ما معنى الحياة؟ – هاروكي موراكامي

 

في صفحة شخصية على الانترنت، يتلقى هاروكي موراكامي أسئلة باليابانية حول شتى المواضيع، وينتقي منها الأفضل لكي يجاوبها بنفسه. بطبيعة الحال، فقد تلقى أسئلة حول الكتابة ورد عليها بسخرية لاذعة. الغريب أنه كان يتجاوب على مواضيع كانت ثيمات ورموز تتكرر دائمًا في رواياته، كالقطط وكرة القاعدة “Baseball” والحب.

في نهاية شهر مارس الماضي، كتب أحد معجبي هاروكي هذا السؤال على الصفحة:

سيد هاروكي، كيف سترد إذا أتاك شخص وسألك عن معنى الحياة؟ شخصيًا، كنت سأقول “لا معنى لحياة أيٍّ منّا، يكفينا أن نكون أحرارًا”، ولكن ذلك يظهر قلة مسؤولية أو قلة شعورٍ إنساني.

وأتى رد هاروكي كالتالي:

ستكون إجابتي هي “معنى الحياة هو أمرٌ تفكر به بعد أن تموت”. بينما نخوض غمار الحياة، يصعب علينا أن نرى مغزاها والمعنى من وراء أحداثها. كلنا مشغولون، ونجد أنفسنا في شتى المواقف. لذلك، لنترك ذلك لأوقات فراغنا بعد أن نموت. لا أعتقد أن الوقت حينها سيكون متأخرًا للتوصل إلى خلاصة ما بعد ذلك.

لماذا أستمر بكتابة القصائد؟ – تشارلز سيميك

فاجأتني أمي حين كبُرَت في السن كثيرًا، وكانت تسكن في دار الرعاية، بالسؤال عما إذا كنت أكتب القصائد حتى الآن. نظرت إلي لأول وهلة بعدم استيعاب عندما أخبرتها بأني لا زلت أكتب. احتجت إلى أن أكرر لها ما قلت حتى تستوعب؛ وعندما فهمت ذلك، اكتفت بتنهيدة ومن ثم هزت رأسها. من المحتمل أنها كانت في تلك اللحظة تفكر ما إذا كان ابنها مجنونًا. لا زلت أتلقى نفس السؤال هذه الأيام، وأنا في السبعينيات من عمري، من الأشخاص الذين لا يعرفونني جيدًا. أشتبه بأن كثيرًا منهم كان يتوقع إجابة بأني اكتفيت من ذلك، وبأني تركت حماقات الشباب، ويُفضح اندهاشهم لاحقًا حينما يعلمون بالإجابة الحقيقية. يبدو أنهم كانوا يعتقدون بأن هناك خللًا ما في باطني، كما لو كنت أواعد فتاة في الثانوية بعمري هذا، وأتنزه معها في مدينة الألعاب.

يتلقى الشعراء شيبًا وشبَّانًا أسئلة نمطية في مقابلاتهم حول بداية مشوارهم والوقت الذي قرروا فيه أن يبدأوا بالكتابة، ودائمًا ما يفترِض السائل أن الإجابة ستكون بأن هناك لحظة اتخذ فيها ذلك الشخص قراره بكونه شاعرًا، وأنه حينما أخبر أهله بذلك صرخت أمه قائلة: “يا إلهي، ما الذي فعلناه لنستحق ذلك؟”، بينما ينزع أبوه حزامًا عن وسطه ويقوم بملاحقته في المنزل. غالبًا ما أخبر المحاور بوجهٍ بارد أني اخترت كتابة القصائد لكي أنال تلك الجائزة المعلن عنها في الأرجاء، بما أنه سيخيب نظرهم عندما لا أخبرهم بقصةٍ مشابهةٍ لما ذكرت؛ فهم يريدون شيئًا بطوليًا وحالمًا، وأنا أخبرهم بأني لست سوى مجرد طالب ثانوية آخر اختار كتابة القصائد ليبهر فتاة ما ولا شيء غير ذلك. لكوني غير أمريكي، فهم يسألوني وبنمطيةٍ أيضًا عن قصائدي التي كتبتها بالصربية، وعن تلك اللحظة التي اتخذت فيها قرارًا بترك لغتي الأم. وتبدو إجابتي صادمةً مرةً أخرى وأنا أخبرهم بأن على القصيدة أن تكون مفهومة لتصبح أداة إغواء، فلا توجد فتاة أمريكية ترغب بسماع قصيدة حب لها بالصربية بينما ترتشف مشروب الكولا.

ما يحيرني هو أني استمريت بكتابة القصائد لمدة طويلة بعد أن فرغت من حاجتي لها. كانت قصائدي الأولى سيئةً بشكل محرج، وما تلاها بعد ذلك لم تكن أفضل. عرفت في حياتي العديد من الشعراء الشباب الذين توقفوا عن الكتابة لاحقًا، حتى بعدما أخبرهم الناس أنهم عباقرة. لم يرتكب أحدهم هذا الخطأ معي، ومضيت بالكتابة. ندمت على إتلافي لقصائدي الأولى، لأني لم أعرف إلى الآن كيف تطورت. في ذلك الوقت، كنت أقرأ الروايات وليست لدي سوى معرفة ضئيلة بالشعر المعاصر والشعراء الحداثيين. لم أتعرض بشكل مباشر إلى الشعر إلا مرة واحدة، حينما كنت أدرس في باريس قبل انتقالي للولايات المتحدة. لم نتعرف إلى كلٍ من لامارتين وهوجو وبودلير ورامبو وفيرلاين فحسب، بل كنا نحفظ ونردد بعض قصائدهم ونلقيها أمام الصف. كان ذلك الأمر يعد كابوسًا بالنسبة إلي، بينما كان عبارةً عن متعةٍ مضمونةٍ بالنسبة لأقراني، الذين كانوا يسخرون مني بينما أخطئ في لفظ بعض أجمل سطور الشعر الفرنسي – لا زلت إلى اليوم لا أذكر شيئًا مما تعلمته هناك -. اليوم، أقر بأن حبي للشعر يأتي من تلك القراءات والأيام التي ألقيت فيها القصائد، والتي خلفت فيَّ أثرًا أكبر مما كنت أدركه حينما كنت شابًا.

هناك شيء آخر ساهم في استمراري بالكتابة، وهو حبي للعب الشطرنج. تعلمت اللعبة في بلغراد أثناء الحرب على يد أستاذ فلكٍ متقاعد. كنت وقتها في السادسة من العمر، واستطعت أن أهزم جميع من كان بعمري وأكبر منهم في حيِّنا. كانت أولى الليالي التي واجهت فيها الأرق تلك التي تعقب هزيمة ألحقها بي أحدهم، حيث كنت أعيد المباراة في ذهني. صنع مني الشطرنج شخصًا مهووسًا وعنيدًا. في ذلك الوقت، لم أستطع نسيان أي حركةٍ خاطئةٍ أو هزيمةٍ مذلة. عشقت المباريات التي لا يتبقى فيها من قطع المتبارزين إلا القليل، وتصبح أي حركة بعد ذلك مؤثّرة على النّتيجة النّهائية. حتّى اليوم، حينما أخوض مباريات الشّطرنج مع برنامج حاسوب (أسمّيه شخصيًا: الرب.)، والذي يهزمني في تسع مباريات من أصل عشرة، فإن هزائمي تثيرني أكثر من عدد المرات القليلة التي فزت فيها. دائمًا ما تذكرني قصائدي – والتي تتّصف بالقصر وتتطلب تعديلات لا تنتهي – بمباريات الشّطرنج، فهي تعتمد إما على صورة أو كلمة موضوعة بدقة، ويجب أن تكون نهايتها بمفاجأة وصرامة ضربة “كش ملك” أنيقة.

من السهل قول كل ذلك الآن. حينما كنت في الثامنة عشر من عمري، كانت لديّ أمور أخرى لأقلق بشأنها. انفصل والداي، وكنت بمفردي وقتها، أعمل في مكتبٍ بشيكاغو وأحضر محاضرات الجامعة ليلًا. لاحقًا، وفي عام 1958، حينما انتقلت إلى نيويورك، استمررت بالعيش على نفس النمط. كنت أكتب القصائد وأنشر القليل منها في المجلات الأدبية، ولكني لم أتوقع أن تمنحني الكثير. لم يتوقع أيٌّ ممّن صاحبتهم أو عملت معهم أني شاعر. كنت أرسم قليلًا في ذلك الوقت، وأجد الأمر أهون حينما أخبر أحدهم بذلك. كل ما أعرفه عن قصائدي هو أنها لم تكن بالجودة التي أردتها، وكنت أريد، من أجل أن أرتاح، أن أكتب شيئًا لا يحرجني أم أصدقائي المهتمين بالأدب. في نفس الوقت، انشغلت بأمور أهم، كالزواج، ودفع الإيجار، والتسكع في الحانات ونوادي الجاز، ودهن مصائد الفئران بزبدة الفول السوداني في شقتي التي تقع في الشارع الثالث عشر.

لماذا كتبت 1984؟ – جورج أورويل

بحسب مقال في صحيفة الغارديان، كتب أورويل روايته الأشهر بين عامي 1943 و 1944. تعددت تفسيرات الرواية بدءًا من العنوان وحتى مضمون العنوان واختيار الناشر، ونالت الرواية شهرة تستحقها على مستوى العالم. كشفت إحدى رسائله، والتي كُشفت العام الماضي في كتاب “أورويل: حياة في رسائل” عن تأمل لأوضاع العالم أسس للرواية لاحقًا، وذلك يظهر من بعض العبارات في الرسالة، والتي أُنهيت بنجمة لشعبيتها بالنسبة لمن قرأ الرواية، حيث وردت فيها.

قراءة ممتعة.

GeorgeOrwellWriting

إلى نويل ويلميت

18 مايو 1944

عزيزي السيد ويلميت،

أشكرك كثيرًا على رسالتك. كنت تسألني عما إذا كانت الشمولية وعبادة القائد تتصاعد في الآونة الأخيرة، خصوصًا في هذا البلد وفي الولايات المتحدة.

يجب أن أقول بأني أعتقد، بل أني أخشى أننا إذا وضعنا العالم في منظور واحد، فإن تلك الأمور آخذة بالإزدياد. سيختفي هتلر قريبًا بلا شك، ولكن ذلك سيكون لأجل ظهور واحد من هؤلاء: إما ستالين، أو أصحاب الملايين الأنجلو-أمريكان، أو أي طاغية تافه بحجم ديغول. يبدو أن كل الحركات القومية، بما فيها التي نشأت لمحاربة الاحتلال الألماني، تتخذ شكلًا غير ديمقراطي في منظومتها، ويتوحد أعضائها سويًا تحت لواء فوهرر خارق (هتلر، ستالين، سالازار، فرانكو، غاندي وديغول مجرد أمثلة متنوعة) بدعوى أن الغاية تبرر الوسيلة. كل حركات العالم تجنح الآن إلى إقامة تكتلات إقتصادية، تستطيع العمل ماليًا ولكنها لا تتمتع بتنظيم ديمقراطي، وتتجه إلى إقامة نظام صلب. وبذلك، سينشأ رعب العاطفة الوطنية، وسيجنح الناس إلى تكذيب الحقيقة الموضوعية، لأن على كل الحقائق وبدءًا من تلك اللحظة أن تطابق كلام طاغيةٍ معصومٍ وتنبؤاته. بدأ التاريخ سلفًا بالتلاشي، وذلك لأنه لم تعد هناك أي حقيقة تاريخية يتفق عليها العالم أجمع؛ وحتى العلوم الدقيقة أصبحت في خطر الفناء بقدر الوقت الذي يحتاجه جيشٌ ما ليبقي جنوده بحالةٍ جيدة. يستطيع هتلر أن يقول بأن اليهود من بدأ الحرب، وإذا ما نجا فسيصبح ذلك تاريخًا رسميًا يُعتَرف به. لن يستطيع مثلًا أن يقول مجموع اثنان واثنان يساوي خمسة، وذلك لأنه، بحكم تعداد القذائف، ستوجد أربعة في النهاية. ولكن، في عالمٍ أخشى تكوُّنه، حيث توجد دولتان أو ثلاث دول كبرى لا تستطيع إحداها احتلال الأخرى، فسيكون مجموع اثنان واثنان يساوي خمسة إذا أراد الطاغية ذلك*. في الواقع، هذا هو الإتجاه الذي نسير إليه جميعًا – حسب ما أرى – رغم أن المسار الذي ننحاه يُظهِر العكس تمامًا.

وفيما يتعلق بالحصانة النسبية التي تتمتع بها بريطانيا والولايات المتحدة، فمهما تكلم الباسيفيكيون وغيرهم، نحن لم نصل إلى مرحلة الشمولية بعد، وذلك مؤشر مطمئن وعارض جيد. أؤمن بعمق، كما ذكرت في كتابي “الأسد والحريش”، بالشعب الإنجليزي وقدرته على مركزة اقتصاده دون تدمير الحرية بفعل ذلك. ولكن يجب علينا أن نتذكر بأنهما لم يوضعا على المحك، فهما لم يُهزَما حتى الآن ولم يدخلا في معاناة ما، وهناك أعراض سيئة تعادل المؤشرات الجيدة. أولها هو اللامبالاة الكبيرة تجاه ضعف الديمقراطية الذي يحدث هذه الأيام. هل تدرك أنه لا يملك الآن أي شخص تحت السادسة والعشرين من عمره أي أحقية للتصويت في إنجلترا، وأننا نرى ذلك العدد الكبير من الناس الذين ينتمون لتلك الفئة لا يبالون بذلك؟ ثانيًا، هناك مثقفون كثر يعتبرون شموليين أكثر من عامة الشعب. عارض المثقفون الإنجليز بالعموم هتلر، ولكن كان ذلك بثمن أن يقبلوا بستالين. كلهم جاهزون لتقبل الطرق الدكتاتورية، والشرطة السرية، والتزييف المنهجي للتاريخ* طالما أن ذلك “في صالحهم”. في الواقع، فإن المقولة التي تؤكد بعدم وجود حركة فاشية في إنجلترا تعني أنه وفي نفس الوقت يوجد العديد من الشباب ممن يبحثون عن “فوهررهم” الخاص في مكانٍ آخر. لا يستطيع أحدنا أن يتأكد بأن ذلك لن يتغير، أو أن يفكر عامة الشعب بعد عشر سنوات كما يفكر مثقفوه الآن. آمل* بأن الشعب لن يتغير، وإذا تغير فسيكون ذلك على حساب معاناة كبرى. إذا أعلن أي شخص أن خير الجميع بيد أفضلهم، ولم يعتقد أحد ما بأن ذلك نذير شؤم، فإن ذلك الشخص قد ساعد على قرب الشمولية.

