن يكون الشخص شاردًا، يعيش حياتين بشكلٍ أو آخر، لكي يصبح كاتبًا.
منذ زمنٍ بعيد، نشرت كتابي الأول “[2]Fervor de Buenos Aires” سنة 1923. لم يكن هذا الكتاب مديحًا لبوينوس آيرس قدر ما كان محاولةً مني لوصف ما أشعر به تجاه هذه المدينة. عرفت لحظتها أن الكثير ينقصني، على الرغم من أنّي عشت في جوٍّ أدبي، فقد كان أبي أديبًا، ومع ذلك لم يكن الأمر كافيًا، حتجت إلى أكثر من ذلك ووجدته فعلًا على يد الصداقات وفي المحادثات الأدبية.
ما يجب أن تمنحه جامعةٌ عظيمةٌ لكاتبٍ شاب هو، وبشكلٍ دقيق، التالي: الحوار، فن النقاش، فن الموافقة، وفن الاختلاف؛ وربما يكون الأخير هو أهم تلك الفنون. بعيدًا عن كل ذلك، نستطيع أن نقول بأن اللحظة باتت مؤاتية حينما يحس الكاتب الشاب بأنه يستطيع صياغة مشاعره من خلال القصائد. يجب عليه أن يبدأ ذلك من خلال تقليد الشعراء الذين يحبهم. وهكذا، يجد الشاعر صوته الداخلي بينما يفقد ذاته أثناء التقليد، أي يعيش حياتين في ذات الوقت، حياته الواقعية بكل ما يمكنه، وحياةً أخرى يتقمص بها، يحتاج لخلقها، ويصيغ بها أحلامه واقعًا.
هذا هو الهدف الأساسي في برنامج كلية الفنون بجامعة كولومبيا. وأنا – في هذا المقام – أتحدث بالنيابة عن العديد من الشبان والفتيات الذين يناضلون في هذه الجامعة من أجل أن يصبحوا كتّابًا، ولم يجدوا صوتهم بعد. أمضيْتُ أسبوعين في هذا المكان شارحًا لهؤلاء الطلاب التوّاقين للكتابة، وأستطيع أن أرى ما تعنيه هذه الدورات لهم، وأهميتها للأدب. لا يحظى الشبان في بلادي بمثلها.
دعونا نفكر بكل الشعراء والكتّاب الذي لم يظهروا بعد، وعن احتمال جمعهم سويًا وتعليمهم في مكانٍ واحد. أؤمن بأن هذا هو واجبنا، مساعدة هذه الكفاءات المستقبليّة لتحقيق هدفهم النهائي بكشفهم لأنفسهم، والذي سيخدم الأدب العظيم لاحقًا. الأدب ليس مجرّد ضمٍ للكلمات، ما يهم فعلًا هو ما لم يقل، أو ما يمكن أن يُقرأ بين السطور. ما لم يكن مرتبطًا بالإحساس في دواخلنا، فليس الأدب إلا لعبة، وكلنا نعلم بالطبع أنه أكثر من ذلك.
كلّنا نملك متعة القارئ، ولكن الكاتب يملك تلك المتعة بالإضافة إلى مهمّة الكتابة؛ وتعدّ هذه التجربة مكافأة بالإضافة لغرابتها. نحن ندين لكل الكتّاب الشّباب بفرصة اجتماعنا سويًّا، وبفرصة الاتفاق والاختلاف، وأخيرًا ندين لهم بالوصول لحِرْفَةِ الكتابة.
الهوامش:
[1] ج. ك. تشسترتون – G.K. Chesterton – فيلسوف و شاعر وروائي وكاتب مقالات إنجليزي (1874-1936).
[2] “حماسة بوينس آيرس”، وهو ديوان شعري.
«لا يعرف الناس ما الذي يعنيه أن تكون عربياً بعد السادسة من عمرك». هذا ما كتبه المؤلف الصومالي محمد علي ديريه في الغلاف الخلفي لمجموعته القصصية (السردية) «إلى كاراكاس بلا عودة». هاجر ديريه بعد مولده في الصومال في سنٍ مبكرة، ودرس في المملكة العربية السعودية والسودان، وهي تجارب تكوينية كان من شأنها أن تؤثر بعمق في مساهماته (مشاركاته) للكتابة العربية المعاصرة. مثل غيره من الكُتَّاب الصوماليين في الشتات، يجنح ديريه إلى التعامل مع الثيمات المعتادة حول الحرب والمنفى، ولكن من منظور جديد. فعلى عكس المؤلفين العرب في مدنٍ مثل بيروت وبغداد، يستخدم ديريه اللغة العربية لوصف حربٍ أهلية أخرى، ولكن على الجانب الآخر من البحر الأحمر. في كتاباته حول الهجرة، والتي يصفها بـ «سرديات قرصان عربي»، يتمثل العالم العربي كنقطة وصولٍ لا كنقطة مغادرة.
في قصة «لعنة الجنوب»، التي قمتُ بترجمتها أخيراً إلى الإنكليزية، يترك شخصٌ ما موطنه – ولا يقوم بتسميته الصومال مباشرة – لكي يبدأ حياة جديدة في السعودية. يحاول ذلك الشخص نسيان كل ما يتعلق بأرض أجداده، ولكن جهوده تبوء بالفشل في نهاية المطاف، فلا تزال بقايا الصومال مترسبة في ذهنه. على رغم أن ديريه لم يذكر الصومال أو الحرب الأهلية بشكل مباشر، إلا أن ملامحهما تنتشر على طول النص. وفعلاً، كان للإغفال المتعمد ما يشبه الصدمات المتكررة لذاكرة الشخصية الرئيسية.
عبَّر ديريه هنا عن العلاقة مع المنفى ليس جغرافياً، بل ولغوياً كذلك. تحيلنا قصة «لعنة الجنوب» إلى مصدرين مختلفين للغة العربية. الأول يتعامل مع التغيّر اللفظي الذي يلاحظه السارد وهو يرتحل داخل الجزيرة العربية: «عندما تعدى نجران ودخل الأراضي السعودية أتعبه تمرد الحروف على خط الحدود.. القاف الصريح جنوب الحد استحال كافاً مسخاً في شماله.. خشي من تشوه باقي الحروف العربية على امتداد الطريق شمالاً..». لا يشعر السارد بالراحة مع هذا التغيير؛ بدا وكأنه يفقد معالم طريقه تجاه النسيان مرة أخرى. تعلّم ذلك الشخص العربية واتخذها لغة له، بينما يحاول في الوقت نفسه نسيان لغته الأم، ولكنه في الوقت نفسه يكتشف أن لغته الجديدة تتخذ أشكالاً ولهجات عدة، كأن طريقه نحو الخلاص لن ينتهي. في نهاية القصة، تعاني الشخصية الرئيسية من حمى انتقلت له خلال وجوده في موطنه، وأثناء نوبات الحمى تضيع محاولات لغته الأم سدى في التغلب على اللغة العربية: «الهذيان لم يفضحه أمام الآخرين، فكان يهذي بلغته الأم والتي لا تلتقي مع العربية سوى في الأسماء..». وتذكرنا اللغة هنا، وهي استعارة للوطن، باستحالة نكران شخصٍ لجذوره أو محوها. على مدى عقود، تم تناول مواضيع مثل الحرب الأهلية والمنفى والهجرة من العديد من الروائيين الموهوبين في بلدان مثل مصر، المغرب، لبنان والعراق، لكن الروائيين الصوماليين أخيراً تناولوا إصدار كتابات مهمة باللغة العربية. عرض أولئك المؤلفون وجهات نظرٍ صومالية فريدة إلى القراء العرب من خلال الكلمات في نصوصهم، الجُمل، وحتى مَقاطع الأغاني التي يقتبسونها من اللغة الصومالية. وذلك مع مناقشة مواضيع لا تُطرح عادة في العالم العربي. إلى عام 2010، كانت رواية «نداء الحرية»، التي أصدرها الكاتب محمد طاهر أفرح عام 1976، هي الرواية العربية الوحيدة التي صدرت من مؤلفٍ صومالي. في بيروت عام 2010، نشر ديريه «إلى كاراكاس بلا عودة». وفي عام 2013 نال المركز السادس في جائزة الشارقة للإبداع العربي بفئة الروايات المرتقب إصدارها. كذلك، نشرت مؤلفة صومالية اسمها زهرة مرسل رواية بعنوان «أميرة مع إيقاف التنفيذ» في القاهرة عام 2012. إضافة إلى ذلك، قام العديد من المؤلفين الصوماليين الآخرين بنشر قصص قصيرة وقصائد ونصوص حول المنفى باللغة العربية على الإنترنت، من خلال صفحات مشتركة كـ «المستقبل الصومالي» و«الشاهد».
يملك هؤلاء المؤلفون طلاقة في اللغة العربية ومعرفة عميقة بالثقافة الأدبية العربية، ولكن أدبهم يمتد بروابط متينة تجاه جذورهم الصومالية. معظمهم ينتمي إلى الشتات الصومالي في الجزيرة العربية، وكذلك في بلدان أخرى مثل مصر أو سورية، حيث تعلموا وغالباً ولدوا هناك. يتزامن ظهور هذا النوع من الأدب مع ظهور جيل من الصوماليين الشباب الذين أرغموا على ترك أوطانهم كعاقبة للحرب الأهلية عام 1991 والخلل الاقتصادي والاجتماعي الحاصل جراء تلك الحرب. تقع أحداث نصوصهم في الصومال وفي بلدان أفريقية أخرى، وكذلك اليمن والسعودية وسورية. بهذا المنطق، يمكن مقارنتهم بمؤلفين غربيين ذوي أصول أفريقية وعربية وآسيوية يكتبون باللغة الإنكليزية، مثل جبران خليل جبران، ديانا أبو جابر، ومازا منجستي في الولايات المتحدة. يشترك هؤلاء المؤلفون في كون الصومال ملهمةً لهم، حتى ولو كتبوا عن مواضيع وقضايا جديدة تتعلق بتجربتهم في الغربة. ولكن بالنسبة إليهم، يُعد الوطن العربي وجهة جديدة عوضاً عن كونه وطناً مستعاراً، ولا تعتبر اللغة العربية وسيلة تعبير لهم بقدر ما تعتبر موضوعاً للمناقشة.
يقوم ديريه وكتَّاب صوماليون آخرون من خلال هذا الحراك بإثراء أدب المنفى العربي، وذلك من خلال استقاء مصادر عربية ومعايير عربية في سياق صوماليٍ يمنح من خلال ذلك الأدبَ العربي حدوداً أبعد. بينما يدعو ديريه نفسه بـ «القرصان»، هو يعتبر تاجراً بشكل أكبر في الحقيقة، وهو يقوم بعملية تبادلٍ ثري متخطياً المكان واللغة والثقافة.
يقول برايان ألديس، والذي جعلني أحلم كثيرًا بفعل كتابته للخيال العلمي: “هناك نوعان من الكتّاب: أولئك الذين يجعلونك تفكر، وأولئك الذين يجعلونك تحلم.”. أحد المبادئ التي أؤمن بها هي أن لكلّ شخصٍ على هذا الكوكب قصّةً واحدة جيدة على الأقل ليخبر بها جاره. فيما يلي بعض تأمّلاتي حول أشياء مهمّة في عمليّة خلق نصٍّ ما:
قبل كلّ شيء، على الكاتب أن يكون قارئًا جيّدًا. الكاتب الذي يلتزم بقراءة الكتب الأكاديمية ولا ينظر لما يكتبه الآخرون (وكلامي هنا يشمل التدوينات ومقالات الجرائد وغيرها) لن يعرف ميزاته وعيوبه.
إذن، قبل أن تبدأ بأي شيء، ابحث عن أولئك الذين يهتمّون بمشاركة تجاربهم عبر الكلمات. لم أقل “ابحث عن كتّابٍ آخرين”. ما أقوله هو أن تبحث عن أناسٍ بمهاراتٍ مختلفة، لأن الكتابة لا تختلف عن أيّ نشاطٍ آخر يتمّ بالحماس.
لن يكون رفاقك الجدد بالضّرورة ممّن ينظر لهم النّاس بتقدير ويردّدون بأن لا أفضل منهم. بل الأمر على النّقيض تمامًا، فهؤلاء يقعون في الأخطاء على الرغم من عدم خوفهم من الوقوع فيها، وهذا ما يجعل أعمالهم لا تُميَّز دومًا. لكن هذا النّوع من النّاس هو من يغيّر العالم؛ بعد أن يقع أحدهم في عدة أخطاء، ستجده يخطّط لعملٍ يصنع كلّ الفارق في مجتمعه.
لا ينتظر مثل هؤلاء أن تحلّ الأحداث في حياتهم قبل أن يجدوا الطريقة الأنسب للحديث عنها، بل يقررون الشيء ويقومون بفعله في نفس اللّحظة، وهم يعلمون أن هذا الأمر قد يكون خطيرًا للغاية.
العيش بجانب هذه النوعية من الناس مهم للكاتب، لأنه من المهم أن يعلم بأنه قبل أن يضع أي شيءٍ على الورق، يجب أن يكون حرًّا بما يكفي ليغير اتجاه كتابته حسب ما يجنح خياله. عندما تأتي أيّ جملةٍ إلى نهايتها، يجب أن يفكر الكاتب بأنه قد قطع شوطًا كبيرًا بينما كان يكتب، وأنه يقدر الآن على إنهاء نصّه بوعيٍ كامل أنه خاطر بما يكفي وقدم أفضل ما لديه.
أفضل رفاقك الجدد هو من لا يفكر كالآخرين. ولهذا، تجد نفسك واثقًا بحدسك بينما تبحث عنهم، ولا تهتم لملاحظات الآخرين. يحكم الناس على بعضهم بناءً على ما لديهم من إمكانيات، ويعتري رأي المجتمع تجاه الأشخاص في بعض الأحيان كبرياء ومخاوف.
انضم إلى أولئك الذين لن يقولوا: “انتهى الأمر. يجب أن أتوقف هنا.”. لأنه لا شيء يقف عند نهاية، مثل ما يتبع الربيع الشتاء. حينما تصل إلى طموحك، يجب أن تبدأ من جديد نحو طموحٍ آخر، مستخدمًا ما نلته من علم طوال مسيرتك للهدف السابق.
الحق بأولئك الذين يغنون، ويحكون القصص، ويستمتعون بالحياة، والسعادة تملأ أعينهم. لأن السعادة تستمر بذاتها وتمنع الناس من أن يكونوا عاجزين بسبب الإحباط والوحدة والمشاكل.
واحكِ قصتك، حتى لو كانت عائلتك هم من سيقرأها فقط.
لطالما كانت القراءة بالنسبة لي شيئاً أشبه برسم الخرائط. ككل القراء، ما زالت لدي ثقة عمياء بقابلية القراءة على رسم خريطة لعالمي. أعلم أنه في صفحة ما، تقبع في أحد رفوف مكتبتي، والتي تحدق الآن فيَّ للأسفل، يوجد السؤال الذي يلح عليَّ في هذه الأيام، مكتوباً منذ زمن طويل عبر كلمات شخص لم يعلم بوجودي حتى. العلاقة بين القارئ والكتاب هي علاقة تمحو حدود الزمان والمكان، وتتيح لما أسماه فرانثيسكو دي كيفيدو في القرن الـ16 «محادثات مع الموتى». أنا أكشف نفسي في هذه المحادثات، وهي بالتالي تشكّلني وتهبني قوة سحرية محددة.
قبل ما يربو على ستة آلاف سنة، بعد بضعة قرون فقط من اختراع الكتابة، كان من يملك القابلية لفك الكلمات المكتوبة في زاوية منسية من بلاد ما بين النهرين يوصف بالكاتب وليس بالقارئ. ربما كان السبب لذلك هو إضعاف التركيز على أعظم مواهبهم، وهي القدرة على الوصول لأرشيف الذاكرة البشرية، وإنقاذ صوت تجربتنا البشرية من الماضي. منذ تلك البدايات النائية، أنتجت قوة القراء في مجتمعاتهم شتى أنواع المخاوف، ابتداءً بإحياء رسائل من الماضي، مروراً بخلق مساحات سرية لا يمكن الوصل إليها دون القراءة، وانتهاءً بقدرتهم على إعادة تعريف الكون والتمرد ضد الظلم، وكل ذلك يتم عن طريق صفحة معينة. بهذه المعجزات، نستطيع نحن القراء، وبتلك الصفحات، أن ننجو من الحقارة والغباء التي نبدو دائماً مدانين بهما.
ومع ذلك، ما زالت التفاهة مغرية. من أجل تشتيتنا عن القراءة، اخترعنا استراتيجيات للإلهاء؛ لكي تحولنا إلى مستهلكين نهمين، حيث يكون كل حديث هو المطلوب بدلاً عن الراسخ في الذاكرة. نحن نجلُّ الابتذال والطموح المالي بينما ننزع عن الفعل الثقافي أناقته ورقيه. استبدلنا المفاهيم الجمالية والأخلاقية بقيم اقتصادية، ونقدم وسائل ترفيه تمنح متعة لحظية ووهم محادثات كونية؛ عوضاً عن التحدي الممتع والبطء الأنيس الذي يرافق القراءة. قدمنا الشاشات الإلكترونية على الورق المطبوع، واستبدلنا المكتبات الورقية الضاربة بجذورها في الزمان والمكان بشبكات لا نهائية تقدم فقط اللحظية والتطرف كأشهر سماتها المجهولة.
هذه العقبات ليست جديدة. في باريس أثناء القرن الـ15، حيث أبراج الأجراس العالية، التي كان يختبئ بها كوازيمودو الأحدب، توجد بها خلوة راهب تستخدم كمكان للدراسة وكمختبر كيميائي. مد رئيس الشمامسة كلود فرولو يده إلى مجلد مطبوع فيها، وكان بيده الأخرى يشير إلى المعالم القوطية لكاتدرائية نوتردام، والتي يراها في الأسفل تحت نافذته. كان القس الحزين يقول: «هذا»، يعني الكتاب، «سيقتل تلك»، مشيراً إلى معالم الكاتدرائية. استناداً إلى فرولو، وهو معاصر لغوتنبرغ، سيدمر الكتاب المطبوع صرح الكتب المخطوطة، وستضع الطباعة نهاية للنصوص الأدبية للعمارة التي شيدت في العصور الوسطى، والتي كانت تحوي في كل عمود وعتبة وبوابة نصاً يستحق القراءة.