كنت تسألني أيضًا عن سبب دعمي للحرب إذا كان العالم يتجه نحو الفاشية. الحرب خيار الأشرار، وأعتقد بأن كل حرب هي كذلك. أعلم بأن الإمبريالية البريطانية لن يعجبها كلامي، ولكني سأدعمها ضد النازيين أو الإمبريالية اليابانية بوصفها أهون الشرين. وبنفس الدافع سأدعم الاتحاد السوفييتي ضد ألمانيا، لأني أعتقد بأن الروس لن يستطيعوا تجاهل ماضيهم وترك أفكار ثورتهم الأساسية ليكونوا شيئًا أهون من النازية. أعتقد، وكنت أظن ذلك منذ بدأت الحرب سنة 1936 أو ما حولها، بأن قضيتنا هي الأفضل، ولكن يجب علينا أن نعمل على تحسينها، مما يقتضي نقدًا مستمرًا.

المخلص،

جو. أورويل

حوار مع كون إيغلدن

المحاور: ماهو كتابك المفضل حينما كنت طفلًا؟

إيغلدن:  الحديقة السرية لفرانسيس هودجسون بورنيت. أردت في صغري أن تكون هناك قدرة خاصة تربطني بالحيوانات والنباتات، أن يكون هناك سحر في العالم، أو على الأقل فيَّ أنا. في الحديقة السرية، كانت شخصية “ديكون” تملك تلك الرابطة، وكنت أحسدها عليها. كنت أيضًا أعتقد أن ديكون يملك وجهًا غريبًا مثلي.

المحاور: هل كنت تملك كتبًا في منزلك في ذلك الوقت؟

إيغلدن:  نعم، كان المنزل مليئًا بالكتب. كنت آكل الإفطار بينما أحد كتب آدريان مول تحت صحن خبز التوست. قرأت في الحمام، على الأشجار، وبشكل متكرر فوق سطح المنزل. كان أخي ينام بشكل مباشر تحت مجموعة من الرفوف لدرجة أني خفت أن تقتله.

المحاور: هل كان هناك أحدٌ ما يشجعك على القراءة أو الكتابة؟

إيغلدن:  كانت أمي آيرلندية، وتخبرني منذ سن مبكرة باالعديد من القصص التاريخية العجائبية وعن الكثير من حوادث الإعدام المروعة، ولاتزال تقتبس العديد من القصائد وتحب الكلمات حتى هذا اليوم. أشك بإمكانيتي للكتابة لو لم تساعدني. ومع ذلك، أشك بمصدر إلهامي للكتابة، ربما تكون العزلة هي السبب.

المحاور: ما الذي ألهمك للكتابة حينما كنت في بداياتك؟

إيغلدن:  بدأت مع الروايات الفانتازية، وأحببت الرحلات التي يقوم بها خيالي الجامح. كانت أشبه باالمخدر، وكانت عالمًا أريد الإنضمام له. من الصعب شرح ذلك، ولكنه شعور رائع حينما تأتي الكلمات لذهنك.

المحاور: هل تجد الكتابة سهلة؟ هل تَسْهُل مع الوقت؟

إيغلدن:  في بعض الأحيان، نعم. هناك العديد من الفصول، بل العديد من الكتب التي أتت بسهولة، وبعضها كان بصعوبة ارتكاب جريمة قتل. بصدق، الأمر يعتمد على ماإذا كنت أدخن أم لا. إذا كنت أدخن، فأنا أستطيع كتابة العواصف حتى. أما إذا لم أفعل، فإني مقيد إلى الأرض. مجرد كادح بائس يتمتع بالصحة.

المحاور: ما الذي يجعلك تكتب هذه الأيام؟

إيغلدن:  تلك الأجزاء التي تجعل أصابعي ترتجف، وقلبي ينبض بتسارع، والتي أقرأها بصوتٍ عال وأعلم أنها كتبت بطريقة جيدة. هي ليست أفضل من ممارسة الجنس ( حمدًا للرب )، ولكنها يمكن أن تكون أفضل من تلك السيجارة الأولى الموقظة في الصباح، ربما.

المحاور: كيف تكتب؟ هل تتبع برنامجًا يوميًا؟

إيغلدن:  أكتب ألف كلمة يوميًا، وفي اليوم التالي أعيد قراءتها وأنقحها. كلما كبر الكتاب أعدت قراءة أجزائه حوالي ألف مرة.

المحاور: كيف تنجو من كونك وحيدًا في عملك طوال كل هذا الوقت؟

إيغلدن:  بملء الساعات الباقية باالحياة والعائلة والأصدقاء، وكلب أيضًا. هناك أوقات أحتاج فيها للعزلة لكي أحافظ على عقلي، وهناك أوقات أخرى أحتاج فيها لأن أكون بأقرب حانة.

المحاور: هل تذكر أي نصيحة جيدة أُسديت لك حينما كنت في بداياتك؟

إيغلدن:  “جهز الشخصيات أولًا، وستأتي الحبكة لاحقًا.”. أحب أيضًا نصيحة روبرت هينيك القديمة، والتي أسداها لمؤلفين في بداية مشوارهم: إقرأوا كثيرًا، أكتبوا كثيرًا، وارموا ماتكتبونه بعيدًا.

المحاور: ماهي نصيحتك للكتَّاب الجدد؟

إيغلدن:  توقفوا عن مراسلتي، أنا أحذركم.

المحاور: هل يوجد سر للكتابة؟

إيغلدن:  من أعمق نقطة كثيفة في الكتابة، إلى ذلك النص الذي يجعل قلبك ينبض بسرعة، هناك سر واحد: يهتم الناس بأمر بعضهم. الأبقار لا تفعل ذلك، ولا الذئاب أيضًا. نحن من يفعل ذلك. افهم هذا السر وستقدر على كتابة أي شيء.

من المحتمل أن يسهل الأمر عليك إن كنت تميل للعزلة قليلًا، لكي تستطيع الكتابة عن الناس كمراقب.

ريتشارد فاينمان: أحب زوجتي، وزوجتي الآن ميتة.

تقديم

ريتشارد فاينمان (1918 – 1988) هو أحد علماء الفيزياء النظرية في الولايات المتحدة، له آثاره الشهيرة حول ميكانيكا الكم، الموائع، وفيزياء الجزيئات. نال فاينمان جائزة نوبل في الفيزياء سنة 1965، وحائز في استفساء خاص بالفيزيائيين أجري في المملكة المتحدة سنة 1991 على مقعد بين أهم عشرة فيزيائيين منذ فجر التاريخ. امتازت كتبه بشعبية عالية لدى القراء في الولايات المتحدة وذلك لمحتواها الثري ولغتها البسيطة، سواء في الكتب الثلاثة لمحاضراته حول الفيزياء، أو في سيره الممتعة “من المؤكد أنك تمزح يا سيد فاينمان” أو “متعة اكتشاف الأشياء”. في عام 1941، تعرف على آرلين غرينباوم وتزوجها، ومنها عاشا أحد أجمل قصص الحب حتى ماتت سنة 1945 بسبب مرض السل. مُثلت قصة حبهما في فيلم بعنوان “لا نهاية” سنة 1996. كتب فاينمان رسالة لها بعد وفاتها، وتعتبر من أعذب رسائل الحب التي قرأتها شخصيًا. لم تُكشف هذه الرسالة حتى تُوفي لاحقًا.

رسالة ريتشارد فاينمان إلى زوجته بعد وفاتها

ترجمة: راضي النماصي

17 أكتوبر 1946

عزيزتي آرلين،*

أعشقكِ ياغاليتي.

أعلم قدر سعادتكِ حين تسمعين مثل هذه العبارة، لكني لا أكتبها فقط لأنكِ تحبينها. أكتبها لأنها تغمرني بالدفء في داخلي كي أكتبها لك. مضى وقت فظيع وطويل منذ آخر مرة أرسلت لك. حوالي عامين تقريبًا، لكني أعلم بأنكِ ستعذريني لأنكِ تفهمين من أنا، فأنا عنيد وواقعي، وكنت أعتقد بأن لا منطق من الكتابة إليك. ولكني الآن، أعلم بأنه من الصواب أن أفعل ماأجَّلْت فعله، والذي كنت أفعله كثيرًا في الماضي. أريد أن أقول بأني أحبك، وأني أريد أن أحبك، وبأني سأبقى دائمًا محبًا لك.

أجد من الصعب أن أفهم الآن حبي لكِ بعد وفاتك، لكني أريد أن أسعدكِ وأعتني بك، وأريدكِ أن تحبيني وأن تهتمي بي. أريد أن أحظى بمشاكل لكي أناقشها معك، أريد القيام ببعض المشاريع الصغيرة سويًا. لم أعتقد حتى الآن بأنه يمكننا القيام بذلك. ماالذي يمكن أن نفعله. بدأنا بتعلم الخياطة سويًا، أو تعلم الصينية، أو إحضار عارض أفلام. هل أستطيع فعل أي شيء الآن؟ كلا، فأنا وحيد، وأنت من كان يملكِ الأفكار، والمرشد لكل مغامراتنا الجامحة.

حينما كنت مريضة قلقت لأنكِ لم تقدري على منحي شيئًا كنت تريدين إعطائي إياه، واعتقدتي بأني كنت أحتاجه. لم يكن الأمر بداعٍ للقلق. كما أخبرتكِ حينها فلم تكن هناكِ حاجة حقيقية، لأني أحببتكِ بطرق شتى وكثيرة. وهذه الحقيقة تتضح أمامي أكثر الآن؛ فأنت لاتستطيعين منحي شيئًا، ومع هذا أحبكِ لدرجة تغنيني عن حب أي أحد. لكني أريدكِ أن تبقي، فأنتِ وبموتكِ تغنيني عن أي حيٍّ آخر في هذا العالم.

أعلم بأنكِ ستعدينني أحمق، وأنكِ تريدين لي السعادة الكاملة دون أن تقفي في طريقي. أراهن بأنكِ ستتفاجئين حين تعلمين أني لاأحظى بعشيقة في هذه الأيام بعدما مر العامان (ماعداك). لكنكِ لاتستطيعين فعل شيءٍ حيال ذلكِ ياعزيزتي، ولا أنا. لا أفهم ماالذي يحدث لي، قابلت العديد من النساء، ومنهن كثيرات في غاية اللطف، وأنا لاأرغب في البقاء وحيدًا، لكنهن يتحولن جميعًا إلى رماد بعد لقاءين أو ثلاثة. أما أنتِ، من بقي لي، فما زلت في ناظري حقيقية وباقية.

زوجتي العزيزة، كم أعشقك.

أحب زوجتي، وزوجتي الآن ميتة.

ريتش.

ملاحظة: أرجوكِ أعذريني لأني لم أستطع إرسال هذه الرسالة لك، فأنا الآن لاأعرف عنوانكِ الجديد.

لم يعد ممكنًا – الحلقة الثالثة والأخيرة

لم يكن اختيار المرشح الأول للمنحة صعبًا بالنسبة إلى اتحاد أبناء أوموفيا، فأوبي كان خيارًا واضحًا. عندما كان في الثانية عشر أو الثالثة عشر من عمره، فاقت نتائجه في الصف السادس جميع الطلاب على مستوى المحافظة. بعد ذلك، نال منحة للدراسة في واحدة من أرقى المدارس الثانوية في شرق نيجيريا. في نهاية سنواته الجامعية الخمس، تخرج أوبي من جامعة كامبريدج بامتياز في جميع المواد الثمانية. كان أوبي مشهورًا في قريته، وتردد صدى اسمه في المدرسة الإبتدائية التي درس فيها حينما كان طالبًا. ( لاأحد يتحدث الآن حول فعلة أوبي المشينة، والتي جلبت العار للمدرسة، بأنه أرسل رسالة لأدولف هتلر أثناء الحرب. أشار المدير إليه، وهو يكاد يبكي، بأنه عار على الإمبراطورية البريطانية. وقال بأنه لو كان رجلًا كبيرًا، لقضى بقية حياته البائسة في السجن. ولكن، بما أنه كان في الحادية عشر من عمره وقتها، فقد تلقى ست ضربات بالعصا على ردفيه كعقوبة.).

سبَّبَ ذهاب أوبي إلى إنجلترا ضجة كبيرة في أوموفيا. وقبل أيام من مغادرته إلى لاغوس، طلب والداه إقامة صلاة جماعية لأجله في البيت. ورأس ذلك الاجتماع رئيس كنيسة سانت مارتن الأنجيليكانية في أوموفيا، القس صاموئيل إيكيدي. قال القس بأن هذه المناسبة تحقيق لنبوءة واردة:

“الناس الجالسون في الظلام

رأوا نورًا عظيمًا

ومن ذهب إلى تلك المنطقة مواجهًا ظل الموت

أتى لهم بضوء الربيع”

تحدث القس لنصف ساعة، وبعدها طلب من أحد الجالسين أن يقودهم في الصلاة. قامت ماري قبل الجميع منتهزة تلك الفرصة، قبل أن يرمشوا بأعينهم حتى. كانت ماري من أكثر المسيحيين المخلصين في أوموفيا، وهي صديقة عزيزة لأم أوبي، حنة أوكونكو. على الرغم من سكنها بعيدًا عن الكنيسة – حوالي ثلاثة أميال أو أكثر – إلا أنها لم تفوت صلاة الصباح المبكرة، والتي عقدها القس في كوكراو. سواء في قلب موسم الرطوبة، أو في أيام رياح الهارماتان الباردة، ستجد ماري هناك ضمن أوائل من حضروا. كانت تأتي في بعض المرات قبل ساعة من موعد الصلاة؛ تطفئ شمعة الكيروسين لأجل التوفير، وتنام على أحد المقاعد الطينية الطويلة إلى أن يوقظها أحد ما.

“أوه، ياإله إبراهيم، وإله إسحاق، وإله يعقوب.”، كما بدأت، “أيها المبتدأ والمنتهى، بدونك لانستطيع عمل شيء. لايكفي حجم النهر لتغسل يديك فيه. أنت تملك اليام والسكين؛ لانستطيع الأكل دون أن تهبنا قطعتنا. نحن كالنمل في مرآك. نحن كالأطفال الذين يغسلون صدورهم أثناء الاستحمام وينسون ظهورهم جافة…”، أكملت ماري الدعاء وهي تستحضر التشبيه تلو التشبيه، والصورة تلو الصورة. ختامًا، أشارت إلى مايجتمعون من أجله، وطلبت العون من أجل أن تتم رحلة أوبي كما تستحق، متبعة ذلك بذكر تاريخ ابن صديقتها، الذي سيذهب إلى مكان يحوي نهاية العلم. حينما انتهت من الصلاة، تراجع الناس وبدأوا بفرك أعينهم لكي يعتادوا على ضوء المساء مرة أخرى.

جلس الحضور على مقاعد خشبية طويلة استعاروها من المدرسة. كانت طاولة صغيرة تقبع أمام الرئيس، وكان أوبي يجلس بجانبه، مرتديًا سترة المدرسة وقميصًا أبيض.

ظهر رجلان ضخمان من ناحية المطبخ، وهما يحملان قدرًا كبيرًا من الأرز، مما اضطرهما لثني ظهريهما. تبعهما قدر آخر. بعد ذلك، جلبت شابتان معهما وعاءًا يغلي من الحساء الساخن بداخله. بعدها، جُلبت العديد من براميل نبيذ النخل، وعدة أطباق وملاعق وسكاكين ادخرتها الكنيسة، لأجل أعضائها في الأحداث التي تصادفهم كالزواج، والمواليد، والعزاء، ومناسبات أخرى مثلها.

ألقى السيد إسحاق أوكونكو خطابًا قصيرًا بعنوان “هذا الكولا الصغير” قبل ضيوفه، مما كان لائقًا بحسب عادات أوموفيا. كان معلمًا للكاثوليكية في ذلك المجتمع لمدة تزيد عن خمس وعشرين سنة، وتقاعد بمرتب قدره خمس وعشرون جنيها في العام. كان أول من بنى بيتًا من الصفيح في أوموفيا. لم يكن من المتوقع أن يعد وليمة، فضلًا عن أن تكون بهذا الحجم. لم يتوقع أحد وليمة بهذا الحجم حتى من أوكونكو الجد نفسه، والذي اشتهر بكرمه الذي يغطي النظر. حينما احتجت زوجته ضد ماتعتبره تبذيرًا، رد عليها بأنه “يجب على من يعيش على ضفاف النيجر أن لايغسل يديه بالبصاق”، وكانت هذه مقولة مفضلة لأبيه. كان من الغريب أن أوكونكو يرفض كل مايتعلق بأبيه إلا تلك المقولة. ربما نسي منذ وقتٍ طويل أن أباه يقول تلك الجملة غالبًا.

في نهاية الوليمة، أدلى القس بخطاب طويل آخر. شكر القس أوكونكو على هذه الوليمة التي جمعت من الناس أكثر مما جمعت حفلات زواج في الآونة الأخيرة.

قدم السيد إيكيدي إلى أوموفيا من البلدة، وتحدث إلى الجمع حول عزوف الناس عن حضور حفلات الزواج منذ اختراع الشيء المسمى ببطاقات الدعوة. شك العديد ممن سمعه حول صحة مايقول، وأكدوا بأن الشخص منهم لايحضر إلا أعطي شخص منهم تلك الأوراق التي تحوي ذلك الاختصار “ر. ح. ك. ج.” – رز وحساء كثير جدًا – والذي دائمًا مايكون مبالغة لاأكثر.

بعد ذلك، التفت القس إلى الشاب الجالس عن يمينه. “فيما مضى،” كان يتوجه بالحديث إليه. “كانت تطلب أوموفيا من أمثالك أن تحارب لأجلها، وتأتي برؤوس أعدائها. ولكن، كانت تلك أيامًا مظلمة، أتتنا عن طريق دم خروف الرب. اليوم، نحن نرسلك لطلب العلم. تذكر بأن بداية الحكمة مخافة الرب. لقد سمعت بشباب من قرى أخرى، ذهبوا إلى بلد الرجل الأبيض. وبدلًا من أن ينتبهوا لدراستهم، تبعوا تلك اللحوم الجميلة. بعضهم – وياللفظاعة – تزوج امرأة بيضاء.”. بدأ الجمهور بالتجهم واستهجان ذلك الفعل الشنيع الذي سمعوا به. “من يفعل ذلك فهو خسارة على شعبه، كالمطر حينما يضيع في الغابة. وددت لو تتزوج قبل أن تغادر، لكن الوقت لم يعد يكفي. على أية حال، أعلم بأنه لاخوف عليك. نحن نرسلك لكي تتعلم الكتب، وبإمكان المتعة أن تنتظر. لاتتسرع لأجل المتعة مثل ذلك الظبي الصغير الذي رقص أعرجًا قبل موعد الرقصة الرئيسية.”.

شكر القس أوكونكو مرة أخرى، والحضور لتلبيتهم الدعوة. “لو لم تجيبوا دعوته، لكان أخونا مثل ذلك الملك في الكتاب المقدس، الذي دعى الناس لأجل حفل زفافه.” – إنجيل متى 22.

بعدما أنهى القس خطبته، قامت ماري بأداء أغنية تعلمتها مع نساء أخريات في اجتماعات صلاة أخرى.

” لاتدعني خلف يسوع، وانتظرني

حينما أذهب إلى المزرعة

لاتدعني خلف يسوع، وانتظرني

حينما أذهب إلى السوق

لاتدعني خلف يسوع، وانتظرني

حينما آكل طعامي

لاتدعني خلف يسوع، وانتظرني

حينما أستحم

لاتدعني خلف يسوع، وانتظرني

حينما يذهب إلى بلد الرجل الأبيض

لاتدعه خلف يسوع، وانتظره “

أنهى الحضور الاجتماع بأداء أغنية “مجدوا الرب، مَن تتدفق النعم مِن لدنه.”، وبعد ذلك قاموا بتوديع أوبي، وهم يسدونه العديد من النصائح التي قيلت له مسبقًا. حينما كان يصافحون أوبي، كانوا يودعون مبالغ صغيرة من المال كهدايا في كفه، لأجل أن يشتري قلم رصاص، أو دفتر تمارين، أو خبزًا لأجل الرحلة، شلن من هنا وبنس من هناك. – كانت تلك الشلنات والبنسات تعد هدايا كبيرة في عرف القرية، وذلك لندرة المال في ذلك الوقت. حيث كان الرجال والنساء وقتها يخرجون من سنة لأخرى لانتزاع لقمة العيش الشحيحة من تربة عقيمة ومستنفذة.

لم يعد ممكنًا – الحلقة الثانية

عقد مجلس تقدم أوموفيا اجتماعًا طارئًا في أحد أحياء لاغوس الرئيسية. أوموفيا هي قرية تقع في شرق نيجيريا وتتبع قبيلة الإيبو، وهي موطن أوبي أوكونكو. هي ليست بتلك القرية الكبيرة، ولكن سكانها يسمونها مدينة. هم فخورون بماضيهم حينما كانوا يمثلون رعبًا لمن يجاورهم، قبل أن يأتي الرجل الأبيض ويساوي بالجميع الأرض. خلع اليوموفيون (يسمون أنفسهم بذلك) ممن غادروا القرية بحثًا عن وظائف في مدن نيجيريا الكبرى على أنفسهم لقب غرباء، وهم يعودون إلى أوموفيا كل سنتين أو نحو ذلك لكي يمضون إجازاتهم. عندما يستطيعون توفير مبلغٍ معينٍ من المال فإنهم يسألون أقاربهم في المنزل لكي يبحثوا لهم عن زوجة ما، أو لكي يبنوا بيتًا من الصفيح في قريتهم. أينما كانوا في نيجيريا، سيؤسسون فرعًا محليًا لمجلس تقدم أوموفيا.

كان المجلس قد عقد عدة اجتماعات في الأسابيع الماضية بخصوص قضية أوبي أوكونكو. في الاجتماع الأول، أعرب عدد من الناس عن استغرابهم من اهتمام النادي وتسخير طاقاته من أجل ابن ضال أظهر عدم احترامه لهم منذ فترة وجيزة.

“دفعنا مايقارب ثمانمائة جنيه إسترليني لكي ندربه في إنجلترا”. قال واحد منهم. “لكن بدلًا من أن يكون ممتنًا لذلك، فهو يحط من قدرنا من أجل فتاة رخيصة، وها نحن اليوم نجتمع من أجل أن نجد مالًا له. ماالذي يفعله براتبه الكبير؟ رأيي الشخصي هو أننا فعلنا الكثير من أجله.”

لم تؤخذ وجهة النظر هذه بجدية، رغم أنها لاقت قبولًا مضمرًا. لأنه، وكما أوضح رئيس المجلس، حينما يقع أخٌ لنا في ورطة، فعلينا أن ننقذه لا أن نلومه؛ وأن الألم الذي يتسبب به لنا، فهو لن يضر مهما بلغ. وعليه، فيجب على المجلس أن يدفع مايلزم من المال لكي يغطي أتعاب المحامي.

لكن القضية قد انتهت صباح اليوم بالخسارة، ولذلك عُقد هذا الاجتماع الطارئ. وصل العديد من الأشخاص إلى منزل الرئيس في شارع مالوني، وكانوا يتحدثون بحماس عن الحكم.

“علمت بأنها قضية خاسرة.”، قال ذلك الرجل الذي تكلم في أول اجتماع. “نحن نهدر مالنا هباءًا. ماالذي سيقوله الناس عنا؟ هم الذين يقاتلون مقابل لاشيء، إلا إهانتهم برغم رؤوسهم في التراب والسخام”.

لكنه لم يحز أي أتباعٍ في صفه. كان رجال أوموفيا جاهزين ليقاتلوا حتى آخر رمق. لم يكن لديهم شكوك بخصوص أوبي. هو لم يكن سوى شاب أحمق ومعتد بنفسه، ولكن هذا ليس وقت الخوض في ذلك. يجب أن نطارد الثعلب أولًا ونخرجه بعيدًا، ثم نستطيع بعد ذلك أن نحذر الدجاجة من التوغل داخل الغابة.

حينما يأتي وقت الخطر، يستطيع أحدهم أن يثق برجال أوموفيا أن يتنبهوا بالقدر المطلوب، أو بشكل أقل أو أعلى. قال الرئيس بأنه من المخزي لرجل بمثل تلك الرتبة العالية أن يذهب إلى السجن من أجل عشرين جنيهًا فقط. كرر ذلك المبلغ، وفي كل مرة يقوله كان يبصق حنقًا. “أنا ضد أن يحصد الشخص مالم يزرعه. ولكن لدينا مثلًا يقول: إن كنت تريد أن تأكل علجومًا، فابحث عن علجوم سمين وشهي.”

“لايعدو الأمر أن يكون نقص خبرة.”ـ قال رجل آخر. “كان يجب ألا يأخذ المال بنفسه، مايفعله الآخرون هو أن يعهدوا بالمبلغ إلى صبي المكتب الخاص بهم. حاول أوبي أن يفعل مايفعله الجميع، دون أن يعلم كيف يتم ذلك.”، ثم قال ذلك الرجل مثلًا حول فأر منزل ذهب للسباحة مع صديقه السحلية، ومات من البرد.. وذلك بسبب أن جلد السحلية أبقاه جافًا، بينما بقي الفأر رطبًا بفعل فروه.

في لحظةٍ ما، نظر الرئيس عمدًا إلى جيبه، وأعلن بداية الجلسة. وقف الجميع وتلا كل واحدٍ منهم صلاة قصيرة. قدَّم الرئيس بعدها ثلاث جوزات كولا للاجتماع. قام أكبر الحضور سنًا بكسر الجوزة الأولى، وهو يتلو صلاة أثناء ذلك. “من يجلب جوز الكولا فهو يجلب الحياة.”، قال العجوز. “نحن لانهدف إلى إيذاء أحد، ولكننا سنكسر عنق أي شخص يحاول أذيتنا.”. رددت الجماعة من بعده كلمة (آمين). “نحن غرباء في هذه الأرض. إذا أتى الخير لها فليأت لنا نصيبٌ منه.”، آمين. “وإن أتى شر لها فليذهب لأصحاب هذه الأرض، الذين يعرفون كيف يرضون الآلهة.”، آمين. “لدى العديد من القرى المجاورة أربعة أو خمسة أو عشرة من أبنائها يعملون في مباني البريد الأوروبية في هذه المدينة، وليس لأوموفيا سوى ابن واحد يعمل هناك. يقول أعداؤنا الآن بأن واحدًا هو كثير منا لكي يعمل هناك. لكن أسلافنا لن يوافقوا على مثل هذا الكلام.”، آمين. “فثمرة النخيل الوحيدة لاتضيع في النار.”، آمين.

ينطبق مثل هذا الوصف على أوبي أوكونكو، فهو بالفعل “ثمرة نخيل وحيدة”. اسمه الكامل هو أوبياجولو، والذي يعني “العقل يرتاح عند النهاية”. بالطبع، فإن العقل المعني هنا هو الأب، والذي أنجبت زوجته أربع بناتٍ قبل أوبي، كان قلقًا قبل إنجابه أوبي. كونه تحول مسيحيًا – في الواقع، هو كاثوليكي – فذلك يمنعه من الزواج بامرأة أخرى. في ذلك الحين، لم يكن الأب من الرجال الذين تظهر علائم الحزن على محياهم. بشكل أدق، فهو لن يسمح لأي وثني أن تساوره الشكوك حول حزنه من هذا الموضوع. سمى ابنته الرابعة، نوانيدينما، ويعني اسمها بأن “البنت أيضًا مخلوق جيد”، ولكن لم يحمل صوته أي نبرة اقتناع.