وبعد ذلك، كما نرى اليوم، أخطأ فرولو في نبوءته بالتأكيد. بعد خمسة قرون، استطعنا الولوج إلى معارف العمارة القروسطية، بفضل الكتاب المطبوع، مرفقة بتعليقات كل من فيوليت لي دوك وجون راسكن. إضافة إلى إعادة تخيلها عبر من لو كوربوزييه وفرانك غيهري. كان فرولو يخاف من أن التكنولوجيا الجديدة ستعدم القديمة، بينما نسي أن قدراتنا الإبداعية معجزة، وأننا نستطيع أن نجد استعمالاً آخر لآلة أخرى، فنحن لا نفتقر إلى الطموح.
تظل مغالطة فرولو باقية؛ بسبب من يقيم تعارضاً بين الأوراق المطبوعة والشاشات الإلكترونية. هم يريدون منا أن نعتقد بأن الكتاب – لكونه بالنسبة لهم مجرد أداة بفاعلية عجلة أو سكين، قادرة على حفظ الذاكرة والتجربة، وعلى التفاعل بصدق، تسمح لنا بالبداية في نص ما وإنهائه أينما نريد، ونضع التعليقات عليه في الهوامش، ونُخضع إيقاع قراءة النص لمشيئتنا- يجب أن يستبدل بأداة أخرى. هذه الخيارات المتعنتة تؤدي إلى تطرف تكنوقراطي. في عالم ذكي، تتشارك كل من الأجهزة الإلكترونية والكتب مساحة في طاولة العمل، وتوفر لدى كل منا خيارات مختلفة وإمكانيات متعددة للقراءة. كما يعلم القراء، فالسياق مهم، سواء أكان فكرياً أم مادياً.
في وقت ما، قبل قرون من قدوم المسيح، ظهر نص غريب يزعم أنه سيرة لآدم وحواء. طالما أحب القراء أن يتخيلوا ماضياً أو تكملة للقصص المفضلة لديهم، ولا تُعد القصص المذكورة في الكتاب المقدس استثناءً، بادئاً من بضع صفحات في سفر التكوين، والتي أشارت إلى قصة أسلافنا الأسطوريين، كتب شخص مجهول سيرة حياة آدم وحواء، معيداً ذكر مغامراتهما، وفي الغالب قصة شقائهما، بعد نفيهما من جنة عدن. في نهاية السيرة، تظهر إحدى حبكات ما بعد الحداثة، والتي تظهر في أقدم آدابنا بشكل شائع، حينما تطلب حواء من ابنها شيث أن يكتب سيرة حقيقية لما حدث لهم. النص الذي يحمله القارئ الآن هو تلك السيرة التي كتبها شيث. ما قالته حواء لشيث هو التالي: «لكن استمعوا لي، يا أولادي. اجعلوا لأنفسكم ألواحاً من الطين والحجر، واكتبوا عليها قصة حياتي وحياة أبيكم، وكل ما شاهدتموه أو سمعتموه منا. إن قضى علينا الرب بالطوفان، فستتحلل ألواح الطين وتبقى ألواح الحجر. وإن قضى علينا بالحريق، فستذوب ألواح الحجر وتقسو ألواح الطين». لم تقف حواء بحكمتها على خيار واحد فقط بين الطين والحجر، فربما يكون النص المنحوت هو نفسه، لكن كل مادة من مواد اللوح لها ميزتها، وهي أرادت الميزتين لكي تخلد.
مضت 20 سنة تقريباً منذ أنهيت (أو هجرْتُ) كتاب «تاريخ القراءة». في ذلك الوقت، كنت أعتقد بأني أستكشف فعل القراءة، وخصائص الحِرَف المتعلقة بها، وكيف أتت إلى الوجود. لم أعلم بأني أؤكد حقنا كقراء في مطاردة رسالتنا (أو شغفنا)، متخطين مخاوفنا الاقتصادية والسياسية والتكنولوجية، في عالم خيالي لا حدود له، حيث لا نكون مضطرين إلى اختيار شيء واحد، ونملك جميع الخيارات مثل حواء. الأدب ليس عقيدة، فهو يوفر أسئلة، ولا يوفر أجوبة قاطعة. المكتبات هي أماكن للحرية الفكرية، وأي عواقب تعتريها فهي منا وحدنا. القراءة هي، أو يمكن لها أن تكون، أوساطاً لا نهاية لها، أتيناها لكي نعرف القليل عن أنفسنا، ليس عن طريق الاعتراض بل عن طريق التعرف على كلمات كتبت لنا شخصياً على حدة، في مكان ناء ومنذ زمن سحيق.
تعتبر مادتي، وبمساعدة أشياء أخرى، نوعًا من تحقيق استقصائي حول لغز الشكل الأدبي.
قد تفيد عناوين مثل «كيف تكون قارئًا جيدًا» أو «اللطف مع المؤلفين» بتقديم ترجمة لتلك المناقشات العديدة حول مؤلفين كثر، وذلك لأجل خطتي وهي أن نتعامل بحب وبشكل حميمي وبالتفاصيل مع عدة روائع أوروبية. قبل مائة عام، كتب غوستاف فلوبير رسالة تضمنت الملاحظة التالية: “كفى بالمرء حكمة لو عرف جيدًا نصف دزينة من الكتب.”
على المرء في القراءة أن يلاحظ التفاصيل ويعاملها برفق. لا بأس بالحكم عندما تستكشف كل أغوار الكتاب الواضحة بحب. إذا بدأ القارئ وفي باله حكم مسبق، سيبدأ بالنهاية الخاطئة وسيهرب من الكتاب قبل أن يفهمه حتى. فلا يوجد شيء أكثر مللًا وظلمًا من قراءة كتاب، ولنقل «مدام بوفاري»، بتصور مسبق أنها شجب للبورجوازية. يجب علينا أن نتذكر دائمًا أن العمل الفني ليس سوى خلق عالم جديد دومًا؛ ولذلك يجب أن نتفحص ذلك العالم الجديد قدر المستطاع، أي أن نصل إليه وكأنه شيء خلق للتو، وليس له صلة بالعوالم التي نعرفها حاليًا. عندما يُدرس ذلك العالم بقرب، عندها، وعندها فقط، فلنختبر ما يربطه بالعوالم الأخرى، وبالفروع الأخرى من المعرفة.
يبرز سؤال آخر: هل نستطيع التوقع بأننا سننال قدرًا من المعرفة عن الأماكن والتاريخ من رواية ما؟ هل يستطيع أن يكون أحدنا بهذه السذاجة ليعتقد بأنه يستطيع تعلم أي شيء عن الماضي من تلك الروايات المترهلة “الأفضل مبيعًا” والتي تلتقطها أندية الكتب بوصفها روايات تاريخية؟ لكن ماذا عن نيل المعرفة من الروائع الأدبية؟ هل نستطيع الاعتماد على صورة جاين أوستن لإقطاعيي إنجلترا وملاك الأراضي فيها وتلك المساحات الشاسعة، بينما كل ما كانت تعرفه هي صالة استقبال لأحد القساوسة؟ وهل نستطيع القول بأن رواية «منزل كئيب» الرومانسية الرائعة لديكنز، والتي جرت أحداثها في مدينة لندن الخلابة كانت دراسة تاريخية للندن قبل مائة عام؟ بالتأكيد لا. وهذا الشيء ينطبق على العديد من الروايات الأخرى في تلك السلسلة. الحقيقة هي أن كل الروايات العظيمة هي في المقام الأول حكايات عظيمة، والروايات في هذه السلسلة «سلسلة الروائع» هي حكايات في قمة الروعة في المقام الأول.
المكان والزمان، ألوان فصول السنة، خلجات العقل وحركات الجسد؛ كل هذه بالنسبة للكاتب العبقري – بما استطعنا تخمينه، وأنا واثق أن تخميننا صائب – ليست ملاحظات عادية يمكن التقاطها من خزنة الحقائق العامة، بل هي سلسلة من المفاجآت الفريدة التي تَعلمها الفنانون العظام ليعبروا بطريقتهم الخاصة. بالنسبة لمؤلفين أقل شأنًا، فتُترك لهم الكتابات المبتذلة للأماكن المعتادة والشائعة، لأنهم لا يهتمون بإعادة تكوين العالم؛ هم ببساطة يفعلون أقصى ما لديهم لكي يخرجوا عن ترتيب معين من الأشياء وعن الأنماط التقليدية للكتابة القصصية. ما يستطيع كتابته أولئك المؤلفون العاديون هو بضع تراكيب معقدة تضع حدًا مسليًا بطريقة معتدلة عابرة، لأن القراء العاديين يحبون أن يتعرفوا على أفكارهم خلف قناع ظريف يمكن كشفه بسهولة. لكن الكاتب العظيم، ذلك الشخص الذي يرسل كواكبًا دوارة، ويخلق شخصًا نائمًا ويعبث بأضلعه وأحشائه بكل شغف، لا يهمل أي قيْمة، ويجب عليه أن يخلق قيَمه بنفسه. فن الكتابة هو عمل عقيم إن لم يعْنِ بالمقام الأول أنه فن إمكانية التخيل. قد تكون مادة هذا العالم واقعية بما يكفي – بعيدًا حيثما ترنو الواقعية –، لكنها لا توجد أبدًا كوحدة كاملة. هي محض فوضى، والكاتب يقول لها “انطلقي!” سامحًا لهذا العالم أن يومض ويندمج ببعضه ليظهر بشكله الناتج أخيرًا. تمت إعادة دمج هذا العالم بكل ذراته عن طريق ذلك الكاتب، وليس بشكل سطحي عبر ما هو مرئي ومحسوس. الكاتب هو أول من يلمع هذا العالم ويخلق العناصر الطبيعية التي يحتويها هذا العالم. يجب أن يكون التوت الموجود في ذلك العالم صالحًا للأكل، ويمكن ترويض ذلك المخلوق الأرقط الذي اعترض طريقي. ستُسمَّى تلك البحيرة بين الأشجار بحيرات العقيق، أو بشكل فني أكثر، بحيرة مياه الغسيل. وذلك الضباب عبارة عن جبل، وهذا الجبل يجب أن يُحتل. يصعد الكاتب العظيم في منحدر ذلك الجبل غير المطروق؛ وحين يصل القمة، على تلة عاصفة، من سيواجه؟ سيواجه ذلك القارئ السعيد الذي يتنفس بصعوبة، وبكل عفوية سيتعانقان ويرتبطان للأبد، إذا قُدر للكتاب أن يخلد.
في إحدى الليالي، وفي كلية تتبع إحدى المحافظات النائية، حيث كنت ألقي محاضرة مطولة، اقترحت اختبارًا صغيرًا: طلبت عشرة تعاريف للقارئ، ومن هذه العشرة يجب على الطلاب أن يختاروا منها أربعة تختلط لتكون التعريف الأمثل للقارئ. للأسف أضعت القائمة، لكن ما أستطيع تذكره أن التعريفات كانت شيئًا من هذا القبيل. اختر أربعة إجابات للسؤال عما يجب على القارئ فعله ليكون قارئًا جيدًا:
مال الطلاب بشكل كبير للتعريف العاطفي، الصورة المتحركة، والزاوية الاجتماعية-الاقتصادية أو التاريخية. بالطبع، كما خمنتم، القارئ الجيد هو من يملك الخيال، الذاكرة، المفردات، وبعض الحس الفني.. والذي أود تطويره في نفسي والآخرين متى ما سنحت الفرصة.
بالمناسبة، أنا أستعمل كلمة “قارئ” بشكل فضفاض جدًا. الغريب بما فيه الكفاية، أن الشخص لا يستطيع قراءة كتاب، بل يستطيع فقط إعادة قراءته. القارئ الجيد، القارئ العظيم، القارئ النشط والخلاق هو قارئ يعيد ما يقرأ، وأود أن أخبركم عن السبب. عندما نقرأ كتابًا للمرة الأولى ونحن نحرك أعيننا بمشقة من اليسار لليمين، سطرًا إثر سطر وصفحة إثر صفحة، فإن هذا العمل الجسماني المعقد على الكتاب، والذي يجعلنا نتعرف عليه في حدود الزمان والمكان، يقف بيننا وبين التقدير الفني. عندما نطالع لوحة فنية فنحن لا نحتاج أن نحرك أعيننا بطريقة خاصة، حتى لو كانت مثل الكتاب في عمقه وبما ترمي إليه. نحن نحتاج وقتًا عندما نقرأ أي كتابٍ لنتآلف معه. لا نملك عضوًا حسيًا – كالعين مع اللوحة – يمكن أن يأخذ الصورة بأكملها ويستمتع بتفاصيلها. لكن عندما نقرأ للمرة الثانية، الثالثة، الرابعة، فإنا بشكل ما نتعامل مع الكتاب كما لو كان لوحة.
على كل حال، دعونا لا نخلط بين العين المحسوسة، ذلك الانجاز المهول للتطور، مع العقل، ذلك الانجاز الأكثر تطورًا. أول ما يجذبه الكتاب، مهما يكن، سواءً رواية أو كتاب علمي – والخط الفاصل بينهما ليس واضحًا كما يعتقد العامة – هو العقل. يجب أن يكون العقل، الدماغ، ما هو أعلى العمود الفقري، الأداة الوحيدة التي نتعامل بها مع الكتاب.
والآن، وهذا يحدث كذلك، يجب علينا تأمل السؤال التالي: ما الذي يفعله العقل عندما يواجه القارئ النكد كتابًا جميلًا؟ أولًا، سيذهب المزاج المتجهم بعيدًا، وبشكل أفضل أو أسوأ سيدخل القارئ في روح اللعبة. الجهد المبذول لبدء قراءة كتاب – خصوصًا إذا مُدح من قِبل أناس يعتبرهم القارئ الناشئ جادين أو متابعين للكتب الكلاسيكية – حتى هذا الجهد يصعب تحقيقه، لكن حينما يبذل الجهد، ستكون المنح متعددة ومميزة.
بما أن الكاتب العظيم يستخدم خياله أثناء الكتابة، من الطبيعي والعدل أن يستخدم القارئ خياله أيضًا.
هناك بطبيعة الحال صنفان من الخيال على الأقل في حالة القارئ، ولنرَ أي حالة منهما يجب استعمالها عندما نقرأ كتاباً. أولًا، هناك المتخيل المتواضع، والذي يجنح إلى المشاعر البسيطة، وتلك المشاعر ذات طابع شخصي بالتأكيد. (هناك عدة أصناف تدرج تحت هذا الصنف، في هذا النوع من القراءة العاطفية). قد يغمر أي موقف في الكتاب هذا القارئ بالمشاعر لأنه يتذكر موقفًا حصل له أو شخصًا يعرفه أو تعرف عليه مسبقًا. أو قد نجد أن هناك قارئًا يحتفي بكتاب لأنه يتذكر بلدًا، أو منظرًا، أو طريقة عيش يتذكرها بحنين كجزء من ماضيه. أو، وهذا أسوأ ما قد يفعله قارئ من هذا النوع، أن يعرّف نفسه كإحدى شخصيات الكتاب. لا أود من القراء أن يستخدموا هذه النوعية المتواضعة من الخيال.
إذًا ما هي الأداة الأصلية، والتي يجب أن يستعملها القارئ؟ إنها الذائقة الفنية بالإضافة للخيال المجرد. ما أعتقد أنه يجب أن يؤسس، هو مقياس جمالي متناغم بين عقل القارئ وعقل الكاتب. يجب علينا أن ننعزل ونستمتع بذلك الانعزال، بينما في نفس الوقت نستمتع بشغف بالموجة الداخلية لتحفة ما. من المستحيل أن تكون محايدًا في مثل هذه المواضيع. كل شيء يجلب الاهتمام يكون إلى حد ما غير موضوعي. على سبيل المثال، قد تكون أنت الجالس هناك مجرد حلم بالنسبة لي، بينما أكون كابوسك الدائم. ما أعنيه هو أن القارئ يجب أن يعرف متى وأين يكبح خياله، وهذا يتحقق بأن نفهم ذلك العالم الخاص الذي صاغه المؤلف في منعزله. يجب علينا أن نسمع أشياءً ونراها، أن نتخيل الغرف، الملابس، وأخلاق الشخصيات التي صاغها المؤلف. كان لون عيني فاني برايس في رواية «مانسفيلد بارك[1]» وأثاث غرفتها الصغيرة الباردة تفاصيل مهمة لا غنى عنها.
كلنا بطبيعة الحال نملك أمزجة مختلفة نتعامل بها مع النصوص، وأستطيع أن أقول بأن أفضل مزاج للقارئ يجب أن يحظى به ويطوره هو خليط من الحس الفني والعلمي. الفنان الشغوف وحده سيتعامل بموضوعية حادة في سلوكه مع الكتاب، والحكم بشكل علمي بارد على الكتاب ليس إلا تدميرًا لحرارة البديهة والحدس. إن كان القارئ – على أية حال – يخلو من العاطفة والصبر، صبر العالم وشغف الفنان، من الصعب عليه أن يستمتع بقراءة الأدب العظيم.
لم يوجد الأدب حين كان يصرخ الطفل باكيًا “ذئب، ذئب!”، وكان الذئب خارجًا من الوادي على إثره. وُجد الأدب حينما كان يصرخ الولد “ذئب، ذئب!” ولم يكن هناك ذئب خلفه أصلًا. أن يأكل الذئب صاحبنا المسكين بسبب كذبه المتوالي هو أمرٌ عرضي تمامًا، لكن هناك ما هو أهم. ما بين الذئب الذي يجري في الأحراش، وذلك الذئب في تلك القصة الطويلة، هناك وميض بينهما. ما يومض بينهما، ذلك المنشور الذي يعكس الضياء، هو فن الأدب.
الأدب عبارة عن ابتكار، والكتابة القصصية تنبع من الخيال وحده. أن يُقال عن قصة ما أنها حقيقية لَهُوَ إهانة للفن وللحقيقة في نفس الوقت. كل كاتب عظيم هو مخادع كبير، لكنه يواجه في غشه الطبيعة. الطبيعة أيضًا تخادعنا. من أصغر إشاعة تجري بيننا إلى الألوان المعقدة التي تحمي الطيور والحشرات، هناك في الطبيعة نظام مذهل من الأشياء الساحرة والخدع. الكاتب فقط يتبع إشارة الطبيعة.