لم يفكر العجوز، الذي كسر جوز الكولا وسمى أوبي بـ”ثمرة النخيل الوحيدة”، بعائلة أوبي حينما قال كل ذلك الكلام. كان يفكر بقرية أوموفيا القديمة والمتهالكة بفعل الحروب. منذ ستة أو سبعة سنوات، قرر أبناء القرية ممن يسكنون خارجها جمع بعض المال، وذلك لأجل إرسال أذكى وألمع أبناءهم للدراسة في إنجلترا. إنهم يلومون أنفسهم الآن على ذلك القرار بلا رحمة. كانت منحة الدراسة الأولى من نصيب أوبي أوكونكو قبل خمس سنوات، منذ ذلك الحين إلى يومنا هذا. وعلى الرغم من تسميتهم لها بالمنحة، إلا أن على الطالب أن يعيد كافة التكاليف لاحقًا. كلفت دراسة أوبي في ذلك الوقت ثمانمائة جنيه إسترليني، على أن يتم سدادها خلال أربع سنوات من عودته. أرادوا منه أن يدرس الحقوق، لكي يقوم بالمرافعة عنهم في قضاياهم المستقبلية ضد قرى أخرى، ولكنه قرر دراسة اللغة الإنكليزية بدلًا عن ذلك حينما وصل إلى إنكلترا. قراره لم يكن جديدًا، فهو أراد ذلك منذ زمن. غضب الإتحاد ولكن قرروا تركه ليكمل دراسته. فعلى الرغم من أنه لن يكون محاميًا، إلا أنه سيحصل على معاملة الأوربيين في الخدمة المدنية.

لم يعد ممكنًا – الحلقة الأولى

تقديم

تشينوا أتشيبي.. صاحب الحكاية الأخرى!

يُعد تشينوا أتشيبي (1930-2013) أهم روائي أفريقي في القرن العشرين برائعته التي أصدرها قبل نصف قرن “الأشياء تتداعى”. مالا يعرفه الكثير من الناس هو أن تلك الرواية العظيمة هي جزء من ثلاثية تدعى “الثلاثية الأفريقية”، والجزءان الآخران هما “لم يعد ممكنًا” و”سهم الرب”. حسب الأخ/ أحمد زين من جريدة الحياة اللندنية، فقد تم إصدار الجزء الثاني لهذه الثلاثية منذ فترة طويلة تحت عنوان “مابعد الراحة”، ضمن سلسلة “من ذاكرة الشعوب” الصادرة عن مؤسسة الأبحاث العربية ببيروت.

تعرض هذه الرواية التحديات التي واجهت جيل مابعد الاستعمار في نيجيريا، ويلقي فيها تشينوا أسئلته ورؤاه حول الحرية، الجريمة، الكرامة، والحب عبر سرد متقن وحكاية مميزة. يسعدني أن أقدم للقارئ العربي ترجمة مقطع من هذه الرواية الجميلة على شكل حلقات. قراءة ممتعة!

لم يعد ممكنًا – تشينوا أتشيبي

ترجمة: راضي النماصي

الحلقة الأولى

        ظل أوبي أوكونكو يشجع نفسه لمدة ثلاثة أو أربعة أسابيع من أجل هذه اللحظة. وعندما دخل قفص الاتهام في ذلك الصباح ظن أنه على استعداد تام. ارتدى قميصًا شاطئيًا وبدا هادئًا وغير مبال. ماحدث بعد ذلك من إجراءات كان كفيلًا بأن يُظهر على وجهه أمارات اهتمام قليلة، باستثناء لحظة وحيدة في بداية المحاكمة حينما دخل أحد المحامين في شجارٍ مع القاضي.

“تبدأ هذه المحاكمة في التاسعة تمامًا، لماذا تأخرت؟”

كان من المعروف بأن أي نظرة من معالي السيد ويليام غالاواي، قاضي محكمة لاغوس العليا والجنوب الكاميروني، كفيلة بزرع الرعب إلى حد الجمود في وجه من ينظر إليه، كما لو كان حشرة يحنطها صائدها بالفورمالين.

أخفض القاضي رأسه ككبشٍ غاضب، وحدج المحامي عبر عدستي نظارته المذهبة.

“أعتذر ياسيادة القاضي.” تلعثم المحامي.  “تعطلت سيارتي في الطريق.”

استمر القاضي بالنظر إليه مدة طويلة، ثم فاجأه بالقول:

“حسنا ياسيد أدايمي، قبلت اعتذارك. لكن عليك أن تعلم بأني سئمت من أعذارك المعتادة حول مشاكل النقل.”

كان هناك من يضحك بصوت مكتوم في طرف القاعة. اكتفى أوكونكو بابتسامة ضعيفة ورمادية، ومن ثم فقد اهتمامه.

امتلأت قاعة المحكمة بالناس عن آخرها، وتساوى عدد الواقفين مع أعداد الجالسين. كانت القضية محط اهتمام لاغوس لأسابيع عديدة، وفي آخر يوم من هذه القضية، كان الكل يحاول أن يعتذر من عمله فقط لكي يحضر هذه المحاكمة ويستمع للحكم النهائي. دفع بعض موظفي القطاع الخاص مايوازي بكثرته عشر شلنغات وستة بنسات للأطباء، فقط لكي يحرروا أعذارًا مرضية لهذا اليوم.

لم يُظهر برود أوبي أي علامة نقصان، بل أخذ بالتزايد حتى حينما بدأ القاضي مراسم المحاكمة. كان ماحركه وأزال بروده بشكل مفاجئ هو عندما قال القاضي: “لاأستطيع فهم كيف يمكن لرجلٍ بمثل تعليمك ونبوغك أن يفعل ذلك”. طفرت عينا أوبي بدموع غادرة. أخرج منديلًا أبيض ومسح تلك الدموع من على وجهه كما لو كان يمسح عرقًا. حاول أن يغالب تلك الدموع ويبتسم بحيث تكون ابتسامته منطقية. كل ذلك الكلام حول التعليم والآمال والخيانة لم يكن متوقعًا. تدرب على هذا الموقف بالذات مئة مرة حتى تآلف معه كصديق.

في الواقع، عندما بدأت المحاكمة الأولى منذ بضعة أسابيع، تحدث السيد غرين – رئيسه، والذي استدعاه الإدعاء العام كشاهد – حول شاب واعد آخر، ولم ينبس أوبي بحركة. لحسن الحظ، فقد أمه مؤخرًا، وخرجت كلارا من حياته. صنعت هاتين الحادثتين المتقاربتين من أوبي رجلًا مختلفًا وأعدمت ماتبقى من إحساسه، مما جعله قادرًا على مواجهة كلمات مثل “الآمال” و”التعليم” بكل برود. ولكن، في تلك اللحظة المختلفة، خانته تلك الدموع الغدارة.

***

استمر السيد غرين بلعب التنس منذ الخامسة مساءًا، وكان هذا الأمر غريبًا عليه. كان من المعتاد أن يأخذ العمل أكثر وقته بحيث لايدع مجالًا له للعب. تعود أن يمشي في المساء كتمرين أساسي. لكنه اليوم لعب مع شخص كان يعمل في المجلس البريطاني الثقافي. ذهبوا بعد المباراة إلى مشرب النادي. كان السيد غرين يرتدي كنزة صفراء فاتحة فوق قميصه الأبيض، وتتدلى منشفة بيضاء حول عنقه. تواجد العديد من الأوروبيين الآخرين في المشرب. بعضهم نصف جالس على الطاولات المرتفعة، وبعضهم يقف في مجموعات مابين اثنين وثلاثة، يشربون البيرة الباردة، عصير البرتقال، أو خمرة الجين والتونيك.

“لاأستطيع أن أفهم لماذا فعل ذلك” قال موظف المجلس الثقافي البريطاني وهو يكفر. كان يرسم خطوطًا من ندى الماء المتكثف على زجاج كأس البيرة المثلجة الخاص به.

“أما أنا، فأستطيع.” رد السيد غرين بكل بساطة. “مالاأستطيع أن أفهمه هو عدم قدرتك على مواجهة الحقائق”. اشتهر السيد غرين بقدرته على قول مايجول في باله. مسح وجهه بالمنشفة البيضاء على عنقه. “الأفريقي فاسد من الداخل، كلما سبرت غوره”. أشاح موظف المجلس عنه، بدافع غريزي أكثر من كونه مفتعلًا. على الرغم من أن النادي كان مفتوحًا للأفارقة تقنيًا، فإن قليلًا منهم كانوا يرتادونه. في ذلك اليوم لم يتواجد منهم أحد، ماعدا الندلاء بالطبع، والذي يخدمون بشكل خفي. من الممكن أن تدخل، وتشرب، توقع شيكًا، تتحدث مع أصدقائك، وتغادر مرة أخرى دون أن تلاحظ وجود أولئك الندلاء في زيهم الأبيض. إذا حدث كل شيء كما ينبغي فلن تستطيع ملاحظتهم.

“كلهم فاسدون.” كرر السيد غرين. “أنا أدعو للمساواة وكل مايتعلق بها. على سبيل المثال، أنا أكره أن أعيش في بلدٍ كجنوب أفريقيا. لكن المساواة لن تغير الحقائق.”

“أية حقائق؟” سأل موظف المجلس، والذي قدم للبلاد حديثًا. اتسمت تلك المحادثة بالهدوء، وعلى الرغم من ذلك، فقد كان العديد من الأشخاص يستمعون إلى السيد غرين، دون أن يُظهروا ذلك.

” تلك الحقيقة التي تبين أنه لقرون لاتُحصى، كان الأفريقي ضحية أسوأ مناخٍ على هذه الأرض، وضحية لكل مرضٍ عصي على الخيال. بالتأكيد لم يكن خطأه، لكنه قد استنزف عقليًا وجسديًا. جلبنا له التعليم الغربي، ولكن بماذا أفاده؟ إنه… ” قاطع حديثه وصول صديق آخر.

“مرحبًا بيتر، مرحبًا بيل.”

“مرحبًا.”

“مرحبًا.”

“هل لي أن أنضم إليكم؟”

“بالطبع.”

“بكل سرور. ماذا تشرب؟ بيرة؟ حسنًا. أيها النادل. إجلب بيرة لهذا السيد.”

“أي نوعٍ ياسيدي؟”

“هينيكين.”

“حسنًا سيدي.”

“كنا نتكلم عن ذلك الشاب الذي تلقى رشوة.”

“أوه، نعم.”

إلى أين تضمحل الأفكار الجيدة؟ – عبدالرحمن سفر

مقدمة

هناك العديد من الظواهر السلوكية التي تمسنا كأفراد وتعطل حياتنا بشكل يومي، ولطالما تعاطينا معها بحلولٍ عامة وكلام إنشائي دون تحديد لمصدر المشكلة ومنح حل مباشر لها، بينما قد يكون الحل بدمج نظرنا للمشكلة من عدة زوايا وعلوم، وعدم الاكتفاء بزاوية واحدة. المقال القادم يوضح بالتفسير مشكلة يعاني منها الكثير – ومنهم أنا – تتعلق بالعملية الإبداعية خصوصًا والحياة بشكل عام، ولم يوجد لها تفسير محدد وواضح حتى لحظة ظهور هذا المقال.

عبدالرحمن سفر

عبدالرحمن سفر هو مدون سعودي ناشئ من المدينة المنورة، ومن سكّان المنطقة الشرقية. مهتم بترجمة السلوك البشري عن طريق العلوم الإنسانية: علم النفس، علم الاجتماع وعلم الاقتصاد السلوكي. يفضل طريقة السرد الحديث، حيث يبحث عن أصول المشكلة، وليس شكلها الظاهر.

المذهل في عبدالرحمن هو قدرته على الإلمام باالظاهرة من عدة جوانب بحيث ينظر لها بشكلٍ “تكاملي”، ولايقدم أطروحاته دون الاستناد لأرقام وحقائق علمية. وسنرى ذلك جليًا من خلال إحالاته للعديد من الكتب والنشرات في مجالات مختلفة.
هنا بعض العروض الشخصية له على موقع يوتيوب، والتي أنصح بمشاهدتها (اضغط على اسم العرض).
ذكاء العباقرة 
معضلة الإعلام الاجتماعي
من أين تأتي الأفكار الجيدة

هنا المقال لمن أراد الإطلاع عليه بالإنكليزية: اضغط هنا

أنا سعيد جدًا لمعرفتي بهذا المبدع، وفخور بترجمتي لهذا المقال المميز، والذي يفسر ظاهرة تعتري العملية الإبداعية كثيرًا دون أن نجد من يفسرها.

قراءة ممتعة!

إلى أين تضمحل الأفكار الجيدة؟* – عبدالرحمن سفر

ترجمة: راضي النماصي

        منذ مايقارب ثمانمائة عامٍ قبل الميلاد، حذر الشاعر الإغريقي هسيود من “ترك عمل اليوم إلى الغد أو اليوم الذي يليه”. كان القنصل الروماني شيشرون يدعو هذا التأجيل بـ”الكريه” بينما كان يصرف شؤون الدولة. المثير للإهتمام أنه، ومنذ قرون، لايزال تحذير كلٍ منهما تجاه هذا السلوك ساريًا حتى الآن. اليوم، نحن اصطلحنا على تسمية هذا السلوك بـ”التسويف”، ولطالما كنا نتعلم أن نواجهه درءًا لعواقبه الوخيمة.

لكني أعتقد بأننا نادرًا مانناقش الأسباب الجذرية للتسويف. لماذا نكون في غاية الحماس تجاه فكرة معينة، ونرى ذلك الحماس يتلاشى ونحن في سيرنا لإتمام الفكرة؟ كم من الكتب الجيدة وُضعت على الرفوف دون أن تطبع؟ كم عدد المشاريع الريادية التي أُلغيت؟ وكم من العشاق وقد ذهبت مشاعرهم؟ ولماذا في بعض الأحيان نجد أشخاصًا ذوي مستوى متواضع من المعرفة والفن ينتجون باستمرار، بينما نجد إنتاج الأشخاص المبدعين قليلًا؟ لماذا يعيقنا الكمال عن تحقيق مانريد؟

أعتقد بأن كل ما سبق مترابط أكثر مما نتصور، ورغم ذلك يظل من العسير أن نفسر التسويف في العمليات الإبداعية.