لنعد لحظة إلى صديقنا الهارب من الذئب. نستطيع أن نرتب الأمور بالشكل التالي: سحر الفن كان في ظل الذئب الذي اختُرع عمدًا. أما أحلام الصبي حول الذئب، وبعد ذلك قضية خداعه للناس فقد صنعت قصة جيدة. حينما لقي حتفه في النهاية، أعطت القصة مغزى ودرسًا جيدًا فيما وراء النص. لكن الطفل كان الساحر الذي أضاف للقصة طعمها، كان هو المبتكر.
هناك ثلاث وجهات للنظر نستطيع أن نرى بها الكاتب: قد نراه حكاءً، وقد نراه كمعلم، أو قد نراه كساحر. الكاتب العظيم يحتوي هؤلاء الثلاثة، لكن الساحر بداخله هو من يتحكم به ويجعله كاتبًا عظيمًا.
نحن نبحث لدى الحكاء عن الترفيه، عن المتعة العقلية بأبسط صورها، عن المشاركة العاطفية، عن متعة الارتحال إلى مناطق نائية في الزمان والمكان. بينما لدى المعلم نحن ننظر بطريقة مختلفة ترتبط بالعقل، وليس من الضرورة بطريقة أرقى. نحن نذهب للمعلم الموجود بداخل الكاتب ليس فقط للتربية الأخلاقية، بل حتى للمعرفة المباشرة والمعلومات البسيطة. للأسف، عرفت أناسًا كان الغرض من قراءتهم للرواية الفرنسية والرواية الروسية مجرد التعرف على الحياة في باريس السعيدة أو روسيا الكئيبة. أخيرًا، وما يجب أن نضعه فوق كل شيء، الكاتب العظيم هو دائمًا ساحر عظيم، وهنا نأتي إلى الجزء الممتع.. حينما نحاول أن نتشرب ذلك السحر الشخصي لعبقريته، وأن ندرس شكل رواياته وأشعاره والخيال المتقد فيهما والنمط التي تتركب منه.
تختلط الأوجه الثلاثة للكاتب العظيم – السحر والقصة والمغزى –لتجتمع في نقطة واحدة هي الأكثر إشراقًا وفرادة من نوعها، بما أن سحر الفن قد يوجد في أعمق نقطة من القصة، في أكثر الزوايا احتواءً للفكر. هناك روائع لا تحتوي سوى فكر جاف توقظ فينا الحس الفني كما توقظه رواية «مانسفيلد بارك» أو أي رواية لديكنز مليئة بالصور والأحاسيس. يبدو لي أن التركيبة الجيدة لتقييم رواية ما هي، وعلى طول الرواية، مجرد دمج بين دقة الشعر والحدس العلمي. فمن أجل أن نستلقي في ذلك السحر، يجب أن نرى القارئ المميز. فهو لا يقرأ الكتاب بقلبه، ولا بدماغه، بل بعموده الفقري. هناك تحدث تلك الرعشة المنبهة على الرغم من أننا نجعلها بمنأى أثناء القراءة. عندها، نستمتع حسيًا ومعنويًا ونحن نرى ذلك الفنان يبني قلعة أفكاره بالحديد الجميل، والزجاج الأجمل.
[1] Mansfield Park، هي الرواية الثالثة للكاتبة الإنجليزية جاين أوستن. نشرتها سنة 1814.
تقديم
منذ أشهر، حصلت لي تجربة نشر سيئة مع إحدى المواقع العربية الثقافية. اليوم، أعيد طرح هذا الحوار الرائع، والذي ترجمته بحب لشاعرنا العذب بابلو نيرودا، متذكرا مقولته التي تجسد الصورة أعلاه:
“الضحك لغة الروح”
قراءة ممتعة!
حوار بابلو نيرودا مع مجلة باريس ريفيو – يناير 1970
أجرى الحوار: ريتا غويبرت
ترجمة: راضي النماصي
“لم أعتقد بأن حياتي ستنقسم يومًا بين الشعر والسياسة.”، بدأ بابلو نيرودا خطاب ترشحه لرئاسة تشيلي عن طريق الحزب الشيوعي بهذه العبارة. “أنا من أبناء هذه البلاد، والذين عرفوا لعقود نجاحات وإخفاقات وصعوبات تواجدنا كوطن واحد، ومن شارك الفرح والألم بنفس القدر مع كل الشعب. أتيت من طبقة عاملة، ولم أحز في يومٍ ما سلطة، وكنت ولاأزال أعتقد بأن واجبي هو خدمة شعب تشيلي بأفعالي وبقصائدي. عشت وأنا أغني لهم، وأدافع عنهم.”
لأنه مصنف يساريًا، سحب نيرودا ترشيحه بعد شهور من المنافسة الصعبة في الحملات الانتخابية، واستقال من أجل دعم مرشح الوحدة الشعبية: سلفادور الليندي. أجريت هذه المقابلة في منزله في إيسلانيغرا خلال شهر يناير سنة 1970 قبل استقالته.
إيسلانيغرا، أو الجزيرة السوداء، ليست بجزيرة وليست سوداء. هي منتجع شاطئي أنيق يبعد أربعين كيلومترًا جنوب فالباريسو، وعلى بعد ساعتين بالسيارة من العاصمة سانتياجو. لاأحد يعلم من أين أتى الاسم. يعتقد نيرودا بأن الاسم أتي من الصخور السوداء، والتي تحمل أشكال جزر. قبل ثلاثين سنة، حينما لم يكن هذا المكان بنفس الفخامة، اشترى نيرودا من عائدات كتبه ستة آلاف متر مربع على ساحل البحر، وتتضمن تلك المساحة بيتًا صغيرًا على أعلى جرفٍ حاد. ” ثم بدأ المنزل بالنمو، كما ينمو البشر، وكما تنمو النباتات.”.
لدى نيرودا منازل أخرى، يملك منزلًا في هضبة سان كريستوبال في العاصمة سانتياجو، ومنزل آخر في فالباريسو. جاب محلات الأنتيكة والخردة لكي يزين منزله بكل الأشياء. يسأل نيرودا “ألا يشبه ستالين؟” وهو يشير إلى صورة لمغامر إنجليزي يدعى مورغان في صالة الطعام بمنزله في إيسلا نيغرا. ثم يستأنف القول: ” لم يرد بائع التحف أن يبيعني هذه الصورة، ولكن حينما أخبرته أني تشيلي، سألني ماإذا كنت أعرف بابلو نيرودا، وهكذا أقنعته ببيعها لي.”.
يسكن نيرودا “ملاح الأرض” بشكل شبه دائم في منزله بإيسلا نيغرا، مع زوجته الثالثة “ماتيلدا”، والتي يسميها “باتوخا”، تلك المعشوقة التي طالما تغزل فيها بقصائد الحب الشهيرة.
طويل القامة، ممتلئ الجسم، ذو بشرة زيتونية، ملامحه المميزة هي أنف حاد وعينان بنيتان واسعتان مع الجفون. تحركه بطيء لكنه ثابت، ويتحدث بوضوح دون غطرسة. عندما يذهب مع أحدهم للمشي، فهو يحمل نوعين من الأطعمة، برفقة عصاه ومعطفه الريفي الطويل.
يسلي نيرودا زواره القادمون باستمرار في إيسلا نيغرا، وهناك دائمًا تلك الطاولة المخصصة لضيوف الدقيقة الأخيرة. يقوم نيرودا بأكثر تساليه في المشرب، والذي يدخل إليه المرء من خلال ممر صغير من شرفة تطل على البحر. على سقف الممر الصغير تتبدى نقوش فيكتورية وجهاز هاتف قديم. توجد على رفوف النافذة مجموعة من الزجاجات، وقد تم تصميم المشرب كصالون سفينة. للغرفة جدران زجاجية على البحر، نحتت على أطرافها كتابات بخط يد نيرودا، وأسماء أصدقائه الموتى.
خلف المشرب تظهر بوضوح علامة “لا ديون هنا”. يأخذ نيرودا دوره كساقي بمنتهى الجدية، ويحب أن يقدم لضيوفه مشروبات مخلوطة، بالرغم من أنه يفضل السكوتش والنبيذ. يتواجد ملصقان ضد نيرودا على الجدار، واحد منهما سبق واشتراه وهو عائد من رحلته الأخيرة إلى كاراكاس. يظهر ذلك الملصق صورة كبيرة لوجهه، مع عبارة أسفل الملصق “نيرودا، عد إلى موطنك”. أما الآخر، فهو غلاف مجلة من الأرجنتين، يحمل صورة له، ومكتوب في الأسفل “لماذا لايقتل نيرودا نفسه؟”.
الوجبات في إيسلا نيغرا تشيلية نموذجية، وقد ذكر نيرودا بعضها في قصائده: شوربة محار، سمك بصلصة الطماطم، وقطع من الجمبري الصغير. النبيذ كله من تشيلي. في الصيف، يُقدم الطعام في شرفة تطل على حديقة تحتوي محرك قطار قديم. يقول نيرودا عنه: ” ياله من محرك قوي وطاحن، مزمجر وذو صفير حاد، ويطلق أصواتًا كالرعود… أحبه لأنه يبدو وكأنه والت ويتمان.”
تم هذا الحوار خلال فترات قصيرة متقطعة. في الصباح، عقدنا الحوار في المكتبة، والتي تعتبر جناحًا جديدًا في المنزل. انتظرته حتى يفرغ من إجابة بريده، ويفرغ من إحدى قصائده في كتابه الجديد. أو يصحح ألواح الطباعة لأجل الطبعة التشيلية الجديدة من ديوانه الأشهر: عشرون قصيدة حب وأغنية يائسة. حينما يكتب القصيدة، فهو يستعمل الحبر الأخضر في دفتر عادي. يستطيع نيرودا كتابة قصيدة طويلة في وقت قصير نسبيًا، بعدما يصحح قليلًا من الأخطاء. ثم تتم طباعتها على الآلة الكاتبة من قبل سكرتيره وصديقه المقرب لأكثر من خمسين سنة: هوميرو آرسي.
بعد الظهر، حينما يفرغ من قيلولته، كنا نجلس سويًا على مقعد حجري، في الشرفة المطلة على البحر. كان نيرودا يتحدث وهو يمسك بالمذياع الخاص بجهاز التسجيل، والذي كان يسجل صوت تكسر الأمواج، كما لو كان خلفية موسيقية لصوته.
الحوار
غويبرت: لماذا غيرت اسمك؟ ولماذا اخترت بابلو نيرودا؟
نيرودا: في الحقيقة لاأتذكر. كنت وقتها في الثالثة عشر أو الرابعة عشر من عمري. أتذكر أن أبي قد انزعج كثيرًا حينما أفصحت له عن رغبتي بالكتابة. في أكثر أحواله تفاؤلًا، كان يعتقد أن الكتابة ستدمرني وتدمر العائلة. كان يفكر على نطاق محلي، مما لم يجعلني أغضب، ولم أتحمل أي مسؤولية من تلك الأسباب. لذلك كان تغيير اسمي أحد الأسباب الدفاعية.
غويبرت: هل اخترت نيرودا تيمنًا بالشاعر التشيكي: جان نيرودا؟
نيرودا: قرأت قصة قصيرة له. لم أقرأ شعره من قبل، لكن كان لديه كتاب اسمه “قصص من مالا سترانا”، وهي يحكي عن أولئك الناس البسطاء، الذين يقطنون حيًا بنفس الاسم في براغ. من المحتمل أن اسمي الجديد قد أتى من هناك. ومع ذلك، فإن التشيكيين يحسبوني واحدًا منهم، واحدًا من أمتهم، وقد تواصلت معهم بشكل جميل أكثر من مرة.
غويبرت: في حالة إذا انتُخبت رئيسًا لتشيلي، هل ستستمر بالكتابة؟
نيرودا: الكتابة لدي أشبه بالتنفس. فكما لايمكن أن أعيش بلا تنفس، فإني لاأستطيع العيش بدون الكتابة.
غويبرت: هل تعرف شعراء تبوؤا مناصب عالية سياسية ونجحوا؟
نيرودا: فترتنا هي فترة الشعراء الحُكَّام: ماو تسي تونغ و هو شي منه. ماو تسي تونغ يمتاز بصفات أخرى: فهو، كما تعرف، سباح ماهر، وأنا لاأعرف السباحة على الإطلاق. هناك شاعر عظيم آخر، ليوبولد سينغور، رئيس السنغال؛ وآخر يدعى آيم سيزار، شاعر سريالي، وهو أمير الجبهة الفرنسية في المارتينيك. في بلدي، لطالما تورط الشعراء بالسياسة، ولكن لم يحز أحد منهم على رئاسة الجمهورية. على الجانب الآخر، كان هناك رؤساء ممن يكتبون النثر. فعلى سبيل المثال: رومولو غاليغوس، وكان رئيسًا لفنزويلا.
غويبرت: كيف أدرت حملتك الرئاسية؟
نيرودا: أعددنا منصة في بادئ الأمر، ومن ثم عزفنا على الدوام أغانٍ فولكلورية. وكان هناك من يُكلف بشرح آفاقنا السياسية الصارمة، والتي تتعلق بحملتنا. بعد ذلك، أصررت على الذهاب إلى القرى كونها أكثر حرية، وأقل تنظيمًا، أي: أكثر شاعرية. كنت دومًا أنتهي بتلاوة الشعر. وإذا لم أفعل ذلك، سيغادر الناس حملتي بخيبة أمل. أردت منهم أن يسمعوا أفكاري السياسية بالطبع، ولكن لم تكن في غالبية حديثي، لأن الناس يحتاجون أيضًا نوعًا مختلفًا من اللغة.
غويبرت: كيف يتفاعل الناس معك عندما تتلو قصائدك؟
نيرودا: انهم يحبونني بشكل عاطفي للغاية. في بعض الأحيان لاأستطيع دخول أو الخروج من بعض الأماكن. لدي مرافقون خاصون يحمونني من الحشود، وذلك بسبب إحاطة الصحافيين بي. وهذا يحدث في كل مكان.
غويبرت: إذا كان عليك أن تختر بين رئاسة تشيلي وجائزة نوبل، والتي رشحت لها أكثر من مرة، فماذا ستختار؟
نيرودا: لايمكن أن يكون هناك سؤال خيارات بين شيئين مختلفين لهذه الدرجة.
غويبرت: وإن وضعنا رئاسة تشيلي و جائزة نوبل هنا على الطاولة؟
نيرودا: في تلك الحالة سأقوم وأذهب إلى طاولة أخرى.
غويبرت: هل تعتقد أن تتويج صامويل بيكيت لجائزة نوبل العام الماضي كان عادلًا؟
نيرودا: نعم، أعتقد ذلك. يكتب بيكيت أشياء قصيرة لكنها عظيمة. أينما حلت جائزة نوبل على شخص، فهي بالتأكيد تشريف كبير للأدب. لست من الأشخاص الذين يجادلون حول أحقية شخص ما بالجائزة من عدمها. مايهم في هذه الجائزة – إذا كان لها أي أهمية – هو منح بعض الاحترام لمن توج بها. وهذا مايهم.
غويبرت: ماهي أقوى ذكرياتك؟
نيرودا: لاأعلم. لعل أقوى ذكرياتي هي حينما عشت في إسبانيا، في ذلك المجمع العظيم من الشعراء. لم أعرف مجموعة بهذا القدر الأخوي من الشعراء في أمريكا اللاتينية إلا وتملؤها الإشاعات، كما يُقال في بوينس آيرس. بعد فترة من العيش هناك، كان من الفظيع أن نرى جمهورية من الأصدقاء بهذا الحجم تمزقها الحرب الأهلية، مما بين الوجه البشع للتحكم الفاشي. تفرق أصدقائي: منهم من قتل كغارثيا لوركا وميغيل هرنانديز، ومنهم من توفى في المنفى . حياتي بالمجمل غنية بالذكريات، وبالمشاعر العميقة، وكل منهما أثر في حياتي بشكل أو آخر.
غويبرت: هل يسمحون لك الآن بدخول إسبانيا؟
نيرودا: لست ممنوعًا بشكل رسمي. دعتني السفارة التشيلية هناك في مناسبة خاصة لأقرأ عليهم بعض القصائد، وكان من المحتمل أن يدعوني أدخل، لكني لم أذهب إلى هناك عن قصد. لم أرد أن تدعي الحكومة الإسبانية في ذلك الوقت أنها ديمقراطية عن طريق إدخال من حاربها بكل قوة في الماضي. لاأعرف. منعت من دخول عدة بلدان، وتوضح لي من أشخاص آخرين أن هذا الموضوع لايؤلم بقدر مايفعل لك في البداية، وهذا بالضبط ماحدث لي.
غويبرت: تنبأت قصيدتك الغنائية، والتي كتبتها في غارسيا لوركا، بنهايته المأساوية.
نيرودا: نعم، كانت تلك القصيدة غريبة. غريبة لأنه قد كان شخصًا سعيدًا. بالفعل، كان مخلوقًا مبتهجًا. عرفت القليل من الناس بمثل سجيته، وكان هو تجسيدًا لـ ….. حسنًا، لاأقول للنجاح، ولكن لحب الحياة. لقد استمتع بكل دقيقة من حياته. هو مسرف في سعادته. ولذلك السبب، كانت جريمة إعدامه واحدة من أشنع جرائم الفاشية التي لاتُغتفر.
غويبرت: كثيرًا ماكنت تذكره في قصائدك، وكذلك كنت تذكر ميغيل هرنانديز.
نيرودا: كان هرنانديز بمثابة ابن لي. كشاعر، كنت أعتبره أقرب لتلميذي، وتقريبًا عاش جزءًا كبيرًا من حياته في بيتي. اقتيد إلى السجن ومات هناك فقط لأنه كذب الرواية الرسمية لموت غارسيا لوركا. إذا كانت روايتهم صحيحة، فلماذا أبقوه الفاشيون حتى الموت في السجن؟ لماذا رفضوا نقله إلى المستشفى حينما كان يحتضر، كما طلبت السفارة التشيلية؟ كانت وفاة هرنانديز اغتيالًا أيضًا.
غويبرت: ماالذي تتذكره من السنين التي أمضيتها في الهند؟
نيرودا: كان بقائي هناك حدثًا عارضًا، ولم أكن مستعدًا له. غمرتني روعة تلك القارة، وشعرت برغم ذلك باليأس. لأن حياتي وعزلتي هناك قد طالت. في بعض الأحيان، كنت أشعر بأني محتجز في فيلم صوري، فيلم رائع ولكن لايمكنني مغادرته. لم أشعر بالتصوف الذي ألهم العديد من الأمريكيين الجنوبيين والأجانب في الهند. كل من يذهب إلى الهند، في محاولةٍ منه لإجابة دينية حول أسئلة تؤرقه، يرى الأشياء بطريقة مختلفة. أما بالنسبة لي، فقد تأثرت بالظروف الاجتماعية التي تعصف بذلك البلد. تلك الأمة المعزولة عن السلاح كانت ضعيفة للغاية، ومقيدة إلى نير الإمبريالية. حتى الثقافة الإنكليزية، والتي كان لدي ميل كبير تجاهها، أشعرتني بالبغض كونها صارت أداة تقييد فكري للعديد من الهندوس في ذلك الزمان. اختلطت بالعديد من الشباب المحتجين هناك خلال بعثتي الدبلوماسية، ومن خلال منصبي استطعت التعرف على كل أولئك الثوار، والذين شكلوا تلك الحركة العظيمة، التي أدت في النهاية للاستقلال.
غويبرت: هل كتبت ديوانك “المقام على الأرض” في الهند؟
نيرودا: نعم، بالرغم من الهند لم يكن لها ذلك التأثير الفكري على قصائدي.
غويبرت: كتبت كل رسائلك المؤثرة إلى الكاتب الأرجتيني هيكتور أياندي من رانغون، صحيح؟
نيرودا: نعم. كانت تلك الرسائل مهمة في حياتي. لأني لم أعرفه ككاتب. لكنه أخذ على عاتقه، باعتباره شخصًا صالحًا، أن يرسل لي الأخبار والمجلات الدورية باستمرار، كي يساعدني في عزلتي. كنت خائفًا من أن أفقد قدرتي على التواصل بلغتي الأم، لأني ولسنوات لم أستطع التحدث مع أحدهم بالإسبانية. طلبت في إحدى رسائلي من رافائيل ألبيرتي قاموسًا إسبانيًا. عُينت في منصب قنصل، ولكنه كان منصبًا منخفضًا ولايمتاز بمكافأة. عشت في فقر مدقع وعزلة أكثر بؤسًا. لم أستطع رؤية إنسان آخر لأسابيع.
غويبرت: كانت هناك علاقة حب شهيرة بينك وجوزي بليس، والتي كنت تذكرها دومًا في قصائدك.
نيرودا: نعم. كانت امرأة تركت بصمة عميقة في شعري. لطالما تذكرتها، حتى في أحدث كتبي.
غويبرت: إذًا شعرك يرتبط بشكل قريب من مجرى حياتك؟
نيرودا: هذا أمر طبيعي. يجب أن تنعكس حياة الشاعر على قصائده. هذا قانون فن، وقانون حياة.
غويبرت: يمكن تقسيم شعرك إلى مراحل، أليس كذلك؟
نيرودا: لدي أفكار مربكة حول ذلك الموضوع. أنا لاأمتلك مراحل؛ النقاد يكتشفونها. إذا أمكن لي قول أي شيء، فيمكنني القول بأن قصائدي تملك امتيازات عضو بشري: رضيع حينما كنت صغيرًا، طفولي حينما كنت شابًا، يائس حينما كنت أعاني، ومقاتل حينما انخرطت في النضال الاجتماعي. يحضر خليط من هذه الحالات في قصائدي الحالية. لطالما كتبت بدافع من داخلي، وأعتقد بأن هذا الأمر يحدث لجميع الكتاب، الشعراء خصوصًا.
غويبرت: رأيتك ذات مرة وأنت تكتب داخل السيارة.
نيرودا: أكتب أينما أستطيع ومتى أستطيع، أنا أكتب بشكل دائم.
غويبرت: هل تكتب كل شيء بيدك؟ أم تكتب بالآلة الكاتبة؟
نيرودا: منذ أن حصل لي حادث وكسرت اصبعي قبل عدة أشهر، لم أستطع استخدام الآلة الكاتبة. عدت إلى عادات الشباب وصرت أكتب بيدي. اكتشفت لاحقًا أنني حينما أكتب قصائدي بيدي، فإنها تغدو أكثر حساسية، وقابلة للتشكيل أكثر. يقول روبرت غريفز في مقابلة أنه لكي نفكر فيجب علينا أن نحيط أنفسنا بأشياء أقل مما لم يصنع باليد. كان بوسعه أن يضيف بأن الشعر يجب أن يكون مكتوبًا باليد. فصلت الآلة الكاتبة تلك العلاقة الحميمة لي مع الشعر، وأعادتني يدي إلى تلك العلاقة أقرب من قبل.
غويبرت: ماهي ساعات عملك؟
نيرودا: لاألتزم بجدول معين، ولكن أفضل الكتابة في الصباح. مايعني أنه لولا تواجدك اليوم وإضاعة وقتي ووقتك، لكنت الآن أكتب. لاأقرأ أشياء كثيرة خلال اليوم، بل أفضل الكتابة طوال اليوم، ولكن بقمة انشغالي الفكري، أو في قمة شعوري بتجربة، أو أثناء احساسي بشيء ما وهو يخرج مني بشكل صاخب – دعنا نسميه الإلهام – يتركني راضيًا، أو مرهقًا، أو هادئًا، أو فارغًا، إلى أن أصل لحالةٍ لاأستطيع معها الاستمرار في الكتابة. بعيدًا عن ذلك، أود لو أعيش طوال اليوم جالسًا قرب مكتب. أود لو أضع نفسي في معترك الحياة، في منزلي، أن أخوض السياسة، أن أبقى في الطبيعة. أن أبقى في تجوال لاينتهي. ولكني أكتب بشكل مكثف أينما استطعت وكيفما استطعت. لايزعجني الأمر حينما أكون كثير من الأصدقاء حولي وأنا أكتب.
غويبرت: هل تعزل نفسك عما يحيط بك أثناء الكتابة؟
نيرودا: نعم. ولكن الهدوء التام يستفزني ويزعجني.
غويبرت: لم تلق في يوم بالًا نحو النثر.
نيرودا: النثر…. طوال عمري، لم أشعر بضرورة التعبير عن نفسي إلا بالشعر. لم يهمني يومًا أن أعبر من خلال النثر. أكتب النثر حينما يجتاحني شعور معين، أو في مناسبة معينة تستدعي السرد. الحقيقة أنه يمكنني أن أستغني عن كتابة النثر للأبد، ولكنني أكتبه بشكل مؤقت.
غويبرت: إذا كان عليك أن تنقذ أحد أعمالك من حريقٍ ما، فأي أعمالك تختار؟
نيرودا: لاشيء منها. وماحاجتي لها؟ أفضل أن أنقذ فتاة، أو أن أنقذ مجموعة جيدة من القصص البوليسية، فهي تجلب اهتمامي أكثر من أعمالي الخاصة.
غويبرت: أي نقادك فهم قصائدك بشكل أفضل من غيره؟
نيرودا: أوه، نقادي! لطالما مزقوني إربًا إلى شرائح، بكل الحب أو بكل الكره المتوفر في هذا العالم! في الحياة، وكما في الفن، لايمكن لشخص أن يرضي الجميع، هذا أمر يحدث معنا كلنا. دائمًا مانتلقى القبلات والصفعات، المداعبات والركلات، وهذه حياة الشاعر. مايزعجني هو التشويه الحاصل في تفسير الشعر في أكثر من مناسبة في حياة المرء. على سبيل المثال، في مؤتمر الكتاب العالمي في نيويورك، والذي جلب أناسًا من مختلف أصقاع الأرض، قرأت قصائدي الاجتماعية. وأكثر منها في كاليفورنيا، قرأت قصائدي التي كتبتها في كوبا دعمًا للثورة الكوبية. ولكن الكتاب في كوبا بدلًا من أن يساندوني، قاموا بتوقيع عريضة وزع منها ملايين النسخ، يعتبرونني فيها شخصًا محميًا من الأمريكيين الشماليين، حتى أنهم اعتبروا دخولي إلى الولايات المتحدة نوعًا من منحة! هذا تفسير غبي، إن لم يكن افتراءًا. لأن هناك العديد من الكتاب يسكنون البلدان الشيوعية قد حضروا المؤتمر، وقد تمت دعوة بعض الكتاب من كوبا. نحن لم نفقد شخصياتنا كمناهضين للإمبريالية بمجرد ذهابنا إلى هناك. على كل حال، فقد صدر ذلك الادعاء، إما بحسن نية أو مجرد حسد من الكوبيين. مايحدث الآن كوني مرشحًا من حزبي لرئاسة الجمهورية يؤكد كوني صاحب تاريخ ثوري. من الصعب أن نجد ممن وقعوا تلك العريضة من يوازي تاريخه الثوري واحدًا بالمائة مما قمت به وقاتلت لأجله.
غويبرت: كنت قد تعرضت لانتقادات بسبب طريقة عيشك، وحالتك الاقتصادية.
نيرودا: بشكل عام، كل هذه أكذوبة. بمعنى آخر، تلقينا إرثًا سيئًا من إسبانيا، والتي لم تسمح يومًا لشعبها بالتميز في أي أمر. لقد حسبوا كريستوفر كولومبوس حال عودته. ولم يتسبب بذلك الإرث سوى البورجوازي الحسود، الذي يفكر فيما يملكه الناس ومالايملكونه. في حالتي الخاصة، كرست نفسي لتعويض الشعب. ومايوجد في منزلي، كتبي على سبيل المثال، فهي أعمالي. لم أستغل أحدًا في حياتي، وهذا أمر غريب. لايأتي مثل هذا اللوم لمن يكتب وفي فمه ملعقة من ذهب! بدلًا عن ذلك، يوجهون أصابع اللوم نحوي، أنا الذي عملت لخمسين سنة. يقولون دائمًا: “انظروا، انظروا إليه كيف يعيش. لديه منزل جيد، ويشرب نبيذًا جيدًا”. ماهذا المنطق؟ قبل كل شيء، من الصعب أن تشرب نبيذًا سيئًا في تشيلي، لأن كل النبيذ هنا جيد. إنها مشكلة تعكس بشكل ما التخلف الموجود في بلادنا، والرداءة التي نعيش بها. أنت بنفسك أخبرتني يومًا حول نورمان ميلر، وكيف تلقى مبلغًا يوازي تسعين ألف دولار أمريكي لمجرد أنه نشر ثلاث مقالات في مجلة بأمريكا الشمالية. هنا، لو تلقى كاتب لاتيني مثل ذلك المبلغ، لأطلق الكتاب الآخرون احتجاجاتهم: “ياله من إسراف! ياله من أمر فظيع! متى سيتوقف؟!”، بدلًا من أن يبتهجوا لأن كاتبًا يستطيع جني مثل تلك المبالغ. حسنًا، كما قلت لك، هذه هي المصائب التي نجنيها من وراء تخلفنا الثقافي.
غويبرت: لعل أغلب الانتقادات التي واجهتك، صدرت بسبب كونك شيوعيًا.
نيرودا: بالفعل. قيل أكثر من مرة بأن الذي لايملك شيئًا لن يخسر شيئًا عدا قيوده. أنا أخاطر في كل مرة بحياتي، وبشخصي، وبكل ماأملك: كتبي، ومنزلي. احترق منزلي من قبل، وقد تم اضطهادي، وتم اعتقالي أكثر من مرة، تم نفيي من البلاد، ووضعت تحت الإقامة الجبرية. رآني أفراد الشرطة أكثر من مرة بشكل صريح. أنا لست مرتاحًا مع ماأملكه، ولكن هذا كل مالدي. سخرت نفسي لأجل نضال الشعب، وهذا النضال كان منزلي لأكثر من عشرين سنة تحت مظلة الحزب الشيوعي، والذي يضعني العامة الآن على رأسه. أنا أعيش في هذا المنزل الآن بكرم من قبل حزبي. حسنًا، لندع أولئك الذين حسدوني يقاسون ماقاسيته، وليدعوا على الأقل أحذيتهم في أي مكان ليستعملها أحد آخر!
غويبرت: تبرعت أكثر من مرة بمكتبات مختلفة. ألست تشارك الآن في مشروع “مستعمرة الكتاب” في إيسلانيغرا؟
نيرودا: لقد تبرعت بأكثر من مكتبة إلى الجامعة الوحيدة في بلادي. أنا أعيش على دخل كتبي، وليست لدي أي مدخرات. ليس لدي ماأتخلص منه، إلا ماأدفع كل شهر من نتاج كتبي. بذلك الدخل، أمكن لي جمع مبلغٍ معين لشراء قطعة أرضٍ على الساحل، لكي يستطيع الكتاب إمضاء الصيف هنا، وكتابة أعمالهم الإبداعية في مناخ جميل بشكل استثنائي. سيؤسس المكان مؤسسة كانتالاو، وسيديره بشكل مشترك كل من الجامعة الكاثوليكية، جامعة تشيلي، ومجتمع الكتاب.
غويبرت: ديوان عشرون قصيدة حب وأغنية يائسة هو أحد دواوينك المبكرة، ولايزال يقرأ حتى الآن عن طريق الآلاف من المعجبين منذ طباعته أول مرة.
نيرودا: كتبت في مقدمة الطبعة الجديدة، والتي تحتفي بصدور مليون نسخة من ذلك الكتاب – بالمناسبة، سيبلغ عدد النسخ مليونان قريبًا – بأني لاأفهم لماذا يحدث كل هذا الاحتفاء. لماذا لايزال الناس يقرأون الكتاب الذي يحتوي حزن الحب، ووجعه، خصوصًا من قِبل الشباب. بكل صراحة، لاأستطيع فهم ذلك. ربما يمثل طرحًا شابًا للعديد من الألغاز، وربما يجاوب عليها. هو كتاب حزين، ولكن جاذبيته لاتهدأ.
غويبرت: أنت من أكثر الشعراء ترجمة، نحو ثلاثين لغة. ماهي اللغة التي قدمت أفضل ترجمة لشعرك.
نيرودا: ربما الإيطالية، للتشابه بين اللغتين. بالنسبة للإنجليزية والفرنسية، وهي لغتان أعرفهما غير الإيطالية، فهما لايرتبطان بالإسبانية، لا نطقًا، ولا في مكان الكلمات، ولا حتى في وزن الكلمات ولونها. الأمر لايتعلق بقدر الترجمة. المنطق يؤكد بأن على قدر الترجمة، يصل الشعر. بينما في الواقع، أمانة الترجمة، ونقل المعنى، قد يدمر القصيدة. في العديد من الترجمات إلى الفرنسية – ولاأقول كلها -، أجد أن شعري يهرب، ولاشيء يبقى. لا أحد يستطيع التظاهر بسبب أن الكتابة المترجمة تطابق الأصل، لكن من الواضح أنني لو كتبت الشعر بالفرنسية، فلن يبدو النصان متشابهان، وذلك لاختلاف قيمة الكلمات. كنت سأكتب شيئًا مختلفًا تمامًا.
غويبرت: قلت بأنك قارئ جيد للقصص البوليسية، من هو مؤلفك المفضل؟
نيرودا: هناك عمل عظيم ينتمي لهذا النوع من الكتابة، وهو يدعى نعش لأجل ديميتريوس للكاتب إريك أمبلير. قرأت كل أعمال أمبلير التي تلته، ولكن لم يوجد عمل يحاكي جمال أساسات ذلك العمل، ودسائسه الاستثنائية، وجوه الغامض. جورج سيمينون أيضًا مهم، ولكن لايوجد أحد يكتب القصة البوليسية بغموضها، وبكل الرعب الذي تحتويه مثل تلك القصص، كما يكتب جايمس هادلي تشايس. روايته التي بعنوان لا زهور للآنسة بلاندش تعتبر رواية قديمة، لكنها تبقى أحد تحف القصص البوليسية الخالدة. هناك تشابه غريب بين تلك الرواية، ورواية الملاذ لويليام فولكنر، ذلك الكتاب الهام. لكني لم أستطع معرفة أي منهما صدر أولًا. بالطبع، حينما يتحدث أحدهم عن القصة البوليسية، يتبادر إلى ذهني داشيل هاميت. هو الشخص الذي أنشأ مايعرف بالتوهيم ماخلف الروائي، ومنحه أساسات قوية. هو المبتكر العظيم، ومن خلفه المئات من الروائيين. لايفوتني جون ماكدونالد، كونه أحد ألمع الأسماء. كلهم كتاب عظماء ويعملون بمشقة على كتبهم. وربما كل من يتبع تلك المدرسة من الروائيين، مدرسة الأدب البوليسي في أمريكا الشمالية، يُعتبر ناقدًا لمجتمع أمريكا الشمالية الرأسمالي المتداعي. ليس هناك ماهو أكبر من الشجب الذي يظهر في تلك الروايات حول فشل وفساد السياسيين والشرطة، وتأثير المال في المدن الكبرى، والفساد الذي يطفح كل مرة في أجزاء أمريكا الشمالية، والذي يعتري “الطريقة الأمريكية في الحياة”. ذلك الأدب هو الشهادة الأكثر درامية على ذلك العصر. وحتى الآن، لايزال النقاد يعتبرونه أكثر أنواع الرواية سطحية، بما أنهم لم يتناولوها بعين الاعتبار.