هذا المقال هو استقصاء حول أشخاص يحملون دافعًا ذاتيًا لإنجاز أفكار إبداعية وتحمل جانبًا من المخاطرة، ولكنهم يقومون في النهاية بالتخلي عن تلك الفكرة. لماذا يفعلون ذلك؟

يخبرنا ڤيك نيثي، وهو طالب علم نفس في جامعة نيو ساوث ويلز، أن التسويف هو نتيجة شد وجذب بين كل من القشرة الخارجية للمخ ” Prefrontal Cortex” والجهاز الحوفي “Limbic System”. القشرة الخارجية للمخ هي الجزء الصارم في تركيب المخ، والذي يحث الإنسان على البقاء بأحسن حالة؛ فهو يحث على التمرين، أو توفير المال، أو إنجاز مهامه. بينما الجهاز الحوفي هو المنطقة على النقيض تمامًا. فهي منطقة ذات تركيب بدائي في أدمغتنا، وهي التي تحث – على سبيل المثال – على تصفح مواقع التواصل الاجتماعي، أو خلق اهتمام مفاجئ لحالة الطقس.

يتساءل نيثي هنا: “لماذا يفوز الجهاز الحوفي بمثل هذا الجدال دائمًا؟”، ولكي يجيب على هذا السؤال، يصب اهتمامه خصوصًا على جزء مركزي وخاص في الجهاز الحوفي، وهي مايُعرف بااللوزة الدماغية “Amygdala”. تعمل اللوزة الدماغية على السيطرة على جانبي الخوف والقلق لدى الإنسان، أو التأثير المحفز للنجاة في مواجهة الكوارث المفاجئة “fight-of-flight response”. لنقل على سبيل المثال أن شاحنة قادمة من طرف الشارع تجاهك بأقصى سرعة. هنا تقف القشرة الخارجية للمخ عن العمل، مما يجعلك تفقد القدرة على استعراض الخيارات المناسبة. هنا تقوم اللوزة الدماغية بما يناسب لكي تنقلك إلى بر الأمان.

يقوم التسويف، وبشكل مشابه، بنفس العمل. فهو مظهر من مظاهر الاستجابة للقلق حيث تتوقف القشرة الخارجية للمخ عن العمل، ومنها تقوم اللوزة الدماغية بالتحفيز للتسويف. هنا يأتي سؤال مفاجئ:  “ماالذي يخيفنا لهذه الدرجة لكي تتوقف القشرة الخارجية؟”، حينما نقوم بمهمة غير سارة، فنحن نخشى الفشل، وهذا الخوف يشلّ قدرتنا على التفكير. لا نريد أن نتقبل الشعورٍ بأننا لسنا أذكياء كفاية أو قادرون على العمل بشكل مناسب. لذلك بدلًا من أن نقر بما نحن عليه أو نبحث عن الخطأ لكي نعالجه، يقوم العقل بلوم جوانب مختلفة مثل الكسل، قلة الوقت المتوفر، غموض المهمة، قلة المصادر المتاحة.. وعدة جوانب أخرى لاتنتهي. من الأسهل علينا قول “أنا كسول” عوضًا عن قول “أنا فاشل”، ومن السهل أيضًا أن أقول بأني “من الممكن أن أعمل بجدٍ أكثر” بدلًا من القول بأني “عملت بجد، ولكني لست ذكيًا بما يكفي”. نحن نرفض الفشل، كما يصفه نيثي، بتجربة تعلمٍ إيجابية.

يكمن الحل لمثل هذه المشكلة في التخطيط السليم، وهذا التخطيط يقوم بدوره بتحفيز القشرة الخارجية للمخ. لكن الأمر يبدو هينًا حينما نقوله، بينما هو أصعب مثل ذلك. يخبرنا ديف جروسمان Dave Grossman، مؤلف كتاب “حول القتل On Killing”، بأنه في أوقات الضغط النفسي الهائل دائمًا ما يتصل الناس بـ411 عوضًا عن 911. أو أنهم لايقومون بالضغط على زر إجراء المكالمة. دائمًا ما يحث جروسمان بالتدرب بشكل متكرر على مثل هذه المكالمة، لأنه وكما يقول: “إذا ماقمتم باالتدرب عليها، ستكون قادرًا على التصرف وقت الخطر”. هنا يقوم التكرار بما يشبه السيطرة على القشرة الخارجية للمخ، مما يقلل دور اللوزة الدماغية في التحكم، وبالتالي دور الجهاز الحوفي.

يجب في نفس الوقت أن لاننسى العنصر الآخر المهم، وهو إعادة تعريف الفشل من “تجربة مخزية” إلى “جزء تكاملي من العملية الإبداعية”. حينما نعيد التفكير بإيجابية حول عاداتنا، فنحن نستطيع تشكيل العالم الذي نود.

دعونا ننتقل بمفهوم التسويف إلى خطوةٍ أبعد. لنفترض أن بحوزتنا فكرة، ونحن متحمسون لأجلها. نقوم بعد ذلك بما يلزم: ندرس تاريخ السوق، الإمكانيات المستقبلية، المنافسون… إلخ، ولكننا نتوقف في مكانٍ ما وسط حماسنا. دائمًا ماتحبسنا الأمور التقنية عن التقدم في المشوار. دائمًا مايقبع خوفٌ في تلك اللحظة خلف عقولنا من المهمة مما يهول حجمها، أو يطالنا خوف من عدم إتمامها بالشكل المناسب. وإذا مافشلنا في إتمام تلك المهمة، فسيكون الانتقاد قاسيًا.

في نشرة دورية حول علم النفس في المملكة المتحدة، والتي صدرت بعنوان “اعتقادات ماوراء-معرفية حول التسويف“، وصفت مجموعة من حملة شهادة الدكتوراة التسويف بأنه “تأخير هادف في اتخاذ القرارات ضمن إطار زمني محدد”. لكن، ماذا لو وصلنا إلى نقطةٍ نتخلى فيها عن نية اتخاذ القرار؟ حينها سننتهي بدفن تلك الفكرة الجيدة. ولكن السؤال الأهم هو: ماالذي يقودنا إلى تلك المرحلة؟ أعتقد بأنه من المهم أن نتحدث عن ركام الفوضى حيث ينحرف مسار اتخاذ قراراتنا.

هذه مشكلة تم تناولها في منتصف القرن العشرين، وهي ما يعرف بمشكلة “فيض المعرفة Information Overload“، وهي تظهر بشكل أكبر في زماننا نظرًا لتوفر شبكة الإنترنت، والتي وضعت المعلومات قيد الطاعة للبشر. هنا أقتبس من بيرترام جروس Bertram Gross، صاحب كتاب إدارة المنظمات The Managing of Organizations، قوله: ” يحدث فيض المعرفة حينما تتجاوز كمية المعلومات المُدخلة طاقة استيعابها. لدى صناع القرار عمومًا طاقة استيعاب معرفي محددة، وحينما يحدث فيض المعرفة فمن الطبيعي أن جودة اتخاذ القرار لدينا تقل”.

يقود هذا بالتالي إلى ظاهرة نفسية اسمها “لعنة المعرفة Curse of Knowledge“، والتي تحدث للأفراد الأكثر إطلاعًا لأنهم يفشلون في تجاهل المعرفة المميزة التي يمتلكونها، وبالتالي هم يصابون بما يشبه اللعنة التي تجعلهم يفشلون في عرض قدراتهم، والتي تكون مقبولة في نظر الأشخاص ذوي الأقل اطلاعا.

إذًا، فليس من المستغرب أن نجد العديد من الأفكار الجيدة وهي تتلاشى. وإذا لم نكن قادرين على الموازنة بين اتخاذ القرار وفيض المعرفة، فلن يتحسن موقفنا.

لا ينشغل الأشخاص ذوي الاطلاع المحدود بمثل هذه العوائق، فدائمًا ما تكون رؤيتهم محصورة بالظواهر اللحظية، وهم بالتالي لايفكرون فيما يلي ذلك ولايعانون من فيض المعرفة. يسمى ذلك في أدبيات علم النفس بـ”تأثير دانينغ كروجير Dunning–Kruger Effect“. هذا التحيز المعرفي – إن صحَّ التعبير – يقود إلى غرور مضلل، مما يعني بأن الأشخاص ذوي القدرة المحدودة يقيمون قدراتهم أكبر مما هي في الواقع. هناك مقولة مشهورة لتشارلز داروين يصف فيها هذه الحالة: “يمنحك الجهل ثقة أكبر مما تمنحك المعرفة”.

يمكننا أن نرى هذه العقلية الواهمة حينما نرى الأفراد وهم يهتمون بالشهرة أكثر من الجودة. هم يريدون الظهور وحسب مهما كلف الأمر. هم يهتمون بظهور أسماءهم على العناوين الرئيسية أكثر من اهتمامهم بخلق تأثير ومشاركة ثقافية. لذلك، وعلى سبيل المثال، هم يهتمون بنيل مسمى “كاتب” أكثر من اهتمامهم بالكتابة نفسها.

ولماذا ينال مثل هؤلاء الاهتمام المميز من قبل المتلقين؟ أعتقد بأن إريك شميدت، المدير التنفيذي لشركة غوغل، أجاب على هذا السؤال بجدارة حينما قال “… في عصر وفرة المعلومات، فإن تعرض الأشخاص المستمر إلى مصادر متأثرة بالتقنية يمكن أن يترك أثرًا على عملية التفكير، مما يعرقل التفكير العميق والفهم، ويعيق تشكيل الذكريات أيضًا مما يجعل التعلم أكثر صعوبة”.

وهذا يقودنا إلى نقطة أهم. مايغيب عن أذهاننا هو عواقب التسويف الوخيمة، وهي تشمل الاكتئاب، قلة تقدير الذات، مما يقود إلى الأداء السيء. لكن هذه العواقب تبدأ بالتلاشي حينما نصل إلى المصيدة المرعبة، وهي جلد الذات. أفضل من وصف أخطار هذه المصيدة هو أوسكار وايلد، الكاتب الإيرلندي الشهير، حينما قال: “هناك متعة في جلد الذات، فحينما نلوم أنفسنا، ينشأ لدينا اعتقاد بأن لاأحد يملك حق نقدنا إلا نحن. حينها، فإن من منحنا الغفران هو الاعتراف، وليس الكاهن”. عندما نحصل على ذلك الغفران الزائف، فنحن نكف عن الإصلاح. وهذا الأمر يظهر بشكلٍ ملاحظ لمن يبحث عن الكمال، فيستطيع الواحد منهم أن يعزي نفسه بـقوله “أنني حاولت أن ألتزم بمعاييري العالية، ولم أستطع تقبل أن ينزل مستواي إلى أقل من ذلك”. وبذلك، هم يتخلون عن أفكارهم، دون أن يلاحظوا القيد الذي خلقوه لأنفسهم، والمتمثل في شكل عذر.

يجب علينا أن نعترف بأن لاأحد يبدأ بشكلٍ مثالي. وكلنا نشترك في ذلك، سواء كنا موسيقيين، رياضيين، مؤلفين، متحدثين أمام الجماهير، أو حتى لاعبي شطرنج. اقرأ الاقتباس التالي من فيليب نورمان، مؤلف السيرة الذاتية لفرقة البيتلز الشهيرة بعنوان “اصرخ ! Shout” : “لم يكونوا جيدين على المسرح حينما بدأوا، وقدموا شيئًا جيدًا عندما عادوا. كانوا يفتقدون الانضباط في المسرح قبل ذلك. ولكن حينما عادوا، غنوا كما لم يغن أحد من قبل. تلك اللحظات كانت رحلة خلقهم “. وهذا يقودني إلى اقتباس آخر لجون لينون، أحد أعضاء الفرقة، حينما قال بعد سنوات من ذلك: ” تحسنا، وبالتالي نلنا ثقة أكبر”.

أسلحتنا لمقاومة التسويف في حياتنا هي التدرب باستمرار، الموازنة بين اتخاذ القرار، والتقدم باتجاه النجاح عن طريق الفشل. كما قال رالف والدو إيمرسون: “لاأحد يعلم كنه الأمر الذي يقدم عليه، أو مقدرته على اتمامه، قبل أن يجربه”.

هوامش:

* تلاعب من قبل المؤلف بعنوان كتاب ستيفن جونسون: من أين تأتي الأفكار الجيدة Where Good Ideas Come From؟

 

أغنية – جوزيف برودسكي

أغنية – جوزيف برودسكي (نوبل 1987).

ترجمة: راضي النماصي

أتمنى لو كنتِ هنا، ياعزيزتي، أتمنى لو كنتِ هنا
أتمنى لو أنك جلستِ على الأريكة
وأنا جالس بقربك
تكون المناديل بحوزتك
والدمع من نصيبي، وهو ينهمر محددًا ملامحي
على الرغم من أن الأمر قد يكون على النقيض تمامًا
*
أتمنى لو كنتِ هنا، ياعزيزتي
أتمنى لو كنتِ هنا
أتمنى لو كنا في سيارتي
وأنتِ من بدّل ناقل الحركة
كنا سنجد أنفسنا في مكانٍ آخر
على شاطئ مهجور
أو ربما عدنا إلى حيث كنا من قبل
*
أتمنى لو كنتِ هنا، ياعزيزتي
أتمنى لو كنتِ هنا
أتمنى لو أني لم أعرف الفلك حين تظهر النجوم
حين تختلس البحيرة صورة القمر
وهو يتنهد ويتقلب في سباته
أتمنى لو أنه لايعني في عقلي إلا قِرشًا
لكي أهاتفكِ عبرهُ
*
أتمنى لو كنتِ هنا، ياعزيزتي
في هذا المكان
بينما أجلس على الشرفة وأحتسي الجعة
ها قد أتى المساء،الشمس تغرب
يعلو صخب الأولاد، متبوعًا بنحيب النوارس
مافائدة النسيان
إذا كان سيعقبه الموت؟

في حب الكتب والقراءة: رسالة إلى بورخيس – سوزان سونتاغ

على طاولة الكتابة.

سوزان سونتاغ (1933 – 2004) كاتبة أمريكية ومنتجة أفلام وناشطة سياسية، وتُعد من أهم النقاد المعاصرين في الولايات المتحدة.  نشرت العديد من الروايات والمسرحيات والأفلام، لكن شهرتها لدى القراء حول العالم تنبع من الكتب التي تحوي مقالاتها، والتي تحمل نفسًا نقديًا ثاقبًا ووعيًا كبيرًا بما تتكلم عنه. صدر لها بالعربية “ضد التأويل” و”حول الفوتوغراف” و”الالتفات إلى ألم الآخرين”.