غويبرت: ماالذي تقرؤه من الكتب الأخرى؟
نيرودا: أنا قارئ للتاريخ، خصوصًا تلك الكتب الأثرية، والتي تتحدث عن تاريخ بلادي. لدى تشيلي تاريخ متفرد. ليس بالطبع بسبب منمنمات الآثار القديمة، والتي لاتوجد هنا، بل لأن شاعرًا ابتكر هذه البلاد، وهو العظيم ألونسو دي إيرثيلا زونيغا، والذي عاش في زمان كارلوس الخامس. كان أرستقراطيًا باسكيًا ممن وصل مع الغزاة الأوائل لإسبانيا، وهذا أمر غريب بما أن أغلب من أرسل إلى تشيلي يكون من المحاربين. كان ذلك المكان هو أسوأ مكان يعيش فيه المرء. جرت الحرب بين الأراكونيين والإسبان هنا لعدة قرون، وكانت أطول حربٍ أهلية في تاريخ البشرية. قاتلت تلك القبائل نصف الهمجية لأجل حريتها ضد الإسبان مدة ثلاثمائة سنة. قدم زونيغا، ذلك الشاب الإنساني، مع أولئك القادة الذين أرادوا أن يحكموا كل القارة، ونجحوا في ذلك، باستثناء هذا الشريط الضيق والمسمى تشيلي. كتب ألونسو ملحمة تدعى لا أراوكانا، وهي أطول ملحمة في الأدب القشتالي، وقد شرف فيها قبائل أراوكانيا المجهولة. أولئك الأبطال المجهولين، والذي منحهم ألونسو أول اسم لهم، قد مدحهم ألونسو أكثر من بني جلدته، المقاتلين القشتاليين. نشرت لا أراكونيا في القرن السادس عشر، وترجمت عن القشتالية، وانتشرت كالهشيم في أنحاء أوروبا. يالها من ملحمة رائعة لشاعر عظيم. حازت تشيلي ذلك التاريخ العظيم والبطولي منذ نشأتها. لم ننحدر نحن التشيليون، كما انحدر عدة أقوام مهجنة من الاسبان والهنود الأمريكيين، من جنود إسبانيين عن طريق الاغتصاب والتنكيل، ولكن عن طريق زواج طوعي أو قسري للأراكونيين مع سبايا إسبانيات خلال سنين الحرب الطويلة. نحن استثناء. بالطبع، يلي ذلك مرحلة استقلالنا الدموي منذ 1810. تاريخ مليء بالمآسي، وبالمعارضات، والنضال تحت أسماء مثل سان مارتين، بوليفار، خوسيه ميغيل كاريرا وأوهيجنس، من خلال صفحات طويلة من النجاحات والإخفاقات. كل ذلك يجعلني قارئًا لتلك الكتب التي أنفض عنها الغبار، والتي تثيرني وتلهمني إلى أقصى حد. تجعلني تلك الكتب نائيًا عن الجميع، أعاني البرد هناك، ضمن خطوط عرض بلادي وصحرائها. سبخاتها في الشمال، وساحلها المزهر، وجبال الانديز الثلجية. هذه بلادي، تشيلي. أنا ممن ينتمون لهذه البلد حتى الفناء، والذي لايمكن أن أتركها للأبد، مهما عوملت بالحسنى في بلاد أخرى. أحببت مدن أوروبا الكبرى، وأقدر وادي آرنو، وشوارع معينة في كوبنهاجن وستوكهولم، وبالطبع باريس، باريس، باريس، ومع ذلك سأبقى مشتاقًا للعودة إلى تشيلي.
غويبرت: في مقال بعنوان “معاصريّ”، ينتقد إرنستو مونتينيغرو الناقد الأورغواياني رودريغيز مونيغال، كونه صرح بأنه يتمنى لو يدرس الكتاب المعاصرون في أوروبا وأمريكا الشمالية الأدب اللاتيني ومن يكتبون فيه، إن أرادوا أن يحسنوا أدبهم. شبه مونتينيغرو بتهكم ماقاله مونيغال، كأن نملة تقول لفيل: “هيا، اصعد على ظهري”. ثم اقتبس من بورخيس: “على النقيض من الولايات المتحدة الهمجية، لم تنتج هذه البلاد ( هذه القارة ) أي كاتب ذو مقروئية عالمية، مثل ويتمان أو إيميرسون أو بو. كما لم تنتج كاتبًا عميقًا، مثل هنري جيمس أو ميلفيل.”
نيرودا: لماذا يهم إن كنا نملك أسماء مثل ويتمان أو كافكا أو بودلير في قارتنا أم لا؟ تاريخ إبداعنا الأدبي كبير بحجم الإنسانية كلها. لايستطيع أحد في أمريكا الشمالية برغم أعداد المثقفين الهائل فيها، أو أوروبا برغم تاريخها العريق، أن يقارن نفسه بتنوعنا الثقافي في أمريكا اللاتينية دون كتب، أو يقارن معانيها بمعانينا في التعبير عن الذات. من السذاجة أن يرمي أحدهم أحجارًا في بركة الآخر، وتمر حياته وهو يأمل أن يتجاوز تلك القارة أو الأخرى. بجانب أن هذا الأمر كله لايعدو كونه رأيًا شخصيًا.
غويبرت: هل لك أن تعلق على الشؤون الأدبية في أمريكا اللاتينية؟
نيرودا: أي مجلة تصدر من هندوراس أو نيويورك، أو مونتيفيديو أو غواياكيل، تكتشف أنها كلها تقدم نفس الكاتالوج الأنيق لأدب مستلهم من إليوت أو كافكا. هذا مثال للاستعمار الثقافي. نحن لانزال مغمورين بالاتيكيت الأوروبي. هنا في تشيلي، على سبيل المثال، سترى سيدة المنزل وهي تريك أي شيء – أطباق صينية مثلًا – وتقول لك بابتسامة راضية: “إنها مستوردة”. معظم السلع الفظيعة في البيوت التشيلية هذه الأيام مستوردة، وهي من أسوأ الأنواع. تنتج من مصانع في ألمانيا وفرنسا. تلك القطع التي لامعنى لها تُعتببر الأفضل هنا فقط لأنها مستوردة.
غويبرت: هل السبب هو الخوف من عدم المطابقة؟
نيرودا: بالطبع كنا كلنا نخاف من الأفكار الثورية أثناء الأيام الخوالي، وخصوصًا معشر الكتاب. في هذا العقد، خصوصًا بعد الثورة الكوبية، أصبح الموقف على العكس تمامًا. يعيش الكتاب تحت رعب عدم تصنيفهم كيساريين متشددين، لذلك تجد بعضهم أشبه برجال العصابات. هناك من يكتب فقط نصوصًا تجعلك تظن أنهم في الجبهة الأولى ضد الإمبريالية. نحن، ممن خضنا هذه الحرب، نستمتع حينما نرى الأدب ينحاز إلى جانب الشعب؛ ولكن، نخاف في نفس الوقت من أن يتحول إلى مجرد موضة، وأن يصير الكاتب من عديمي المقروئية، والتصنيف كيساري متشدد، لأنه لن يمضي في الطريق بذات الثورية. في النهاية، كل أنواع الحيوانات يمكن تواجدها في غابة أدبية. في إحدى المرات، حينما تمت إهانتي لعدة سنوات من قبل أشرار لاهم لهم إلا مهاجمة حياتي وشعري، قلت: “لنتركهم وشأنهم، فالغابة تسع الجميع. إذا استطاعت الفيلة أخذ مساحة مناسبة، وهي تأخذ الكثير من المساحات في أفريقيا وسيلان، فمن المؤكد أن هناك مساحة لجميع الشعراء.”.
غويبرت: يتهمك بعض الناس بالعدائية تجاه خورخي لويس بورخيس.
نيرودا: ربما يتخذ ذلك العداء منحى ثقافيًا أو فكريًا نظرًا لتوجهاتنا المختلفة. يستطيع الواحد منا أن يحارب بهدوء، لكن لدي أعداء آخرون عدا الكتاب. بالنسبة لي، فعدوي هو الإمبريالية، وأعدائي هم الرأسماليون ومن ألقوا بقذائف النابالم على فيتنام. لكن بورخيس ليس عدوي.
غويبرت: مارأيك بكتابات بورخيس؟
نيرودا: إنه كاتب عظيم. وكل من يتكلم الإسبانية يفخر بتواجد شخص مثله على رأس هرم أمريكا اللاتينية. كان لدينا القليل من الكتاب الذين يمكن مقارنتهم بالأوربيين قبل بورخيس، ولكن لم يكن لدينا كاتب بهذه المقروئية العالمية قبله. لاأستطيع أن أقول بأنه الأعظم، وأرجو أن يتجاوزه الكثير، ولكنه بطريقة ما فتح الطريق وجذب اهتمام أوروبا الأدبي نحو بلداننا. لكن بالنسبة لي، فلن أستعدي بورخيس لمجرد أن الآخرين يودون ذلك. إذا كان يفكر كديناصور، حسنًا، فإنه لن يتعارض مع تفكيري. هو لايفهم شيئًا مما يجري في العالم المعاصر، وهو يعتقد بأني لاأفهم شيئًا كذلك. إذًا، نحن على وفاق.
غويبرت: في يوم الأحد، رأينا بعض الشباب من الأرجنتين يعزفون ويغنون قصائد لبورخيس، ألم يبهجك ذلك المنظر؟
نيرودا: تسرني تلك القصيدة كثيرًا، فهي تظهر لي كم أن بورخيس شاعر محْكم – ولنستخدم ذلك المسمى- وذكي ومعقد يمكن له أن يتحول إلى مثل ذلك الشكل الشعبي، وبتلك اللمسة الشاعرية. أحببت قصيدته كثيرًا، ويجب على الشعراء اللاتينيين تقليدها.
غويبرت: هل كتبت أي أغانٍ تشيلية فولكلورية؟
نيرودا: كتبت بعض الأغاني المشهورة في هذا البلد.
غويبرت: من هم الشعراء الروسيون الذين تفضلهم؟
نيرودا: لعل الرمز المهيمن على الشعر الروسي هو ماياكوفسكي، مثل بثورته لروسيا مامثله والت ويتمان في أمريكا الشمالية. لقد تشرب الشعر حد أن كل قصائده استمرت كونها ماياكوفسكية، وتستطيع أن تعرف ذلك من أول قراءة.
غويبرت: مارأيك بالكتاب الروس الذين غادروا روسيا؟
نيرودا: من يرغب في مغادرة مكان فيجب عليه أن يفعل ذلك. هذه مشكلة شخصية تمامًا. ربما يشعر بعض الكتاب السوفييتيين بالامتعاض من علاقتهم بالمنظمات الأدبية، أو من حالتهم المادية والاجتماعية. ولكني لم أر علاقة لاتشوبها الخلافات بين الدولة والأدباء أكثر من البلدان السوفييتية. غالبية الكتاب هناك يفخرون باشتراكيتهم، وبحرب تحررهم ضد النازيين، وبالنسيج الاجتماعي الذي صنعته الاشتراكية. إذا كان هناك استثناءات، فهو أمر شخصي بحت، ويحتاج الاستقصاء وراء كل حالةٍ لوحدها.
غويبرت: ولكن العمل الأدبي هناك لايمكن أن يكون حرًا، يجب أن يعكس خط الدولة الفكري.
نيرودا: هذه مبالغة في القول. عرفت الكثير من الكتاب والرسامين هناك ممن لايحابون شخصًا أو آخر في الدولة، وأي شيء يحكى هناك حول هذا الموضوع فهو من قبيل المؤامرة، ولكن الحقيقة عكس ذلك. بالطبع، فكل ثورة تحتاج لحشد قواتها، والثورة لايمكن أن تستمر بدون تنمية. الضجة الناجمة عن التغيير من الرأسمالية إلى الاشتراكية لايمكن أن تستمر دون تحقق مطالب الثورة، وبكل قوات الدولة والمجتمع، وذلك يشمل الكتاب، والمفكرين، والفنانين. فكر بالثورة الأمريكية، أو حربنا لأجل الاستقلال ضد إسبانيا. ماالذي كان سيحدث لو أن أحد الكتاب أو الفنانين وقف بصف المستعمر ؟ لو حدث ذلك، لكنا قد سقطنا وتم اضطهادهم. هذا من أكبر المبررات للثورة لكي تبني مجتمعًا من الصفر (في النهاية، لم يجرب أحد نقل مجتمع من الرأسمالية والخصوصية إلى الشيوعية) أن تحشد طاقات مفكريها. ربما تتعارض الرغبات في مثل تلك البرامج، وعمومًا لايحدث ذلك إلا في السياسة والإنسان. لكن آمل بأنه مع الوقت والاستقرار ستتمكن المجتمعات الاشتراكية من التخفيف على كتابها لأجل التفكير في المشاكل الاجتماعية، ويكون الكتاب قادرين على ابتكار مايرغبونه.
غويبرت: ماالنصيحة التي تسديها للشعراء الشباب؟
نيرودا: أوه، لاتوجد نصيحة للشعراء الشباب! يجب عليهم أن يشقوا طريقهم بأنفسهم؛ يجب عليهم أن يواجهوا العقبات لكي يعبروا عن أنفسهم بشكل صحيح ويتغلبوا عليها. مالن أنصحهم به أبدًا هو أن يبدأ الواحد منهم بالشعر السياسي. الشعر السياسي أعمق في مشاعره من أي نوع – على الأقل بقدر حب الشعر – ولايمكن كتابته وأنت مجبر، لأنه سيخرج بشكل مبتذل وغير مقبول. يجب عليك أن تبدع في كل ألوان الشعر وأغراضه لكي تكتب شعرًا سياسيًا. ويجب عليه أن يتلقى الانتقادات بصدرٍ رحب حول خيانته للأدب أو خيانته للشعر. وأيضًا، يجب أن يتسلح الشعر السياسي بالمحتوى والعناصر، وبالثراء الفكري والعاطفي، من أجل أن يتخلى عن نوع آخر من الشعر. وهذا نادرًا مايتحقق.
غويبرت: دائمًا ماتقول أنك لاتؤمن بالأصالة.
نيرودا: أن تبحث عن الأصالة في كل القيم هو شرط حداثي. في أيامنا، كان الشاعر يريد أن يجلب الاهتمام لنفسه، وهذا الانشغال السطحي يقضي على خصائصه العصية. كل شخص يحاول أن يجد طريقًا يبرز فيه، لا من أجل العمق أو الاكتشاف، ولكن لأجل التنوع. أكثر الفنانين أصالة ستجده يغير مراحل عمله لكي يجاري الزمان والحقبة التي يعيش فيها. أكبر مثال على ذلك هو بيكاسو، الذي بدأ بإنشاء فنه عن طريق النحت والرسم في أفريقيا أو الفنون البدائية، ثم وجد طريقه الخاص وتحول بقوة جعلت الآن أحد المعالم الثقافية لهذا العالم.
غويبرت: ماهي التأثيرات الأدبية على بابلو نيرودا؟
نيرودا: يتبدل الكتاب في دواخلهم بطريقة ما، كما أن الهواء الذي نتنفسه لاينبع من مكان واحد. تنقل الكاتب الداخلي أشبه بتنقله من منزل لآخر: يجب عليه أن يغير الأثاث. يرتاح بعض الشعراء مع ذلك. أذكر فيدريكو غارسيا لوركا حينما كان يسألني دومًا أن أقرأ سطوري وقصائدي، كان يطلب مني التوقف دومًا في منتصف قراءتي وهو يقول:” توقف، توقف! لاتكمل، كي لاتؤثر علي.”
غويبرت: لنتحدث حول نورمان ميلر. كنت من أوائل الكتاب الذين تحدثوا عنه.
نيرودا: بعدما صدرت رواية ميلر بفترة وجيزة، والمسماة بـ”العاري والميت”، وجدتها في مكتبة بالمكسيك. لم يعلم أحد بأمرها، وحتى صاحب المكتبة لم يعلم شيئًا عنها، كان دافعي الوحيد لشرائها هو أنني على وشك رحلة، وأود قراءة رواية أمريكية جديدة. ظننت بأن الرواية الأمريكية ماتت بعد العظام الذين بدأوها، الذين بدأوا بدرايزر، وانتهوا بهيمنغواي وشتاينبك وفولكنر. لكني اكتشفت كاتبًا عظيمًا آخر، بألفاظ عنيفة، ومشتبكة بدقة مع قدرة عظيمة على الوصف. لطالما أعجبت بشعر باسترناك، ولكن روايته دكتور زيفاجو تعد مملة إذا ماقارناها بالعاري والميت، ماعدا وصفه الشاعري للطبيعة. أتذكر في ذلك الوقت أنني كتبت قصيدة بعنوان “لتستيقظ فواصل السكك الحديدية”، وتلك القصيدة التي استدعيت فيها شخص لينكولن، كانت مخصصة للسلام العالمي. كتبت فيها عن أوكيناوا والحرب في اليابان، وذكرت أيضًا نورمان ميلر. وصلت قصيدتي إلى أوروبا وتمت ترجمتها، وأتذكر بأن المترجم قال لي بأنه عانى كثيرًا ليعرف من يكون نورمان ميلر هذا. لم يعرفه أحد في الواقع، ولا أزال أشعر بالفخر كوني من أوائل الكتاب الذين اكتشفوه.
غويبرت: هل يمكنك التعليق على تأثرك العميق بالطبيعة؟
نيرودا: منذ طفولتي، حافظت على مشاعري العميقة تجاه الطيور والأصداف والغابات والنباتات. ذهبت لأماكن عديدة من أجل أن أرى أصدافًا بحرية، وقد جمعت الكثير منها. كتبت كتابًا بعنوان “فن الطيور”، كتبت عن الحيوانات المنقرضة، الزلازل البحرية، وحتى “زهرة العشّاب”. لاأستطيع العيش بعيدًا عن الطبيعة، ربما أحب الفنادق ليومين، وأحب الطائرات لساعة، ولكني أسعد حينما أتواجد بين الأشجار في الغابات، أو على الرمال، أو أثناء الإبحار، وحينما أتواصل مباشرة مع النار، الأرض، الماء، والهواء.
غويبرت: هناك رموز تتكرر دائمًا في قصائدك، وهي تأخذ على الدوام شكل البحر والأسماك والطيور….
نيرودا: لاأؤمن بالرموز. إنها بكل بساطة أشياء كما هي. حينما أقول البحر مثلًا فأنا أعنيه دون أي معنى آخر. ظهور بعض الثيمات في قصائدي هو ظهور مادي لاأكثر.
غويبرت: مادلالات كل من الحمامة والغيتار في شعرك.
نيرودا: الحمامة تدل على الحمامة، والغيتار يدل على آلة موسيقية تدعى غيتار.
غويبرت: إذًا، فأنت تعني أن من يحاول تفسير تلك الأشياء بغير ماهي ….
نيرودا: عندما أرى حمامة، فإني أسميها حمامة. الحمامة، سواء كانت موجودة أم لا، لديها شكل بالنسبة لي، سواء بذاتها أو شكل موضوعي، ولكنها لاتتجاوز كونها حمامة.
غويبرت: قلت عن ديوانك “اقامة على الأرض” مرة بأنه “لايساعد المرء على الحياة، بل يساعده على الموت.”