في عام 1996، حلّت الذكرى العاشرة لوفاة أشهر أدباء اللغة الإسبانية، الأرجتيني خورخي لويس بورخيس. ربما يعتبر بورخيس أشهر رمز حول الكتابة والقراءة في العالم الغربي المعاصر، وكانت سوزان مقربة منه إلى حد كبير. كتبت سوزان مقالًا تأبينيًا له على شكل رسالة تحمل في طياتها حبًا عظيمًا للكتب والقراءة، وخوفًا على مصيرهما المستقبلي. فيما يلي نص المقال.

في الختام، أود أن أشكر صديقي وأستاذي، الباحث والشاعر، الأستاذ/ كريم محمد على منحي جزءًا من وقته للاطلاع على النص وتصحيحه لغويًا.

رسالة إلى بورخيس – سوزان سونتاغ.

ترجمة: راضي النماصي – تصحيح لغوي: الأستاذ/ كريم محمد.

13 يونيو 1996

نيويورك

عزيزي بورخيس،

بما أن أدبك قد وُصف بالخلود، فليس من الغريب أن أراسلك الآن. (مرت عشر سنوات يابورخيس!). إن كان لأي كاتبٍ معاصر أن يتصف بالخلود الأدبي، فهو أنت. كنت وحدك نتاج زمانك، ونتاج ثقافتك. ومع ذلك، استطعت أن تتجاوز وقتك وثقافتك بطرق أقرب للسحر. كنت تفعل ذلك بكامل انتباهك، وبكرم. كنت الأقل غرورًا وأنانية، والأكثر شفافية من بين الكتّاب، وأكثرهم فنًا. على الرغم من أنك عشت بيننا لفترة طويلة، فقد أنتجت أعمالًا غاية في الدقة وذات قوة رهيبة في فصل القارئ عن واقعه، مما جعلك رحالًا عقليًا خبيرًا إلى عصورٍ أخرى. كان لديك حس بالوقت يختلف عن إحساس الآخرين. ولطالما بدت الأفكار الاعتيادية حول الماضي والحاضر والمستقبل في نظرك مبتذلة. كنت تحب أن تقول بأن كل لحظة من الحاضر تحتوي الماضي والمستقبل؛ ويذكرني هذا الأمر باقتباس للشاعر براوننغ – كما أتذكر – حينما قال: “الحاضر هو اللحظة التي يتداعى أثناءها المستقبل في الماضي”. ذلك بالطبع جزء من تواضعك: ذوقك وأنت تجد أفكارك في أفكار الآخرين.

كان تواضعك جزءًا يتحتم به وجودك. كنت مكتشفًا لمُتع جديدة، وذلك التشاؤم الذي يلفك، بهدوئه وعمقه، لم يكن بحاجة للصراخ كي نراه. وجب على مثل ذلك التشاؤم أن يكون مبتكَرًا، وأنت مبتكِر بدرجة تفوق الجميع. صفاء الذات الذي تحوزه والمقدرة على تجاوزها في نفس الوقت هو مثال يُحتذى به بالنسبة لي. أظهرت لنا بأنه ليس من الضروري أن تكون حزينًا، حتى ولو كنت أعمى وتتوهم بأن كل شيءٍ بشع. قلتَ في مكان ما فيما يخص جودة الكاتب وبراعته بأنه يجب على كل الناس أن ينظروا إلى ما يصيبهم على أنه منحة. (كنت تتحدث عن إصابتك بالعمى).

لطالما مثلت مصدرًا عظيمًا لكتّاب آخرين. في عام 1982، قبل أربع سنوات من وفاتك، قلتُ في مقابلة بأنه: “لا يوجد كاتب آخر يهم الكتاب بقدر بورخيس، وأن أشخاصًا عديدين يؤمنون بأنه أعظم كاتبٍ حي. هناك القليل من الكتّاب هذه الأيام ممن لم يستفيدوا منه أو يقلدوه”، وما زال هذا الكلام صحيحًا. لا نزال نتعلم منك ونقلدك. لقد أعطيتَ الناس طرقًا أخرى لكي يتخيلوا، دون أن تنسى تذكيرنا بعزو فضل كل ذلك إلى الأدب في الماضي قبل كل شيء. قلتَ مرة بأننا ندين الأدب بكل ما نعنيه حاليًا وبما كنا عليه سابقًا، وإذا اختفت الكتب، فسيختفي التاريخ، وكذلك البشر. وأنا أؤمن بأن كلامك صحيح. الكتب ليست فقط محبسًا قسريًا لأحلامنا وذاكرتنا، بل إنها تهبنا أيضًا نموذجًا لسمو الذات. يعتقد بعض الناس بأن القراءة مجرد مخرج؛ من عالم الواقع إلى عالم الخيال، عالم الكتب. الكتب أكثر من ذلك. هي طريق لكمال إنسانية الفرد.

أود أن أعتذر لتحتم إخباري إياك بأن الكتب أصبحت أشياء مهددة بالانقراض. وبجانب الكتب، تلك الأجواء التي تجعل من الأدب وروحه يتغلغل في أعماقنا. كما يخبرنا التقنيون، فسوف نقتني قريبًا “شاشات عرض”، ونستطيع من خلالها طلب أي “نص” نريد. وسنستطيع تغيير مظهره، وطرح أسئلة عنه، والتفاعل معه. حينما تصبح الكتب “نصوصًا” فنحن “نتعامل” معها وفقًا لشروطِ توفرها آلة. ستتحول الكلمة المكتوبة ببساطة إلى أفق وشكل آخر لواقعنا التلفزيوني، المدار من قِبل الإعلانات. هذا المستقبل المجيد الذي يُشيَّد لنا، وُصف بأنه “ديمقراطي”. بالطبع، فهو لا يعني أكثر من موت الوعي، وموت الكتاب معه.

هذه المرة، لن تكون هناك حاجة لحريق كبير. لن يحتاج الهمجيون إلى حرق الكتب. النمر* سيبقى في المكتبة دون أن يقرأه الناس. عزيزي بورخيس، أرجو أن تفهم بأن هذا الأمر لا يمنحني الراحة لأشتكي. لكن لمن أشكي مصير الكتب وقراءتها سواك؟ (مرت عشر سنوات يابورخيس!).

كل ما أريد قوله هو أننا اشتقنا لك. اشتقت لك. لا تزال تصنع فارقًا. هذا العصر الذي سنقبل عليه، القرن الحادي والعشرين، سيختبر الروح بطرق جديدة. لكن، تستطيع أن تضمن بأن بعضًا منا لن يهجروا المكتبة العظيمة، وبأنك ستبقى ملهمنا وراعينا وبطلنا.

سوزان

____________

* تتكرر بعض الكائنات بشكل دائم في أدب بورخيس، مثل النمور والمرايا.

لماذا أكتب؟ – إدواردو غاليانو

صورة

ألقى غاليانو هذا الخطاب بتاريخ 9 مايو 2013  أثناء تسلمه جائزة مركز هيفن للعلوم الاجتماعية في ويسكونسن، الولايات المتحدة. وكانت الجائزة نظير نتاجه الأدبي.

ولأن غاليانو لايحتاج إلى تعريف، فسأترككم مع الخطاب مباشرة. قراءة ممتعة.

 لماذا أكتب – إدواردو غاليانو

ترجمة: راضي النماصي

أريد أن أتحدث قليلًا عن لماذا وكيف أصبحت كاتبًا.

في البدء، إعتراف: منذ كنت صغيرًا، حاولت أن أكون لاعب كرة قدم. لازلت اللاعب رقم واحد، أفضل الأفضل، ولكن فقط خلال أحلامي. بمجرد أن أستيقظ، أقر بأن لدي ساقين متخشبتين، وأن لاخيار آخر لي سوى محاولة أن أكون كاتبًا.

حاولت، ومازلت أحاول، أن أقول الكثير بكلمات أقل. أن أبحث عن الكلمات المجردة على حساب البلاغة. كانت الكتابة ولاتزال صعبة، لكنها في غالب الأحيان تعطيني شعورًا عميقُا ومتعة كبيرة، بعيدًا عن العزلة والنسيان.

حاولت، وأحاول أن أكون ماهرًا بما يكفي لأتعلم الطيران في الظلام. حاولت، وأحاول أن أتقيأ كل ذلك الكذب الذي نتجرعه كل يوم ونحن مجبرون. وحاولت، وأحاول أن أكون عصيًا، تجاه الأوامر التي يصدرها سادة العالم، والتي هي ضد ضمائرنا، وضد المنطق السليم.

حاولت، وأنا أحاول أن أفترض أنني لايمكن أن أكون محايدًا، وألا أكون هدفًا لأنني لاأريد ذلك، فذلك ضد الرغبة البشرية.

حاولت، وأنا أحاول أن أشجب المثل القديم “الإنسان ذئب أخيه.”. هذا كذب. الذئاب لاتقتل بعضها، نحن المخلوقات الوحيدة الذين تتخصص في قتل بعضها البعض.

حاولت، وأنا أحاول من خلال الكتابة أن أجد أولئك الرجال والنساء الذين يرغبون بالعدالة والجمال. هؤلاء هم أبناء عالمي، وممن يعيشون فيه، بغض النظر عن مكان مولدهم أو كيف عاشوا، وبغض النظر عن حدود الزمان.

حاولت، ومازلت أحاول أن أعاند بما يكفي، لأعتقد بأنه على الرغم من أن الإنسان جُبل سيئًا، إلا أننا ناقصون.

حاولت، وآمل، وسأظل أحاول أن أختار الجانب الأيمن، والذي يكون دائمًا في الجانب الأيسر، لأجل قتالي الساخط الأبدي ضد الإهانة.

 

حاولت، وأحاول. وصدقوني، الأمر يستحق.  لربما نستطيع أن نغير الجملة الشهيرة، التي كتبها صديقي ويليام شكسبير:

نعم، الحياة حكاية رواها غبي

مملوءة صخبًا وعنفًا، وتبين.. كل شيء!

حوار بين أنطونيو سكارميتا وإليانور واكتيل

حوار بين إليانور واكتيل وأنطونيو سكارميتا.

برنامج “في صحبة الكتَّاب” – إذاعة cbc الكندية – 4 أبريل 2010.

ترجمة: راضي النماصي 

في الثامن والعشرين من فبراير 2010، حدث زلزال مروع في تشيلي بمقياس 8.8 ريختر، وهو يعد ثاني أقوى زلزال في تاريخ البلاد بعد زلزال 1960. في هذا الحوار المترجم، نرى أحاديث بينهما حول الزلزال الحالي، ويمهد لأحاديث أخرى حول روايات سكارميتا ومشواره في الكتابة، تاريخ تشيلي السياسي والأدبي، وآراءه في الأدب وتحولات الحكم في بلاده. اللقاء حميمي ويضج بالمشاعر والضحك والمتعة.

 لمن يجيد اللغة الإنجليزية، من الأفضل له أن يستمع للحوار على هذا الرابط

http://www.cbc.ca/player/Radio/Writers+and+Company/2011/ID/1817797673/

تعريف بالمحاورين:

 أنطونيو سكارميتا، روائي تشيلي من أصول كرواتية، وهو من مواليد 1940، كتب روايات عدة بعضها ترجمت للعربية عن طريق المترجم القدير صالح علماني، منها “عرس الشاعر” و “فتاة الترومبون”، وقد حقق من خلالها نجاحًا ممتازًا. لكن روايته “ساعي بريد نيرودا: صبر متأجج” – والتي ترجمها صالح أيضًا – تحولت إلى فيلم بديع باللغة الإيطالية حاز على عدة جوائز أوسكار، واسم الفيلم il postino، كما تحولت إلى مسرحية وتمثيلية إذاعية، وترجمت إلى العديد من اللغات، مما كفل له نجاحًا ساحقًا لايضاهى. حاز العديد من الجوائز الأدبية حول العالم، وتنقل مابين مناصب دبلوماسية وأكاديمية.

 إليانور واكتيل، مقدمة برامج كندية من مواليد مونتريال سنة 1947، عملت في منتصف السبعينات ككاتبة مستقلة في فانكوفر، وأستاذة في جامعة سايمون فرايسر. في خريف 1987، تولت تقديم برنامج إذاعي حول الفنون في تورنتو. أدارت برنامج

الحوار

–            حدث للتو زلزال في تشيلي بقوة 8.8 على مقياس ريختر. حدثني عما واجهته وقتها؟

–            كان حدثًا في غاية السوء. حدث الزلزال فجر الجمعة في الساعة الرابعة، أثناء استغراقنا في النوم، وكان من السيء أننا لم نستطع المكوث في أسرتنا، إذ أدركنا وقتها أن الهزة كانت قوية وطويلة، مما اضطررنا للخروج إلى الحديقة. كان ابني الذي يبلغ من العمر عشرين عامًا يحتفل مع أصدقائه، وقد نهض مرتاعًا بفعل قوة الزلزال. دام الزلزال لمدة دقيقتين، وبعد ذلك التقطنا أنفاسنا وحاولنا معرفة الأخبار، إلا أننا لم نستطع لأن الكهرباء تقطّعت على نحو مستمر. تطلبت إعادة التيار من شركة الكهرباء اليوم التالي بطوله، أما نحن فكنا نحاول البحث عن مذياع لمعرفة الأحداث، لكن المذياع والجرائد لم تعطنا معلومات كافية بسبب الرعب. أنا من مواليد تشيلي، وهذا البلد اعتاد كثيرًا على الزلازل، لكن هذا الزلزال كان مختلفًا، إذ كان عنيفًا للغاية، وقد عرفت من اللحظة الأولى أنه سيخلف مأساة لن تمحى.

–            هل تتذكر الزلزال الذي حدث سنة 1960؟

–            نعم، أتذكره، وكان قويًا أيضًا. لكن هذا الزلزال أطول وأفظع، إذ كنا نهتز طوال الوقت والأشياء تتداعى من حولنا. أتذكر أنا أحسسنا بالزلزال القديم وارتعبنا منه، لكنه لا يقارن بالذي حدث توًا.