نيرودا: مثل ذلك الديوان لحظة مظلمة وخطيرة في حياتي. تلك اللحظة كانت الشعر من دون مخرج. كنت أحتاج إلى أن أولد من جديد فقط لكي أتجاوز تلك المرحلة. تم إنقاذي من ذلك اليأس الذي لازلت أجهل عمقه، والذي خلفته الحرب الأهلية الإسبانية، وعدة مناسباتٍ أخرى جعلتني أتأمل. قلت مرة بأنه لو كانت لدي السلطة والقوة، لمنعت انتشار ذلك الكتاب، ولخططت لعدم طبعه مرة أخرى. إنه يضخم الشعور بالحياة كعبء مؤلم، وكشعور قاتل. ولكني أعرف بأنه من أفضل كتبي، وذلك لأنه يعكس حالتي الذهنية. مع ذلك، حينما يكتب الواحد منا – ولاأعلم إن كان ذلك ينطبق على بقية الكتاب – فهو يفكر ماإذا كانت كلماته ستحط على الأرض. كتب روبرت فروست في إحدى مقالاته بأن الألم هو وجهة الشعر الوحيدة: “دعوا الألم وحده مع الشعر”. لكني لاأعلم ماسيفكر به لو رأى شابًا منتحرًا ودمائه تنزف على أحد كتبه. حدث هذا الأمر لي: انتحر شاب بجانب أحد كتبي، وكان مليئًا بالحياة حسب مايقال عنه. لا أشعر حقيقة بالذنب لمقتله، ولكن مرأى تلك الصفحة الملطخة بالدماء لاتجعل ذلك الشاعر يفكر، بل كل الشعراء… بالطبع، سعد أعدائي بهذا الأمر – كما يفعلون دومًا معي – واستفادوا سياسيًا جراء لومي في بلادي، مما أشغل رغبة في لكتابة شعر متفائل وسعيد. هم لم يعرفوا بذلك الأمر، ولم يسبق لي أن تخليت عن شعوري بالوحدة والألم والسوداوية بسبب ذلك الحادث. لكنني أحببت تغيير نبرة قصائدي، أحب أن أجد كل الأصوات، وأطارد جميع الألوان، وأبحث عن قوى الحياة أينما كانت، سواء بناءة أو مدمرة.
مر شعري بجميع المراحل التي مرت بها حياتي؛ منذ الطفولة الوحيدة وحتى العزلة في البلاد النائية البعيدة، عزمت على أن أجعل من نفسي جزءًا من هذه الإنسانية العظيمة. نضجت حياتي، وهذا كل مافي الأمر. كل من نمط الشعراء في القرن الماضي أن يكونوا سوداويين معَذبين، ولكن من الممكن أن يتواجد شعراء ممن يعرفون الحياة ومشاكلها، ومن ينجو من تلك المشاكل بالتعايش مع الحاضر. ومن يهرب من الحزن إلى السعادة الوافرة.
تمت المادة بحمد الله.
في صفحة شخصية على الانترنت، يتلقى هاروكي موراكامي أسئلة باليابانية حول شتى المواضيع، وينتقي منها الأفضل لكي يجاوبها بنفسه. بطبيعة الحال، فقد تلقى أسئلة حول الكتابة ورد عليها بسخرية لاذعة. الغريب أنه كان يتجاوب على مواضيع كانت ثيمات ورموز تتكرر دائمًا في رواياته، كالقطط وكرة القاعدة “Baseball” والحب.
في نهاية شهر مارس الماضي، كتب أحد معجبي هاروكي هذا السؤال على الصفحة:
سيد هاروكي، كيف سترد إذا أتاك شخص وسألك عن معنى الحياة؟ شخصيًا، كنت سأقول “لا معنى لحياة أيٍّ منّا، يكفينا أن نكون أحرارًا”، ولكن ذلك يظهر قلة مسؤولية أو قلة شعورٍ إنساني.
وأتى رد هاروكي كالتالي:
ستكون إجابتي هي “معنى الحياة هو أمرٌ تفكر به بعد أن تموت”. بينما نخوض غمار الحياة، يصعب علينا أن نرى مغزاها والمعنى من وراء أحداثها. كلنا مشغولون، ونجد أنفسنا في شتى المواقف. لذلك، لنترك ذلك لأوقات فراغنا بعد أن نموت. لا أعتقد أن الوقت حينها سيكون متأخرًا للتوصل إلى خلاصة ما بعد ذلك.
فاجأتني أمي حين كبُرَت في السن كثيرًا، وكانت تسكن في دار الرعاية، بالسؤال عما إذا كنت أكتب القصائد حتى الآن. نظرت إلي لأول وهلة بعدم استيعاب عندما أخبرتها بأني لا زلت أكتب. احتجت إلى أن أكرر لها ما قلت حتى تستوعب؛ وعندما فهمت ذلك، اكتفت بتنهيدة ومن ثم هزت رأسها. من المحتمل أنها كانت في تلك اللحظة تفكر ما إذا كان ابنها مجنونًا. لا زلت أتلقى نفس السؤال هذه الأيام، وأنا في السبعينيات من عمري، من الأشخاص الذين لا يعرفونني جيدًا. أشتبه بأن كثيرًا منهم كان يتوقع إجابة بأني اكتفيت من ذلك، وبأني تركت حماقات الشباب، ويُفضح اندهاشهم لاحقًا حينما يعلمون بالإجابة الحقيقية. يبدو أنهم كانوا يعتقدون بأن هناك خللًا ما في باطني، كما لو كنت أواعد فتاة في الثانوية بعمري هذا، وأتنزه معها في مدينة الألعاب.
يتلقى الشعراء شيبًا وشبَّانًا أسئلة نمطية في مقابلاتهم حول بداية مشوارهم والوقت الذي قرروا فيه أن يبدأوا بالكتابة، ودائمًا ما يفترِض السائل أن الإجابة ستكون بأن هناك لحظة اتخذ فيها ذلك الشخص قراره بكونه شاعرًا، وأنه حينما أخبر أهله بذلك صرخت أمه قائلة: “يا إلهي، ما الذي فعلناه لنستحق ذلك؟”، بينما ينزع أبوه حزامًا عن وسطه ويقوم بملاحقته في المنزل. غالبًا ما أخبر المحاور بوجهٍ بارد أني اخترت كتابة القصائد لكي أنال تلك الجائزة المعلن عنها في الأرجاء، بما أنه سيخيب نظرهم عندما لا أخبرهم بقصةٍ مشابهةٍ لما ذكرت؛ فهم يريدون شيئًا بطوليًا وحالمًا، وأنا أخبرهم بأني لست سوى مجرد طالب ثانوية آخر اختار كتابة القصائد ليبهر فتاة ما ولا شيء غير ذلك. لكوني غير أمريكي، فهم يسألوني وبنمطيةٍ أيضًا عن قصائدي التي كتبتها بالصربية، وعن تلك اللحظة التي اتخذت فيها قرارًا بترك لغتي الأم. وتبدو إجابتي صادمةً مرةً أخرى وأنا أخبرهم بأن على القصيدة أن تكون مفهومة لتصبح أداة إغواء، فلا توجد فتاة أمريكية ترغب بسماع قصيدة حب لها بالصربية بينما ترتشف مشروب الكولا.
ما يحيرني هو أني استمريت بكتابة القصائد لمدة طويلة بعد أن فرغت من حاجتي لها. كانت قصائدي الأولى سيئةً بشكل محرج، وما تلاها بعد ذلك لم تكن أفضل. عرفت في حياتي العديد من الشعراء الشباب الذين توقفوا عن الكتابة لاحقًا، حتى بعدما أخبرهم الناس أنهم عباقرة. لم يرتكب أحدهم هذا الخطأ معي، ومضيت بالكتابة. ندمت على إتلافي لقصائدي الأولى، لأني لم أعرف إلى الآن كيف تطورت. في ذلك الوقت، كنت أقرأ الروايات وليست لدي سوى معرفة ضئيلة بالشعر المعاصر والشعراء الحداثيين. لم أتعرض بشكل مباشر إلى الشعر إلا مرة واحدة، حينما كنت أدرس في باريس قبل انتقالي للولايات المتحدة. لم نتعرف إلى كلٍ من لامارتين وهوجو وبودلير ورامبو وفيرلاين فحسب، بل كنا نحفظ ونردد بعض قصائدهم ونلقيها أمام الصف. كان ذلك الأمر يعد كابوسًا بالنسبة إلي، بينما كان عبارةً عن متعةٍ مضمونةٍ بالنسبة لأقراني، الذين كانوا يسخرون مني بينما أخطئ في لفظ بعض أجمل سطور الشعر الفرنسي – لا زلت إلى اليوم لا أذكر شيئًا مما تعلمته هناك -. اليوم، أقر بأن حبي للشعر يأتي من تلك القراءات والأيام التي ألقيت فيها القصائد، والتي خلفت فيَّ أثرًا أكبر مما كنت أدركه حينما كنت شابًا.
هناك شيء آخر ساهم في استمراري بالكتابة، وهو حبي للعب الشطرنج. تعلمت اللعبة في بلغراد أثناء الحرب على يد أستاذ فلكٍ متقاعد. كنت وقتها في السادسة من العمر، واستطعت أن أهزم جميع من كان بعمري وأكبر منهم في حيِّنا. كانت أولى الليالي التي واجهت فيها الأرق تلك التي تعقب هزيمة ألحقها بي أحدهم، حيث كنت أعيد المباراة في ذهني. صنع مني الشطرنج شخصًا مهووسًا وعنيدًا. في ذلك الوقت، لم أستطع نسيان أي حركةٍ خاطئةٍ أو هزيمةٍ مذلة. عشقت المباريات التي لا يتبقى فيها من قطع المتبارزين إلا القليل، وتصبح أي حركة بعد ذلك مؤثّرة على النّتيجة النّهائية. حتّى اليوم، حينما أخوض مباريات الشّطرنج مع برنامج حاسوب (أسمّيه شخصيًا: الرب.)، والذي يهزمني في تسع مباريات من أصل عشرة، فإن هزائمي تثيرني أكثر من عدد المرات القليلة التي فزت فيها. دائمًا ما تذكرني قصائدي – والتي تتّصف بالقصر وتتطلب تعديلات لا تنتهي – بمباريات الشّطرنج، فهي تعتمد إما على صورة أو كلمة موضوعة بدقة، ويجب أن تكون نهايتها بمفاجأة وصرامة ضربة “كش ملك” أنيقة.
من السهل قول كل ذلك الآن. حينما كنت في الثامنة عشر من عمري، كانت لديّ أمور أخرى لأقلق بشأنها. انفصل والداي، وكنت بمفردي وقتها، أعمل في مكتبٍ بشيكاغو وأحضر محاضرات الجامعة ليلًا. لاحقًا، وفي عام 1958، حينما انتقلت إلى نيويورك، استمررت بالعيش على نفس النمط. كنت أكتب القصائد وأنشر القليل منها في المجلات الأدبية، ولكني لم أتوقع أن تمنحني الكثير. لم يتوقع أيٌّ ممّن صاحبتهم أو عملت معهم أني شاعر. كنت أرسم قليلًا في ذلك الوقت، وأجد الأمر أهون حينما أخبر أحدهم بذلك. كل ما أعرفه عن قصائدي هو أنها لم تكن بالجودة التي أردتها، وكنت أريد، من أجل أن أرتاح، أن أكتب شيئًا لا يحرجني أم أصدقائي المهتمين بالأدب. في نفس الوقت، انشغلت بأمور أهم، كالزواج، ودفع الإيجار، والتسكع في الحانات ونوادي الجاز، ودهن مصائد الفئران بزبدة الفول السوداني في شقتي التي تقع في الشارع الثالث عشر.
بحسب مقال في صحيفة الغارديان، كتب أورويل روايته الأشهر بين عامي 1943 و 1944. تعددت تفسيرات الرواية بدءًا من العنوان وحتى مضمون العنوان واختيار الناشر، ونالت الرواية شهرة تستحقها على مستوى العالم. كشفت إحدى رسائله، والتي كُشفت العام الماضي في كتاب “أورويل: حياة في رسائل” عن تأمل لأوضاع العالم أسس للرواية لاحقًا، وذلك يظهر من بعض العبارات في الرسالة، والتي أُنهيت بنجمة لشعبيتها بالنسبة لمن قرأ الرواية، حيث وردت فيها.
قراءة ممتعة.
إلى نويل ويلميت
18 مايو 1944
عزيزي السيد ويلميت،
أشكرك كثيرًا على رسالتك. كنت تسألني عما إذا كانت الشمولية وعبادة القائد تتصاعد في الآونة الأخيرة، خصوصًا في هذا البلد وفي الولايات المتحدة.
يجب أن أقول بأني أعتقد، بل أني أخشى أننا إذا وضعنا العالم في منظور واحد، فإن تلك الأمور آخذة بالإزدياد. سيختفي هتلر قريبًا بلا شك، ولكن ذلك سيكون لأجل ظهور واحد من هؤلاء: إما ستالين، أو أصحاب الملايين الأنجلو-أمريكان، أو أي طاغية تافه بحجم ديغول. يبدو أن كل الحركات القومية، بما فيها التي نشأت لمحاربة الاحتلال الألماني، تتخذ شكلًا غير ديمقراطي في منظومتها، ويتوحد أعضائها سويًا تحت لواء فوهرر خارق (هتلر، ستالين، سالازار، فرانكو، غاندي وديغول مجرد أمثلة متنوعة) بدعوى أن الغاية تبرر الوسيلة. كل حركات العالم تجنح الآن إلى إقامة تكتلات إقتصادية، تستطيع العمل ماليًا ولكنها لا تتمتع بتنظيم ديمقراطي، وتتجه إلى إقامة نظام صلب. وبذلك، سينشأ رعب العاطفة الوطنية، وسيجنح الناس إلى تكذيب الحقيقة الموضوعية، لأن على كل الحقائق وبدءًا من تلك اللحظة أن تطابق كلام طاغيةٍ معصومٍ وتنبؤاته. بدأ التاريخ سلفًا بالتلاشي، وذلك لأنه لم تعد هناك أي حقيقة تاريخية يتفق عليها العالم أجمع؛ وحتى العلوم الدقيقة أصبحت في خطر الفناء بقدر الوقت الذي يحتاجه جيشٌ ما ليبقي جنوده بحالةٍ جيدة. يستطيع هتلر أن يقول بأن اليهود من بدأ الحرب، وإذا ما نجا فسيصبح ذلك تاريخًا رسميًا يُعتَرف به. لن يستطيع مثلًا أن يقول مجموع اثنان واثنان يساوي خمسة، وذلك لأنه، بحكم تعداد القذائف، ستوجد أربعة في النهاية. ولكن، في عالمٍ أخشى تكوُّنه، حيث توجد دولتان أو ثلاث دول كبرى لا تستطيع إحداها احتلال الأخرى، فسيكون مجموع اثنان واثنان يساوي خمسة إذا أراد الطاغية ذلك*. في الواقع، هذا هو الإتجاه الذي نسير إليه جميعًا – حسب ما أرى – رغم أن المسار الذي ننحاه يُظهِر العكس تمامًا.
وفيما يتعلق بالحصانة النسبية التي تتمتع بها بريطانيا والولايات المتحدة، فمهما تكلم الباسيفيكيون وغيرهم، نحن لم نصل إلى مرحلة الشمولية بعد، وذلك مؤشر مطمئن وعارض جيد. أؤمن بعمق، كما ذكرت في كتابي “الأسد والحريش”، بالشعب الإنجليزي وقدرته على مركزة اقتصاده دون تدمير الحرية بفعل ذلك. ولكن يجب علينا أن نتذكر بأنهما لم يوضعا على المحك، فهما لم يُهزَما حتى الآن ولم يدخلا في معاناة ما، وهناك أعراض سيئة تعادل المؤشرات الجيدة. أولها هو اللامبالاة الكبيرة تجاه ضعف الديمقراطية الذي يحدث هذه الأيام. هل تدرك أنه لا يملك الآن أي شخص تحت السادسة والعشرين من عمره أي أحقية للتصويت في إنجلترا، وأننا نرى ذلك العدد الكبير من الناس الذين ينتمون لتلك الفئة لا يبالون بذلك؟ ثانيًا، هناك مثقفون كثر يعتبرون شموليين أكثر من عامة الشعب. عارض المثقفون الإنجليز بالعموم هتلر، ولكن كان ذلك بثمن أن يقبلوا بستالين. كلهم جاهزون لتقبل الطرق الدكتاتورية، والشرطة السرية، والتزييف المنهجي للتاريخ* طالما أن ذلك “في صالحهم”. في الواقع، فإن المقولة التي تؤكد بعدم وجود حركة فاشية في إنجلترا تعني أنه وفي نفس الوقت يوجد العديد من الشباب ممن يبحثون عن “فوهررهم” الخاص في مكانٍ آخر. لا يستطيع أحدنا أن يتأكد بأن ذلك لن يتغير، أو أن يفكر عامة الشعب بعد عشر سنوات كما يفكر مثقفوه الآن. آمل* بأن الشعب لن يتغير، وإذا تغير فسيكون ذلك على حساب معاناة كبرى. إذا أعلن أي شخص أن خير الجميع بيد أفضلهم، ولم يعتقد أحد ما بأن ذلك نذير شؤم، فإن ذلك الشخص قد ساعد على قرب الشمولية.
كنت تسألني أيضًا عن سبب دعمي للحرب إذا كان العالم يتجه نحو الفاشية. الحرب خيار الأشرار، وأعتقد بأن كل حرب هي كذلك. أعلم بأن الإمبريالية البريطانية لن يعجبها كلامي، ولكني سأدعمها ضد النازيين أو الإمبريالية اليابانية بوصفها أهون الشرين. وبنفس الدافع سأدعم الاتحاد السوفييتي ضد ألمانيا، لأني أعتقد بأن الروس لن يستطيعوا تجاهل ماضيهم وترك أفكار ثورتهم الأساسية ليكونوا شيئًا أهون من النازية. أعتقد، وكنت أظن ذلك منذ بدأت الحرب سنة 1936 أو ما حولها، بأن قضيتنا هي الأفضل، ولكن يجب علينا أن نعمل على تحسينها، مما يقتضي نقدًا مستمرًا.