–            وُلدتَ في أنتوفوغاستو، شمال تشيلي. هل يمكنك أن تحدثني حول تلك المدينة والمنطقة؟ ما الذي كانت عليه حين نشأت؟

–            حين وُلدت في أنتوفوجاستو كانت تصنف قريةً، وحالها أشبه بمدن أخرى مثل كلاما وتشوكيكماتا، والتي كانت تختزن المعادن في جوفها. والمعادن، خصوصًا النحاس، هو صادرنا الأساسي للعالم. إذ تكمن ثروة تلك المنطقة، بل ثروة تشيلي بأكملها، في تصدير النحاس. لم تكن المدينة حديثة ومتحضرة في صغري كما هي اليوم. كنت طفلًا من عائلة مهاجرة، أتت من جنوب كرواتيا. قدم أجدادي في بداية القرن الماضي، ولم يستطيعوا التحدث بالإسبانية. تعلموها بكثيرٍ من المشقة. و…

–            (مقاطعة) ما الذي أتى بهم إلى تشيلي؟

–            كانت في كرواتيا خلال ذلك الوقت مشكلتان: كانوا يملكون في تلك الأيام كروم عنب، التي عانت بسبب أمراض تسببها حشرة الفيلوكسرا، وتلك الحشرة تتسبب بضرر مهول لكروم العنب، والتي تنتج بدورها النبيذ والزيت. لذلك حدث هناك فقر مدقع، مما جعلهم يقررون الهجرة إلى أمريكا. المضحك في الموضوع أن وجهتهم لم تكن تشيلي في بادئ الأمر، بل الولايات المتحدة، التي كانت تمثل أرض الوعود؛ لكن لظرف ما توجهوا إلى تشيلي. قدموا في البداية إلى قريتين هما أنتوفوغاستو في الشمال، وبونتانيراس في أقصى الجنوب.

–            أوه، هذه بالفعل آخر نقطة من تشيلي.

–            صحيح، كان يمتلك جدي مخزنًا في ناصية الشارع. وكان يبيع فيه البقالة. أما جدتي فإنسانة فريدة من نوعها لأنها كانت تحب الأدب كثيرًا، وبما أنها لا تستطيع قراءة الأدب بالإسبانية [لكونها كرواتية] كانت تستعيض عن ذلك بسماع التمثيليات (الميلودراما) على المذياع، وتلك تسليتها. بدأت علاقتي بالأدب من خلال الاستماع لهذه الدراما الإذاعية، والتي كانت تستدر العواطف ومليئة بالرومانسية والمؤثرات الصوتية – إنه مذياع، بطبيعة الحال -. وبالحديث عن القصّ، كانت جدتي تهتم بشكل خاص بتدوين تلك المسلسلات عندما كنت في الثامنة من عمري. فبدأ ذلك الاهتمام يكبر فيّ عمع تقدمي في العمر

–            هل شكل الانتماء إلى مجتمع المهاجرين عائقًا لدى أجدادك؟

–            كلا، فتشيلي كانت مضيافة للجميع، إذ أنها في تلك المرحلة تتطلع للنمو، وبالتالي صار كل المهاجرين من أوروبا مرحبًا بهم، وشكلوا في الوقت ذاته قوة حماية لذلك البلد.

–            هل يتشارك معك أبواك نفس الثقافة؟ هل ولد أبواك في تشيلي أيضًا؟

–            نعم، في نفس المدينة التي ولدت فيها. أبي توفي قبل خمس سنوات، وأمي لا تزال حية.

–            وكيف كانت حياة العائلة وقتها؟

–            كان أبي شخصية مغامرة بطبعها، إذ جرب العديد من الأعمال دون أن يحالفه النجاح في أيٍ منها، وكان ذلك سيئًا للعائلة، لكنه كان جيدًا بالنسبة لي بصفي كاتبًا، لأني واجهت الواقع بأشكال مختلفة، فقد كنا نبحث عن مستقبلٍ أفضل، ولذا هاجرنا إلى بوينس آيرس في الأرجنتين. كانت السنوات الثلاث التي عشتها هناك منذ العاشرة من عمري أسعد أيام حياتي، فقد تعرفت وقتها على لكنات جديدة، وأصدقاء جدد، وعلى أدب رائع أيضًا، لأن المكتبات وقتها في بوينس آيرس  ممتعة وجذابة، وكل الآداب منتشرة حول المرء، إضافة إلى المسرحيات، والأفلام؛ فدور العرض كانت ممتلئة وبكثرة، وكذلك دُور الأوبرا.

–            خلال الخمسينات؟

–            نعم. أحببت أيضًا كرة القدم، وبدأت أتعلم الشعر بالسليقة. كنت سعيدًا بالفعل [في تلك الأيام]، وأود أن أشكر أبي لأنه أخذنا إلى هناك. بدأت العمل لدى محل خضار وفاكهة منذ وصولنا لأنه لم يكن معنا مال، وكنت أوصلها لمنازل مختلفة، وأتقاضى بعض البخشيش، وأستلم مرتبي كل أسبوع. كنت أستطيع بهذا المال أن أشتري مجلات، وأن أذهب للسينما. وفي ذلك الوقت كنت أحب الآيسكريم، وتستطيعين أن تلاحظي مافعل بجسمي لأنه كان مليئًا بالدهون (يضحك) . كنت مستقلًا.شعرت في العاشرة من العمر بالحرية والاستقلالية، وكان لذلك تأثيره على حياة أبي.

–            وعندما عادت عائلتكم إلى تشيلي، هل توجهتم إلى أنتوفوغاستو؟

–            لا، فقد ذهبنا إلى سانتياغو [العاصمة]. توجهت إلى المدرسة الثانوية هناك، وبعدها إلى كلية كانت تسمى “المعهد الوطني”. كانت كلية راقية، ودرست بها لمدة ست سنوات.

–            كيف ذهبت إلى هناك؟ أقصد، بما أن العائلة لم تملك مالًا لذلك، هل ذهبت إلى هناك بمنحة؟

–            كلا، فمن الأشياء الرائعة التي كانت موجودة في تشيلي قبل حكم بينوشيه والإنقلاب العسكري أن التعليم بمراحله كان مجانيًا، حتى التعليم الجامعي؛ إذ يكفي أن تتقدم لمقابلة الجامعة بمؤهلاتك وتُظهِر اهتمامك بالمعرفة والحياة لتدخل.

–            ما الذي طمحت لتكون عليه في ذلك الوقت؟

–            في ذلك الوقت؟ عزيزتي إليانور، منذ اللحظات الأولى في حياتي عندما سألت هذا السؤال لنفسي أجبت بأني أريد أن أكون كاتبًا، ولا شيء آخر. حكمت عليَّ جدتي منذ كنت في الثامنة بأن أكون كاتبًا خلال حديثٍ معها، وقد تقبلت ذلك الحُكم. دعيني أخبركِ أمرًا آخر. حينما كنت في السادسة عشر من عمري، وكنت أنهي دراستي الثانوية، سألني أبي: “ما الذي تريد أن تفعله في حياتك يا بني؟”، وأخبرته بلا تردد: “أريد أن أصير كاتبًا يا أبي.”، وعلى الفور، لم يقم أبي بما سيقوم بفعله أي أبٍ تشيلي في ذلك الوقت حينما سمع الجواب، أي إرسال الابن إلى مصحة عقلية (يضحك)، بل قال: “رائع، عظيم، يا لها من فكرة جيدة. اسمع، قم بكتابة قصص واقعية أو قصائد، وهاك العديد من الدفاتر، واكتب بقلم الرصاص، وسأطبع ما تكتبه يوميًا على الآلة، وستجده مطبوعًا بشكل ممتاز صباح الغد.”، وقد حدث ذلك بالفعل، إذ أخذت تلك الدفاتر، وظللت أكتب باستمرار كل يوم. وفي يوم ما، قال أبي: “اسمع يا بني، هل كتبت ما يكفي من القصص لتنشر كتابًا؟”. لم ألاحظ ذلك في بادئ الأمر، لأن الكتابة كانت محض متعة، ولم أفكر في ذلك الوقت بنشر كتاب؛ فرددت بأني لا أعرف. لكن، ماذا فعل أبي؟ ذهب بكل قصصي وأرسلها لمسابقة وطنية للقصص القصيرة دون أن يخبرني، وتحت اسم مستعار. بعد ذلك بشهرين، كل ناشر في تشيلي كان يبحث عني لينشر كتابًا لي، وذلك لأني تلقيت الكثير من المديح بخصوص قصصي. هل يمكنكِ أن تتخيلي مقدار محبتي لأبي بسبب ذلك؟

–            نعم، يا له من أمر استثنائي. هل كان والدك قارئًا جيدًا؟

–            كان قارئًا. حين مات، كنت أحاول البحث عن معلومات بخصوص حياته قبل ولادتي. وفي أحد المرات، وجدت في جريدة تابعة لأنتوفوغاستو بعض القصائد المنشورة باسمه، فقرأتها، وكانت ناعمة وحساسة بشكل عجيب. أظن أن له اهتمامًا بالأدب الجميل، وجال بباله: “لن أصبح كاتبًا، ولكن إن كان يريد ابني الكتابةَ، فلم لا؟”

–            ماذا عن أمك؟ هل كان لديها اهتمام بهذا الموضوع؟

–            لا أظن ذلك. أمي امرأة جميلة ومحافظة، وليس لها ذلك الاهتمام الفكري. كانت تحب الاستماع إلى الموسيقى، وخصوصًا موسيقى البوب الرومانسية التي ندعوها “بوليروس”. كانت لديها أغنية محببة اعتدنا أن نرددها دائمًا وهي “نوسوتروس”، وهي أغنية حزينة عن ثنائي لا يستطيعان العيش معًا لسبب مجهول لم توضحه الكلمات. الرجل يقول لفتاته: “يجب أن نفترق، أعتذر، ليس هناك مايمكننا فعله”.. (يغني مقطعًا من الأغنية).

–            وهل ما زلت تغنيها مع أمك؟

–            حتى الآن. لقد كبرَت بالسن، وفقدت جزءًا من ذاكرتها. لكن كلما رغبت بإسعادها، أبدأ بغنائها وتعود على الفور مبتهجة للحياة.

–            قلت يا سيد سكارميتا أنه  أحلام الهجرة من تشيلي إلى الولايات المتحدة كانت تراودك لفترة طويلة، وتحديدًا نيويورك. لماذا؟

–            لأني لم أعرف كندا وقتها (يضحك). اسمعي، كنت دبلوماسيًا في فترة ما، فمتى ما سنحت لي فرصة انتهزتها مباشرة. كنا مبهورين بالثقافة الأمريكية على الصعيد الشخصي في ذلك الحين، وكان الأمر برمته معقدًا، فمن جهة سياسية، كنا يساريين.. ولم تعجبنا سياسات أمريكا، لكن على الجهة الأخرى، كنا مبهورين بثقافة الأمريكيين السريعة: حيث موسيقى الروك آند رول، وأفلام هوليوود، وصنَّاع الأفلام المستقلين، والشعر والنثر. لذلك كنا في ذلك الوقت معجبين بشعراء أمثال والت ويتمان، وقاصين أمثال جاك كيرواك، وروائيين مثل سكوت فيتزجيرال، فهم كانوا من نقرأ لهم ذلك الوقت. كنا مغامرين بطبعنا، ونرى أن الحياة في مكان آخر وليس تشيلي. صحيح أنها تحمل مناظر ساحرة، وتحوي الزلازل المثيرة، لكن الفن، والثقافة، والحياة، والشاشة الكبيرة.. كانت خارج البلاد في الولايات المتحدة؛ وهذا كان سبب الافتتان. عندما لاحت أول فرصة للذهاب، أخذت الباخرة، وذهبت مع أصدقائي هناك للتجوال.

–            هل كان ذلك قبل حصولك على المنحة لدراسة ماجستير الآداب في جامعة كولومبيا؟

–            نعم. لأني كررت الذهاب إلى هناك بحثًا عن المغامرة. ذهبت أيضًا مع أصدقائي إلى بلدان أمريكا الجنوبية كالبرازيل، والبيرو، وبوليفيا، وكنا نعود من هناك إلى تشيلي. وبقدر ما اكتنفت تلك الرحلات متعةً فقد تطلبت أيضًا تضحيات، لأنها كانت محفوفة بالمخاطر. كنا ننام بعض الأحيان في الشارع، ولا نجد ما نأكله، ومرةً جربنا أن نخبز لنأكل. لكني عدت بعد كل ذلك للجامعة، وبدأت دراسة الفلسفة في ذلك الوقت، ومن ثم أتتني المنحة للذهاب إلى جامعة كولومبيا في نيويورك.

–            كيف تغيرت نظرتك إلى تشيلي أثناء عيشك في الولايات المتحدة؟

–           في الواقع، لقد تغيرت كثيرًا. إذ لم يكن للثقافة اللاتينية ذلك التأثير في أمريكا خلال ذلك الوقت، إذ كان نشاطهم خاملًا في المحافل الثقافية، وكانوا لا يمثلون سوى قوى عاملة في وظائف قاسية ذات أجر سيئ. كان لدى تشيلي في ذلك الوقت مسرحيات لا تجلب الانتباه، وكنت – عمومًا – مستمتعًا بحياتي؛ لكن في لحظةٍ ما، أدركت بأنه يجب علي أن أبحث عن جذوري، فعدت إلى تشيلي، وبدأت الاستمتاع بالحياة اليومية هناك. بدأت بالتعرف على جوانب من تاريخنا، والنظر إلى الناس بعين أخرى: عين التعاطف والاهتمام. وبهذا السلوك، تغيرت اهتماماتي السياسية. كما بدأت أيضًا بكتابة قصصٍ تقع أحداثها في تشيلي، وبشخصياتٍ شابة.

–            كنت تريد أن تكتبها كذلك كي تصبح كاتبًا أمريكيًا، مثل جاك كيرواك؟

–            نعم، بالطبع. كانت شخصياته تستمتع بحياتها طول الوقت. على ذكر المتعة، أذكر أني كنت في رحلة إلى بوليفيا، وكنت متوجهًا بقطارٍ إلى لاباز [العاصمة]، وكان هناك العديد من الأشخاص يرقصون في المحطة. قابلت فتاة بتلك الملابس البوليفية…

–            (مقاطعة) متعددة الطبقات؟

–            نعم. كانوا يرقصون بنشوة. واحدة من الفتيات كانت تخاطبني وتقول: “يا هذا، انزل من القطار.”، ورددت بأني لا أستطيع لأني ذاهب إلى لاباز. كنت في أورورو، إحدى مدن جنوب بوليفيا، فردت علي بقولها: “لا تذهب، لاحقًا ستموت ويفوتك كل هذا.”، فقفزت من القطار فورًا، فاستقبلتني الفتاة وعلمتني كيفية الرقص في هذا المهرجان. أتذكر أنني شربت كثيرًا، وكنت أستمع إلى موسيقى لغتهم، وإلى شعرهم، تحت ذهول طاغٍ. مثلَت بوليفيا بالنسبة لي ذلك البلد المبشر بالثقافة اللاتينية، ومرجع تلك القارة في الفن والأدب. فخطر في بالي: “يا لي من أعمى. كم أحب هذه القارة، وكم أحب هؤلاء الأشخاص.”، وهذا السبب الذي دفعني للعودة إلى تشيلي.