المخلص،
جو. أورويل
المحاور: ماهو كتابك المفضل حينما كنت طفلًا؟
إيغلدن: الحديقة السرية لفرانسيس هودجسون بورنيت. أردت في صغري أن تكون هناك قدرة خاصة تربطني بالحيوانات والنباتات، أن يكون هناك سحر في العالم، أو على الأقل فيَّ أنا. في الحديقة السرية، كانت شخصية “ديكون” تملك تلك الرابطة، وكنت أحسدها عليها. كنت أيضًا أعتقد أن ديكون يملك وجهًا غريبًا مثلي.
المحاور: هل كنت تملك كتبًا في منزلك في ذلك الوقت؟
إيغلدن: نعم، كان المنزل مليئًا بالكتب. كنت آكل الإفطار بينما أحد كتب آدريان مول تحت صحن خبز التوست. قرأت في الحمام، على الأشجار، وبشكل متكرر فوق سطح المنزل. كان أخي ينام بشكل مباشر تحت مجموعة من الرفوف لدرجة أني خفت أن تقتله.
المحاور: هل كان هناك أحدٌ ما يشجعك على القراءة أو الكتابة؟
إيغلدن: كانت أمي آيرلندية، وتخبرني منذ سن مبكرة باالعديد من القصص التاريخية العجائبية وعن الكثير من حوادث الإعدام المروعة، ولاتزال تقتبس العديد من القصائد وتحب الكلمات حتى هذا اليوم. أشك بإمكانيتي للكتابة لو لم تساعدني. ومع ذلك، أشك بمصدر إلهامي للكتابة، ربما تكون العزلة هي السبب.
المحاور: ما الذي ألهمك للكتابة حينما كنت في بداياتك؟
إيغلدن: بدأت مع الروايات الفانتازية، وأحببت الرحلات التي يقوم بها خيالي الجامح. كانت أشبه باالمخدر، وكانت عالمًا أريد الإنضمام له. من الصعب شرح ذلك، ولكنه شعور رائع حينما تأتي الكلمات لذهنك.
المحاور: هل تجد الكتابة سهلة؟ هل تَسْهُل مع الوقت؟
إيغلدن: في بعض الأحيان، نعم. هناك العديد من الفصول، بل العديد من الكتب التي أتت بسهولة، وبعضها كان بصعوبة ارتكاب جريمة قتل. بصدق، الأمر يعتمد على ماإذا كنت أدخن أم لا. إذا كنت أدخن، فأنا أستطيع كتابة العواصف حتى. أما إذا لم أفعل، فإني مقيد إلى الأرض. مجرد كادح بائس يتمتع بالصحة.
المحاور: ما الذي يجعلك تكتب هذه الأيام؟
إيغلدن: تلك الأجزاء التي تجعل أصابعي ترتجف، وقلبي ينبض بتسارع، والتي أقرأها بصوتٍ عال وأعلم أنها كتبت بطريقة جيدة. هي ليست أفضل من ممارسة الجنس ( حمدًا للرب )، ولكنها يمكن أن تكون أفضل من تلك السيجارة الأولى الموقظة في الصباح، ربما.
المحاور: كيف تكتب؟ هل تتبع برنامجًا يوميًا؟
إيغلدن: أكتب ألف كلمة يوميًا، وفي اليوم التالي أعيد قراءتها وأنقحها. كلما كبر الكتاب أعدت قراءة أجزائه حوالي ألف مرة.
المحاور: كيف تنجو من كونك وحيدًا في عملك طوال كل هذا الوقت؟
إيغلدن: بملء الساعات الباقية باالحياة والعائلة والأصدقاء، وكلب أيضًا. هناك أوقات أحتاج فيها للعزلة لكي أحافظ على عقلي، وهناك أوقات أخرى أحتاج فيها لأن أكون بأقرب حانة.
المحاور: هل تذكر أي نصيحة جيدة أُسديت لك حينما كنت في بداياتك؟
إيغلدن: “جهز الشخصيات أولًا، وستأتي الحبكة لاحقًا.”. أحب أيضًا نصيحة روبرت هينيك القديمة، والتي أسداها لمؤلفين في بداية مشوارهم: إقرأوا كثيرًا، أكتبوا كثيرًا، وارموا ماتكتبونه بعيدًا.
المحاور: ماهي نصيحتك للكتَّاب الجدد؟
إيغلدن: توقفوا عن مراسلتي، أنا أحذركم.
المحاور: هل يوجد سر للكتابة؟
إيغلدن: من أعمق نقطة كثيفة في الكتابة، إلى ذلك النص الذي يجعل قلبك ينبض بسرعة، هناك سر واحد: يهتم الناس بأمر بعضهم. الأبقار لا تفعل ذلك، ولا الذئاب أيضًا. نحن من يفعل ذلك. افهم هذا السر وستقدر على كتابة أي شيء.
من المحتمل أن يسهل الأمر عليك إن كنت تميل للعزلة قليلًا، لكي تستطيع الكتابة عن الناس كمراقب.
تقديم
ريتشارد فاينمان (1918 – 1988) هو أحد علماء الفيزياء النظرية في الولايات المتحدة، له آثاره الشهيرة حول ميكانيكا الكم، الموائع، وفيزياء الجزيئات. نال فاينمان جائزة نوبل في الفيزياء سنة 1965، وحائز في استفساء خاص بالفيزيائيين أجري في المملكة المتحدة سنة 1991 على مقعد بين أهم عشرة فيزيائيين منذ فجر التاريخ. امتازت كتبه بشعبية عالية لدى القراء في الولايات المتحدة وذلك لمحتواها الثري ولغتها البسيطة، سواء في الكتب الثلاثة لمحاضراته حول الفيزياء، أو في سيره الممتعة “من المؤكد أنك تمزح يا سيد فاينمان” أو “متعة اكتشاف الأشياء”. في عام 1941، تعرف على آرلين غرينباوم وتزوجها، ومنها عاشا أحد أجمل قصص الحب حتى ماتت سنة 1945 بسبب مرض السل. مُثلت قصة حبهما في فيلم بعنوان “لا نهاية” سنة 1996. كتب فاينمان رسالة لها بعد وفاتها، وتعتبر من أعذب رسائل الحب التي قرأتها شخصيًا. لم تُكشف هذه الرسالة حتى تُوفي لاحقًا.
رسالة ريتشارد فاينمان إلى زوجته بعد وفاتها
ترجمة: راضي النماصي
17 أكتوبر 1946
عزيزتي آرلين،*
أعشقكِ ياغاليتي.
أعلم قدر سعادتكِ حين تسمعين مثل هذه العبارة، لكني لا أكتبها فقط لأنكِ تحبينها. أكتبها لأنها تغمرني بالدفء في داخلي كي أكتبها لك. مضى وقت فظيع وطويل منذ آخر مرة أرسلت لك. حوالي عامين تقريبًا، لكني أعلم بأنكِ ستعذريني لأنكِ تفهمين من أنا، فأنا عنيد وواقعي، وكنت أعتقد بأن لا منطق من الكتابة إليك. ولكني الآن، أعلم بأنه من الصواب أن أفعل ماأجَّلْت فعله، والذي كنت أفعله كثيرًا في الماضي. أريد أن أقول بأني أحبك، وأني أريد أن أحبك، وبأني سأبقى دائمًا محبًا لك.
أجد من الصعب أن أفهم الآن حبي لكِ بعد وفاتك، لكني أريد أن أسعدكِ وأعتني بك، وأريدكِ أن تحبيني وأن تهتمي بي. أريد أن أحظى بمشاكل لكي أناقشها معك، أريد القيام ببعض المشاريع الصغيرة سويًا. لم أعتقد حتى الآن بأنه يمكننا القيام بذلك. ماالذي يمكن أن نفعله. بدأنا بتعلم الخياطة سويًا، أو تعلم الصينية، أو إحضار عارض أفلام. هل أستطيع فعل أي شيء الآن؟ كلا، فأنا وحيد، وأنت من كان يملكِ الأفكار، والمرشد لكل مغامراتنا الجامحة.
حينما كنت مريضة قلقت لأنكِ لم تقدري على منحي شيئًا كنت تريدين إعطائي إياه، واعتقدتي بأني كنت أحتاجه. لم يكن الأمر بداعٍ للقلق. كما أخبرتكِ حينها فلم تكن هناكِ حاجة حقيقية، لأني أحببتكِ بطرق شتى وكثيرة. وهذه الحقيقة تتضح أمامي أكثر الآن؛ فأنت لاتستطيعين منحي شيئًا، ومع هذا أحبكِ لدرجة تغنيني عن حب أي أحد. لكني أريدكِ أن تبقي، فأنتِ وبموتكِ تغنيني عن أي حيٍّ آخر في هذا العالم.
أعلم بأنكِ ستعدينني أحمق، وأنكِ تريدين لي السعادة الكاملة دون أن تقفي في طريقي. أراهن بأنكِ ستتفاجئين حين تعلمين أني لاأحظى بعشيقة في هذه الأيام بعدما مر العامان (ماعداك). لكنكِ لاتستطيعين فعل شيءٍ حيال ذلكِ ياعزيزتي، ولا أنا. لا أفهم ماالذي يحدث لي، قابلت العديد من النساء، ومنهن كثيرات في غاية اللطف، وأنا لاأرغب في البقاء وحيدًا، لكنهن يتحولن جميعًا إلى رماد بعد لقاءين أو ثلاثة. أما أنتِ، من بقي لي، فما زلت في ناظري حقيقية وباقية.
زوجتي العزيزة، كم أعشقك.
أحب زوجتي، وزوجتي الآن ميتة.
ريتش.
ملاحظة: أرجوكِ أعذريني لأني لم أستطع إرسال هذه الرسالة لك، فأنا الآن لاأعرف عنوانكِ الجديد.
لم يكن اختيار المرشح الأول للمنحة صعبًا بالنسبة إلى اتحاد أبناء أوموفيا، فأوبي كان خيارًا واضحًا. عندما كان في الثانية عشر أو الثالثة عشر من عمره، فاقت نتائجه في الصف السادس جميع الطلاب على مستوى المحافظة. بعد ذلك، نال منحة للدراسة في واحدة من أرقى المدارس الثانوية في شرق نيجيريا. في نهاية سنواته الجامعية الخمس، تخرج أوبي من جامعة كامبريدج بامتياز في جميع المواد الثمانية. كان أوبي مشهورًا في قريته، وتردد صدى اسمه في المدرسة الإبتدائية التي درس فيها حينما كان طالبًا. ( لاأحد يتحدث الآن حول فعلة أوبي المشينة، والتي جلبت العار للمدرسة، بأنه أرسل رسالة لأدولف هتلر أثناء الحرب. أشار المدير إليه، وهو يكاد يبكي، بأنه عار على الإمبراطورية البريطانية. وقال بأنه لو كان رجلًا كبيرًا، لقضى بقية حياته البائسة في السجن. ولكن، بما أنه كان في الحادية عشر من عمره وقتها، فقد تلقى ست ضربات بالعصا على ردفيه كعقوبة.).
سبَّبَ ذهاب أوبي إلى إنجلترا ضجة كبيرة في أوموفيا. وقبل أيام من مغادرته إلى لاغوس، طلب والداه إقامة صلاة جماعية لأجله في البيت. ورأس ذلك الاجتماع رئيس كنيسة سانت مارتن الأنجيليكانية في أوموفيا، القس صاموئيل إيكيدي. قال القس بأن هذه المناسبة تحقيق لنبوءة واردة:
“الناس الجالسون في الظلام
رأوا نورًا عظيمًا
ومن ذهب إلى تلك المنطقة مواجهًا ظل الموت
أتى لهم بضوء الربيع”
تحدث القس لنصف ساعة، وبعدها طلب من أحد الجالسين أن يقودهم في الصلاة. قامت ماري قبل الجميع منتهزة تلك الفرصة، قبل أن يرمشوا بأعينهم حتى. كانت ماري من أكثر المسيحيين المخلصين في أوموفيا، وهي صديقة عزيزة لأم أوبي، حنة أوكونكو. على الرغم من سكنها بعيدًا عن الكنيسة – حوالي ثلاثة أميال أو أكثر – إلا أنها لم تفوت صلاة الصباح المبكرة، والتي عقدها القس في كوكراو. سواء في قلب موسم الرطوبة، أو في أيام رياح الهارماتان الباردة، ستجد ماري هناك ضمن أوائل من حضروا. كانت تأتي في بعض المرات قبل ساعة من موعد الصلاة؛ تطفئ شمعة الكيروسين لأجل التوفير، وتنام على أحد المقاعد الطينية الطويلة إلى أن يوقظها أحد ما.
“أوه، ياإله إبراهيم، وإله إسحاق، وإله يعقوب.”، كما بدأت، “أيها المبتدأ والمنتهى، بدونك لانستطيع عمل شيء. لايكفي حجم النهر لتغسل يديك فيه. أنت تملك اليام والسكين؛ لانستطيع الأكل دون أن تهبنا قطعتنا. نحن كالنمل في مرآك. نحن كالأطفال الذين يغسلون صدورهم أثناء الاستحمام وينسون ظهورهم جافة…”، أكملت ماري الدعاء وهي تستحضر التشبيه تلو التشبيه، والصورة تلو الصورة. ختامًا، أشارت إلى مايجتمعون من أجله، وطلبت العون من أجل أن تتم رحلة أوبي كما تستحق، متبعة ذلك بذكر تاريخ ابن صديقتها، الذي سيذهب إلى مكان يحوي نهاية العلم. حينما انتهت من الصلاة، تراجع الناس وبدأوا بفرك أعينهم لكي يعتادوا على ضوء المساء مرة أخرى.
جلس الحضور على مقاعد خشبية طويلة استعاروها من المدرسة. كانت طاولة صغيرة تقبع أمام الرئيس، وكان أوبي يجلس بجانبه، مرتديًا سترة المدرسة وقميصًا أبيض.
ظهر رجلان ضخمان من ناحية المطبخ، وهما يحملان قدرًا كبيرًا من الأرز، مما اضطرهما لثني ظهريهما. تبعهما قدر آخر. بعد ذلك، جلبت شابتان معهما وعاءًا يغلي من الحساء الساخن بداخله. بعدها، جُلبت العديد من براميل نبيذ النخل، وعدة أطباق وملاعق وسكاكين ادخرتها الكنيسة، لأجل أعضائها في الأحداث التي تصادفهم كالزواج، والمواليد، والعزاء، ومناسبات أخرى مثلها.
ألقى السيد إسحاق أوكونكو خطابًا قصيرًا بعنوان “هذا الكولا الصغير” قبل ضيوفه، مما كان لائقًا بحسب عادات أوموفيا. كان معلمًا للكاثوليكية في ذلك المجتمع لمدة تزيد عن خمس وعشرين سنة، وتقاعد بمرتب قدره خمس وعشرون جنيها في العام. كان أول من بنى بيتًا من الصفيح في أوموفيا. لم يكن من المتوقع أن يعد وليمة، فضلًا عن أن تكون بهذا الحجم. لم يتوقع أحد وليمة بهذا الحجم حتى من أوكونكو الجد نفسه، والذي اشتهر بكرمه الذي يغطي النظر. حينما احتجت زوجته ضد ماتعتبره تبذيرًا، رد عليها بأنه “يجب على من يعيش على ضفاف النيجر أن لايغسل يديه بالبصاق”، وكانت هذه مقولة مفضلة لأبيه. كان من الغريب أن أوكونكو يرفض كل مايتعلق بأبيه إلا تلك المقولة. ربما نسي منذ وقتٍ طويل أن أباه يقول تلك الجملة غالبًا.
في نهاية الوليمة، أدلى القس بخطاب طويل آخر. شكر القس أوكونكو على هذه الوليمة التي جمعت من الناس أكثر مما جمعت حفلات زواج في الآونة الأخيرة.
قدم السيد إيكيدي إلى أوموفيا من البلدة، وتحدث إلى الجمع حول عزوف الناس عن حضور حفلات الزواج منذ اختراع الشيء المسمى ببطاقات الدعوة. شك العديد ممن سمعه حول صحة مايقول، وأكدوا بأن الشخص منهم لايحضر إلا أعطي شخص منهم تلك الأوراق التي تحوي ذلك الاختصار “ر. ح. ك. ج.” – رز وحساء كثير جدًا – والذي دائمًا مايكون مبالغة لاأكثر.
بعد ذلك، التفت القس إلى الشاب الجالس عن يمينه. “فيما مضى،” كان يتوجه بالحديث إليه. “كانت تطلب أوموفيا من أمثالك أن تحارب لأجلها، وتأتي برؤوس أعدائها. ولكن، كانت تلك أيامًا مظلمة، أتتنا عن طريق دم خروف الرب. اليوم، نحن نرسلك لطلب العلم. تذكر بأن بداية الحكمة مخافة الرب. لقد سمعت بشباب من قرى أخرى، ذهبوا إلى بلد الرجل الأبيض. وبدلًا من أن ينتبهوا لدراستهم، تبعوا تلك اللحوم الجميلة. بعضهم – وياللفظاعة – تزوج امرأة بيضاء.”. بدأ الجمهور بالتجهم واستهجان ذلك الفعل الشنيع الذي سمعوا به. “من يفعل ذلك فهو خسارة على شعبه، كالمطر حينما يضيع في الغابة. وددت لو تتزوج قبل أن تغادر، لكن الوقت لم يعد يكفي. على أية حال، أعلم بأنه لاخوف عليك. نحن نرسلك لكي تتعلم الكتب، وبإمكان المتعة أن تنتظر. لاتتسرع لأجل المتعة مثل ذلك الظبي الصغير الذي رقص أعرجًا قبل موعد الرقصة الرئيسية.”.
شكر القس أوكونكو مرة أخرى، والحضور لتلبيتهم الدعوة. “لو لم تجيبوا دعوته، لكان أخونا مثل ذلك الملك في الكتاب المقدس، الذي دعى الناس لأجل حفل زفافه.” – إنجيل متى 22.
بعدما أنهى القس خطبته، قامت ماري بأداء أغنية تعلمتها مع نساء أخريات في اجتماعات صلاة أخرى.
” لاتدعني خلف يسوع، وانتظرني
حينما أذهب إلى المزرعة
لاتدعني خلف يسوع، وانتظرني
حينما أذهب إلى السوق
لاتدعني خلف يسوع، وانتظرني
حينما آكل طعامي
لاتدعني خلف يسوع، وانتظرني
حينما أستحم
لاتدعني خلف يسوع، وانتظرني
حينما يذهب إلى بلد الرجل الأبيض
لاتدعه خلف يسوع، وانتظره “
أنهى الحضور الاجتماع بأداء أغنية “مجدوا الرب، مَن تتدفق النعم مِن لدنه.”، وبعد ذلك قاموا بتوديع أوبي، وهم يسدونه العديد من النصائح التي قيلت له مسبقًا. حينما كان يصافحون أوبي، كانوا يودعون مبالغ صغيرة من المال كهدايا في كفه، لأجل أن يشتري قلم رصاص، أو دفتر تمارين، أو خبزًا لأجل الرحلة، شلن من هنا وبنس من هناك. – كانت تلك الشلنات والبنسات تعد هدايا كبيرة في عرف القرية، وذلك لندرة المال في ذلك الوقت. حيث كان الرجال والنساء وقتها يخرجون من سنة لأخرى لانتزاع لقمة العيش الشحيحة من تربة عقيمة ومستنفذة.
عقد مجلس تقدم أوموفيا اجتماعًا طارئًا في أحد أحياء لاغوس الرئيسية. أوموفيا هي قرية تقع في شرق نيجيريا وتتبع قبيلة الإيبو، وهي موطن أوبي أوكونكو. هي ليست بتلك القرية الكبيرة، ولكن سكانها يسمونها مدينة. هم فخورون بماضيهم حينما كانوا يمثلون رعبًا لمن يجاورهم، قبل أن يأتي الرجل الأبيض ويساوي بالجميع الأرض. خلع اليوموفيون (يسمون أنفسهم بذلك) ممن غادروا القرية بحثًا عن وظائف في مدن نيجيريا الكبرى على أنفسهم لقب غرباء، وهم يعودون إلى أوموفيا كل سنتين أو نحو ذلك لكي يمضون إجازاتهم. عندما يستطيعون توفير مبلغٍ معينٍ من المال فإنهم يسألون أقاربهم في المنزل لكي يبحثوا لهم عن زوجة ما، أو لكي يبنوا بيتًا من الصفيح في قريتهم. أينما كانوا في نيجيريا، سيؤسسون فرعًا محليًا لمجلس تقدم أوموفيا.
كان المجلس قد عقد عدة اجتماعات في الأسابيع الماضية بخصوص قضية أوبي أوكونكو. في الاجتماع الأول، أعرب عدد من الناس عن استغرابهم من اهتمام النادي وتسخير طاقاته من أجل ابن ضال أظهر عدم احترامه لهم منذ فترة وجيزة.
“دفعنا مايقارب ثمانمائة جنيه إسترليني لكي ندربه في إنجلترا”. قال واحد منهم. “لكن بدلًا من أن يكون ممتنًا لذلك، فهو يحط من قدرنا من أجل فتاة رخيصة، وها نحن اليوم نجتمع من أجل أن نجد مالًا له. ماالذي يفعله براتبه الكبير؟ رأيي الشخصي هو أننا فعلنا الكثير من أجله.”
لم تؤخذ وجهة النظر هذه بجدية، رغم أنها لاقت قبولًا مضمرًا. لأنه، وكما أوضح رئيس المجلس، حينما يقع أخٌ لنا في ورطة، فعلينا أن ننقذه لا أن نلومه؛ وأن الألم الذي يتسبب به لنا، فهو لن يضر مهما بلغ. وعليه، فيجب على المجلس أن يدفع مايلزم من المال لكي يغطي أتعاب المحامي.
لكن القضية قد انتهت صباح اليوم بالخسارة، ولذلك عُقد هذا الاجتماع الطارئ. وصل العديد من الأشخاص إلى منزل الرئيس في شارع مالوني، وكانوا يتحدثون بحماس عن الحكم.
“علمت بأنها قضية خاسرة.”، قال ذلك الرجل الذي تكلم في أول اجتماع. “نحن نهدر مالنا هباءًا. ماالذي سيقوله الناس عنا؟ هم الذين يقاتلون مقابل لاشيء، إلا إهانتهم برغم رؤوسهم في التراب والسخام”.
لكنه لم يحز أي أتباعٍ في صفه. كان رجال أوموفيا جاهزين ليقاتلوا حتى آخر رمق. لم يكن لديهم شكوك بخصوص أوبي. هو لم يكن سوى شاب أحمق ومعتد بنفسه، ولكن هذا ليس وقت الخوض في ذلك. يجب أن نطارد الثعلب أولًا ونخرجه بعيدًا، ثم نستطيع بعد ذلك أن نحذر الدجاجة من التوغل داخل الغابة.
حينما يأتي وقت الخطر، يستطيع أحدهم أن يثق برجال أوموفيا أن يتنبهوا بالقدر المطلوب، أو بشكل أقل أو أعلى. قال الرئيس بأنه من المخزي لرجل بمثل تلك الرتبة العالية أن يذهب إلى السجن من أجل عشرين جنيهًا فقط. كرر ذلك المبلغ، وفي كل مرة يقوله كان يبصق حنقًا. “أنا ضد أن يحصد الشخص مالم يزرعه. ولكن لدينا مثلًا يقول: إن كنت تريد أن تأكل علجومًا، فابحث عن علجوم سمين وشهي.”
“لايعدو الأمر أن يكون نقص خبرة.”ـ قال رجل آخر. “كان يجب ألا يأخذ المال بنفسه، مايفعله الآخرون هو أن يعهدوا بالمبلغ إلى صبي المكتب الخاص بهم. حاول أوبي أن يفعل مايفعله الجميع، دون أن يعلم كيف يتم ذلك.”، ثم قال ذلك الرجل مثلًا حول فأر منزل ذهب للسباحة مع صديقه السحلية، ومات من البرد.. وذلك بسبب أن جلد السحلية أبقاه جافًا، بينما بقي الفأر رطبًا بفعل فروه.
في لحظةٍ ما، نظر الرئيس عمدًا إلى جيبه، وأعلن بداية الجلسة. وقف الجميع وتلا كل واحدٍ منهم صلاة قصيرة. قدَّم الرئيس بعدها ثلاث جوزات كولا للاجتماع. قام أكبر الحضور سنًا بكسر الجوزة الأولى، وهو يتلو صلاة أثناء ذلك. “من يجلب جوز الكولا فهو يجلب الحياة.”، قال العجوز. “نحن لانهدف إلى إيذاء أحد، ولكننا سنكسر عنق أي شخص يحاول أذيتنا.”. رددت الجماعة من بعده كلمة (آمين). “نحن غرباء في هذه الأرض. إذا أتى الخير لها فليأت لنا نصيبٌ منه.”، آمين. “وإن أتى شر لها فليذهب لأصحاب هذه الأرض، الذين يعرفون كيف يرضون الآلهة.”، آمين. “لدى العديد من القرى المجاورة أربعة أو خمسة أو عشرة من أبنائها يعملون في مباني البريد الأوروبية في هذه المدينة، وليس لأوموفيا سوى ابن واحد يعمل هناك. يقول أعداؤنا الآن بأن واحدًا هو كثير منا لكي يعمل هناك. لكن أسلافنا لن يوافقوا على مثل هذا الكلام.”، آمين. “فثمرة النخيل الوحيدة لاتضيع في النار.”، آمين.
ينطبق مثل هذا الوصف على أوبي أوكونكو، فهو بالفعل “ثمرة نخيل وحيدة”. اسمه الكامل هو أوبياجولو، والذي يعني “العقل يرتاح عند النهاية”. بالطبع، فإن العقل المعني هنا هو الأب، والذي أنجبت زوجته أربع بناتٍ قبل أوبي، كان قلقًا قبل إنجابه أوبي. كونه تحول مسيحيًا – في الواقع، هو كاثوليكي – فذلك يمنعه من الزواج بامرأة أخرى. في ذلك الحين، لم يكن الأب من الرجال الذين تظهر علائم الحزن على محياهم. بشكل أدق، فهو لن يسمح لأي وثني أن تساوره الشكوك حول حزنه من هذا الموضوع. سمى ابنته الرابعة، نوانيدينما، ويعني اسمها بأن “البنت أيضًا مخلوق جيد”، ولكن لم يحمل صوته أي نبرة اقتناع.
لم يفكر العجوز، الذي كسر جوز الكولا وسمى أوبي بـ”ثمرة النخيل الوحيدة”، بعائلة أوبي حينما قال كل ذلك الكلام. كان يفكر بقرية أوموفيا القديمة والمتهالكة بفعل الحروب. منذ ستة أو سبعة سنوات، قرر أبناء القرية ممن يسكنون خارجها جمع بعض المال، وذلك لأجل إرسال أذكى وألمع أبناءهم للدراسة في إنجلترا. إنهم يلومون أنفسهم الآن على ذلك القرار بلا رحمة. كانت منحة الدراسة الأولى من نصيب أوبي أوكونكو قبل خمس سنوات، منذ ذلك الحين إلى يومنا هذا. وعلى الرغم من تسميتهم لها بالمنحة، إلا أن على الطالب أن يعيد كافة التكاليف لاحقًا. كلفت دراسة أوبي في ذلك الوقت ثمانمائة جنيه إسترليني، على أن يتم سدادها خلال أربع سنوات من عودته. أرادوا منه أن يدرس الحقوق، لكي يقوم بالمرافعة عنهم في قضاياهم المستقبلية ضد قرى أخرى، ولكنه قرر دراسة اللغة الإنكليزية بدلًا عن ذلك حينما وصل إلى إنكلترا. قراره لم يكن جديدًا، فهو أراد ذلك منذ زمن. غضب الإتحاد ولكن قرروا تركه ليكمل دراسته. فعلى الرغم من أنه لن يكون محاميًا، إلا أنه سيحصل على معاملة الأوربيين في الخدمة المدنية.
تقديم
يُعد تشينوا أتشيبي (1930-2013) أهم روائي أفريقي في القرن العشرين برائعته التي أصدرها قبل نصف قرن “الأشياء تتداعى”. مالا يعرفه الكثير من الناس هو أن تلك الرواية العظيمة هي جزء من ثلاثية تدعى “الثلاثية الأفريقية”، والجزءان الآخران هما “لم يعد ممكنًا” و”سهم الرب”. حسب الأخ/ أحمد زين من جريدة الحياة اللندنية، فقد تم إصدار الجزء الثاني لهذه الثلاثية منذ فترة طويلة تحت عنوان “مابعد الراحة”، ضمن سلسلة “من ذاكرة الشعوب” الصادرة عن مؤسسة الأبحاث العربية ببيروت.
تعرض هذه الرواية التحديات التي واجهت جيل مابعد الاستعمار في نيجيريا، ويلقي فيها تشينوا أسئلته ورؤاه حول الحرية، الجريمة، الكرامة، والحب عبر سرد متقن وحكاية مميزة. يسعدني أن أقدم للقارئ العربي ترجمة مقطع من هذه الرواية الجميلة على شكل حلقات. قراءة ممتعة!
لم يعد ممكنًا – تشينوا أتشيبي
ترجمة: راضي النماصي
الحلقة الأولى
ظل أوبي أوكونكو يشجع نفسه لمدة ثلاثة أو أربعة أسابيع من أجل هذه اللحظة. وعندما دخل قفص الاتهام في ذلك الصباح ظن أنه على استعداد تام. ارتدى قميصًا شاطئيًا وبدا هادئًا وغير مبال. ماحدث بعد ذلك من إجراءات كان كفيلًا بأن يُظهر على وجهه أمارات اهتمام قليلة، باستثناء لحظة وحيدة في بداية المحاكمة حينما دخل أحد المحامين في شجارٍ مع القاضي.
“تبدأ هذه المحاكمة في التاسعة تمامًا، لماذا تأخرت؟”
كان من المعروف بأن أي نظرة من معالي السيد ويليام غالاواي، قاضي محكمة لاغوس العليا والجنوب الكاميروني، كفيلة بزرع الرعب إلى حد الجمود في وجه من ينظر إليه، كما لو كان حشرة يحنطها صائدها بالفورمالين.
أخفض القاضي رأسه ككبشٍ غاضب، وحدج المحامي عبر عدستي نظارته المذهبة.
“أعتذر ياسيادة القاضي.” تلعثم المحامي. “تعطلت سيارتي في الطريق.”
استمر القاضي بالنظر إليه مدة طويلة، ثم فاجأه بالقول:
“حسنا ياسيد أدايمي، قبلت اعتذارك. لكن عليك أن تعلم بأني سئمت من أعذارك المعتادة حول مشاكل النقل.”
كان هناك من يضحك بصوت مكتوم في طرف القاعة. اكتفى أوكونكو بابتسامة ضعيفة ورمادية، ومن ثم فقد اهتمامه.
امتلأت قاعة المحكمة بالناس عن آخرها، وتساوى عدد الواقفين مع أعداد الجالسين. كانت القضية محط اهتمام لاغوس لأسابيع عديدة، وفي آخر يوم من هذه القضية، كان الكل يحاول أن يعتذر من عمله فقط لكي يحضر هذه المحاكمة ويستمع للحكم النهائي. دفع بعض موظفي القطاع الخاص مايوازي بكثرته عشر شلنغات وستة بنسات للأطباء، فقط لكي يحرروا أعذارًا مرضية لهذا اليوم.
لم يُظهر برود أوبي أي علامة نقصان، بل أخذ بالتزايد حتى حينما بدأ القاضي مراسم المحاكمة. كان ماحركه وأزال بروده بشكل مفاجئ هو عندما قال القاضي: “لاأستطيع فهم كيف يمكن لرجلٍ بمثل تعليمك ونبوغك أن يفعل ذلك”. طفرت عينا أوبي بدموع غادرة. أخرج منديلًا أبيض ومسح تلك الدموع من على وجهه كما لو كان يمسح عرقًا. حاول أن يغالب تلك الدموع ويبتسم بحيث تكون ابتسامته منطقية. كل ذلك الكلام حول التعليم والآمال والخيانة لم يكن متوقعًا. تدرب على هذا الموقف بالذات مئة مرة حتى تآلف معه كصديق.
في الواقع، عندما بدأت المحاكمة الأولى منذ بضعة أسابيع، تحدث السيد غرين – رئيسه، والذي استدعاه الإدعاء العام كشاهد – حول شاب واعد آخر، ولم ينبس أوبي بحركة. لحسن الحظ، فقد أمه مؤخرًا، وخرجت كلارا من حياته. صنعت هاتين الحادثتين المتقاربتين من أوبي رجلًا مختلفًا وأعدمت ماتبقى من إحساسه، مما جعله قادرًا على مواجهة كلمات مثل “الآمال” و”التعليم” بكل برود. ولكن، في تلك اللحظة المختلفة، خانته تلك الدموع الغدارة.
***
استمر السيد غرين بلعب التنس منذ الخامسة مساءًا، وكان هذا الأمر غريبًا عليه. كان من المعتاد أن يأخذ العمل أكثر وقته بحيث لايدع مجالًا له للعب. تعود أن يمشي في المساء كتمرين أساسي. لكنه اليوم لعب مع شخص كان يعمل في المجلس البريطاني الثقافي. ذهبوا بعد المباراة إلى مشرب النادي. كان السيد غرين يرتدي كنزة صفراء فاتحة فوق قميصه الأبيض، وتتدلى منشفة بيضاء حول عنقه. تواجد العديد من الأوروبيين الآخرين في المشرب. بعضهم نصف جالس على الطاولات المرتفعة، وبعضهم يقف في مجموعات مابين اثنين وثلاثة، يشربون البيرة الباردة، عصير البرتقال، أو خمرة الجين والتونيك.
“لاأستطيع أن أفهم لماذا فعل ذلك” قال موظف المجلس الثقافي البريطاني وهو يكفر. كان يرسم خطوطًا من ندى الماء المتكثف على زجاج كأس البيرة المثلجة الخاص به.
“أما أنا، فأستطيع.” رد السيد غرين بكل بساطة. “مالاأستطيع أن أفهمه هو عدم قدرتك على مواجهة الحقائق”. اشتهر السيد غرين بقدرته على قول مايجول في باله. مسح وجهه بالمنشفة البيضاء على عنقه. “الأفريقي فاسد من الداخل، كلما سبرت غوره”. أشاح موظف المجلس عنه، بدافع غريزي أكثر من كونه مفتعلًا. على الرغم من أن النادي كان مفتوحًا للأفارقة تقنيًا، فإن قليلًا منهم كانوا يرتادونه. في ذلك اليوم لم يتواجد منهم أحد، ماعدا الندلاء بالطبع، والذي يخدمون بشكل خفي. من الممكن أن تدخل، وتشرب، توقع شيكًا، تتحدث مع أصدقائك، وتغادر مرة أخرى دون أن تلاحظ وجود أولئك الندلاء في زيهم الأبيض. إذا حدث كل شيء كما ينبغي فلن تستطيع ملاحظتهم.
“كلهم فاسدون.” كرر السيد غرين. “أنا أدعو للمساواة وكل مايتعلق بها. على سبيل المثال، أنا أكره أن أعيش في بلدٍ كجنوب أفريقيا. لكن المساواة لن تغير الحقائق.”
“أية حقائق؟” سأل موظف المجلس، والذي قدم للبلاد حديثًا. اتسمت تلك المحادثة بالهدوء، وعلى الرغم من ذلك، فقد كان العديد من الأشخاص يستمعون إلى السيد غرين، دون أن يُظهروا ذلك.
” تلك الحقيقة التي تبين أنه لقرون لاتُحصى، كان الأفريقي ضحية أسوأ مناخٍ على هذه الأرض، وضحية لكل مرضٍ عصي على الخيال. بالتأكيد لم يكن خطأه، لكنه قد استنزف عقليًا وجسديًا. جلبنا له التعليم الغربي، ولكن بماذا أفاده؟ إنه… ” قاطع حديثه وصول صديق آخر.
“مرحبًا بيتر، مرحبًا بيل.”
“مرحبًا.”
“مرحبًا.”
“هل لي أن أنضم إليكم؟”
“بالطبع.”
“بكل سرور. ماذا تشرب؟ بيرة؟ حسنًا. أيها النادل. إجلب بيرة لهذا السيد.”
“أي نوعٍ ياسيدي؟”
“هينيكين.”
“حسنًا سيدي.”
“كنا نتكلم عن ذلك الشاب الذي تلقى رشوة.”
“أوه، نعم.”