–            بدأت تنشر كتبك ذاتيًا في أواخر الستينات أثناء اشتغالك في الصحافة في سانتياغو، إضافة إلى عملك ناقدًا أدبيًا، ومخرجًا فنيًا، وأستاذ أدب في الجامعة. هل كانت تلك الفترة في صالح الفن والثقافة في تشيلي؟

–            كانت تلك الفترة  الأفضل على مدى العصور. لأن الحياة في ذلك الوقت على أقصى تسارعها، ومنطلقة بالحد الأقصى من المتعة، كما كان هنالك العديد من الحركات السياسية التي تهدف إلى تحسين معيشة الفقراء، والعديد من الحركات السياسية الجديدة التي لم تتبع أطر الشيوعية البالية أو الخطب الإشتراكية الشعبية، إذ حظيت بالكثير من الطاقة الثقافية. صحيح أنها حركات سياسية من الخارج، لكنها كانت ثقافية في الصميم. فقد أردنا التقدم والحرية، لكننا  بطريقتنا. كان الأمر برمته يبعث على الحماس. كانت تلك الأيام ممتعة، ومليئة بالاستقلالية.

–            كانت ممتعة إلى أنها لم تعد كذلك (تضحك). كيف كانت الأجواء في السبعينات، حين كان سلفادور الليندي وحزبه اليساري أول حزب منتخب ديمقراطيًا في تشيلي؟ هل كان هناك دعم للمجتمعات الثقافية والفكرية؟

–            بشكل كامل تقريبًا. الفنانون والأدباء كانوا مستمتعين بالمحافل والأجندة التي كانت تقام لهم، أما الرجل نفسه فكان ملهمًا بحق، وحساسًا، كأنما خلق من أجل الثقافة. كان كل فنان وكاتب يعمل بالاتجاه نفسه، وكذلك سلفادور الليندي وأحزابه السياسية. عندما انتهت تلك الفترة بقتل الجيش الكثير من الناس واعلان الانقلاب، كان من ضمن القتلى العديد من الفنانين والأدباء. تعلمون جميعًا كيف قتل فيكتور خارا، وهذا لوحده مثال مأساوي لما جرى. قبل شهرين، ظهر تقرير حول كيفية إعدامه، وعن الطلقات التي اخترقت جسده. كان معتقلًا في سجون الجيش، وتم إعدامه بأكثر من ثمانين طلقة، مما قطعت جسده إربًا.

–            (مقاطعة) تم الاحتفاظ بما تبقى من جثمانه..

–            قاموا بتحليل المتبقي من خلال تقرير علمي عالي الدقة، لدرجة أنهم عرفوا توقيت كل طلقة وماهي الطلقة الأخيرة. ما حدث كان أمرًا مهولًا. وما أود قوله الآن هو، ومن خلال هذا المثال، أن حماس المثقفين والشباب كان مليئًا بالحركة والحرية، لدرجة أنهم دفعوا حياتهم ثمنًا لذلك في مناسبات عديدة.

–            يا أنطونيو سكارميتا، كانت الفترة التي قادت إلى انتخاب سلفادور الليندي مسرح أحداث روايتك الأشهر “ساعي بريد نيرودا: صبر متأجج”. ولعل العنوان الأكثر شهرة عند القراء هو “ساعي البريد”، وذلك بسبب الفيلم الجميل الصادر سنة 1994 بعنوان “Il postino”. القصة تستعرض أحد أيقونات تشيلي الثقافية، أي الشاعر بابلو نيرودا. هل كنت تكن قدرًا كبيرًا لنيرودا على المستوى الشخصي والشعري؟

–            نعم، ولازلت. من بين العديد من الشعراء في كلا الأمريكتين، يبقى نيرودا شاعري المفضل بفارق بعيد عن غيره، ومن تشيلي أيضًا، وهذا سبب آخر لكي أحبه. لذلك كتبته شخصيةً في روايتي، وأحببته كاتبًا وقارئًا، إذ بدأت دراسته بشكل عميق، ودرَّست شعره لطلابي حينما كنت أستاذًا مساعدًا بالجامعة. وحين نشرت كتابي الأول، قررت الذهاب إلى إيسلانيدا، قرية صغيرة ساحلية تبعد 200 كيلو متر عن سانتياغو، ومعي كتابي الأول. كان ذلك الكتاب عبارة عن مجموعةٍ قصص قصيرة بعنوان: “الحماس”، وذلك العنوان مختار عن قصد. إذ لاحظت في ذلك الوقت أن كل النثر في تشيلي نثر محافظ، وكئيب، ومليء بالشخصيات المسنة التي تحتضر، وأردت أن أظهر للناس أن الحياة رائعة، وتبعث على الحيوية والمرح والأمل والمغامرة، وذلك منذ بداية الكتاب، أي الغلاف. أخذت الكتاب إلى نيرودا، وطلبت منه أن يقرأه، فقال لي: “حسنًا أيها الشاب، أود أن أقرأه، ولكن ليس الآن. سأقرأه خلال شهرين. عد بعد شهرين وسأخبرك حول رأيي في الكتاب.”، لكني عدت بعد أسبوعين. طرقت الباب، وعندما أتى نيرودا إلى الباب قلت له: “مرحبًا، هذا أنا. هل قرأت كتابي الأول، الذي أهديته لك؟”، رد علي بـ: “نعم، قرأته.”، لم أستطع الانتظار، فقلت:”وما رأيك به؟”، نظر إلي وقال: “جيد.”، من دون أي حماس. لكن، كان مجرد سماعي كلمة “جيد” من شفتيه كافيًا ليجعلني سعيدًا. كدت أن أقفز من الفرحة، لكن نيرودا – وأتذكر ذلك جيدًا – أتبع قائلًا: “ولكن، ما قلته لا يعني شيئًا. لأن كل كتابٍ أول لمؤلفٍ تشيلي هو كتاب جيد.”

–            (تضحك) .. هل استمررت بالتعرف عليه شخصيًا؟ أو أمضيت وقتًا معه؟

–            يظن بعض الناس من خلال روايتي والفيلم المقتبس عنها أنني أحد أصدقاء نيرودا الحميمين، بينما في الحقيقة لم أكن كذلك. إذ لم أرَ نيرودا سوى اثنتي عشرة مرة تقريبًا طوال حياتي، وفيما عدا ذلك لم أره قطّ، ولم أزره بشكل منتظم. في نهاية حياته، عندما كانت الحكومة برئاسة حزب “وحدة الشعب”، خضنا عددًا من الاجتماعات المتكررة لنرى كيف يمكن للمؤلفين المبدعين والفنانين انقاذ حكومة سلفادور الليندي من كارثة محققة، ولذلك كتبنا منشورًا مشتركًا إلى المجتمع الدولي نطلب فيه المساعدة لتجنب الانقلاب، ووقتها قابلت نيرودا مرات أخرى. في مرات عديدة، حينما كنا نجتمع مع نيرودا، تكلمنا عن أشياء لا يتكلم عنها المثقفون عادةً. تكلمنا عن علاقات حبنا في الماضي والحاضر، وعن شعراء آخرين يعيشون في سانتياغو وعلاقات الحب التي لديهم، وعن الرحلات، وعن أعداء نيرودا، وعن شعراءٍ يكرههم نيرودا. اعتدت ممازحته عبر تحوير بعض الكلمات في شِعره لتظهر قصائده بشكل مضحك. كانت علاقة جميلة في ذلك الوقت لأني كنت صغيرًا في ذلك الزمان ومستقلًا. لم أنتمي لأي حزب سياسي، أما هو فكان شيوعيًا متطرفًا. كانت العديد من مقابلاته مع رؤساء حزبه والعديد من الشخصيات الدولية تتسم بالجدية، لذلك حين كنت أقابله كان يعلم بأننا سنحظى بالكثير من المتعة والضحك. وربما لهذا السبب كتبته في “ساعي بريد نيرودا” بتلك الشخصية الظريفة، وأعتقد بأنها أتت من تجربتي وأحاديثي معه. لا يشك أحد في أن نيرودا الحقيقي كان رجلًا مهمًا بشخصية مؤثرة، بينما نيرودا الذي في الرواية كان يُرى بعيني ساعي بريد حالم في قرية تشيلية.

–            كانت هناك برقية من ضمن الرسائل التي أتى بها ماريو إلى بابلو نيرودا أرسلها الحزب المركزي الشيوعي، وتفيد بترشيحهم إياه للرئاسة، وهذا ما حدث بالفعل سنة 1970 إلى أن تنازل عن ترشيحه وقام بدعم سلفادور الليندي. كما توجد العديد من الأحداث الحقيقية الأخرى، كرسائله الدبلوماسية إلى أصدقائه، وحيازته جائزة نوبل عام 1971. ما الذي دفعك إلى طرح هذه المعالم بأعين سكان شبه أميين من تشيلي ..

–            (مقاطعًا) لأن تلك الأحداث كان لها تأثير في حياتي، وحياة نيرودا، والحياة في بلادي عمومًا. الرواية نفسها تُعد استعارة أيضًا، وتلك الاستعارة تعبر عن الحياة الغنية بالأحداث في تشيلي خلال فترة قصيرة جدًا من الزمن. وبما أن الرواية بأكملها مبنية على علاقة بين شخصين غير متكافئين، قررت أن أستخدم هذه الأحداث المتصلة: انتخاب سلفادور الليندي، ذهاب نيرودا إلى باريس، ومن ثَمَّ الإنقلاب؛ وفي النهاية تلك النهاية المأساوية لماريو خيمينيث ساعي البريد. وكل تلك الأحداث كان لها تأثيرها في بلادي.

–    كيف كان ردك على الأحداث التي مرت على نيرودا خلال تلك الفترة، من مرضه وحتى العناية به في المستشفى والهجمات على منزله، وغيرها؟ لأننا نرى في غلاف الرواية الخلفي تلك الأزمات والمعارك الوحشية التي جرت سنة 1973، والتي دمرت أحلام نيرودا والكثيرين غيره بتشيلي ماركسية واشتراكية.

–            في أيام الإنقلاب، ومنذ أيامه الأولى، كنا نأمل بغد أفضل. كان الكل يريد أن ينجو بحياته في تلك الأيام المأساوية، فيركضون ويختبئون ولم يعيروا اهتمامًا كبيرًا بمن لم يقطن سانتياغو. كان نيرودا يعيش وقتها في إيسلانيدا. – بالمناسبة، دعيني أخبركِ أمرًا: – تُوفي نيرودا بعد عشرة أيام فقط من الإنقلاب، أي عشرة أيام من موت سلفادور الليندي. وحين مات، أحضر جثمانه إلى سانتياغو في سيارة إسعاف. وصلت جثته في المستشفى، وفي اليوم التالي حضرت جنازته. في ذلك الوقت، كان كل من يرتبط به في خطر، لأن احتمال قتله موجود. هكذا بكل بساطة. في يوم الجنازة، قدم العديد من الأشخاص لمرافقة جثمان الشاعر إلى المقبرة. أعتقد بأن كل من مشى مع الجثمان إلى المقبرة كان بطلًا وعلى قدر كبير من الشجاعة، لأنه يخاطر بحياته وأكثر من ذلك. عندما وصلت الحشود إلى المقبرة، بدأت بغناء “النشيد الشامل”.

–            هل كنت هناك؟

–            لا، لم أكن هناك، كنت مختبئًا. أعتذر [عن هذه الفعلة]، لست من هذا النوع من الأبطال أبدًا، وأقر بذلك. أحترم كل من ذهب إلى هناك في ذلك الوقت. بينما كنت أفعل شيئًا آخر. صحيح أنه ليس بذلك الشيء الاستفزازي كمرافقة الجثمان، لكن كنت مشتركًا بنوع آخر من المقاومة، وليس بذلك البطولي؛ إذ كنت أخبئ بعض الأشياء المهمة بالاشتراك مع عدة رفاق.

–            تغيرت حياتك يا أنطونيو سكارميتا بشكل متسارع بعد الانقلاب على سلفادور الليندي في سبتمبر سنة 1973، إذ أرغموك على مغادرة تشيلي. ما الذي حدث لك بالضبط؟

–            ليس من الدقيق أن نقول بأني غادرت تشيلي قسرًا. فقد اعتقدت في ذلك الوقت بأنه من الأفضل أن أغادر البلاد، لأن حرية الكتابة معدومة، إذ لم تكن هناك صحافة مستقلة، والكتب ممنوعة، كما طُرد الأساتذة من جامعاتهم، وكنا بلا وظائف. سألت نفسي:”ما الذي أستطيع فعله هنا؟” ولم أعرف الإجابة، لذلك قررت الرحيل. ذهبت إلى برلين الغربية، لأن مدير الجريدة التي أعمل عندها في ذلك الوقت أعطاني تذكرة، وعرض علي منحة لكتابة نص فيلم كان يخطط له. ولهذا السبب انتقلت إلى ألمانيا. لم أعرف كلمة ألمانية واحدة في ذلك الوقت، والمضحك أنني كنت أدرس الفلسفة، وفي ذلك الوقت كانت لفلسفة مارتن هايدغر شعبيتها، وكنت خبيرًا بها. إذ كنت أعرف بعض الكلمات التقنية الفلسفية بالألمانية بينما لا أستطيع قول “نعم” أو “لا” بها.

–            إذًا لم تشعر بالتهديد لو بقيت في تشيلي؟

–            على العكس، بل شعرت بالتهديد والرعب؛ والسبب أن بعض أصدقائي ممن بقوا، وكانوا معي في نفس الجامعة ويشاطرونني نفس الأفكار، قد دخلوا السجن وتعرضوا للتعذيب، وقد قتل واحد منهم، ورأيت بعضهم يقفزون أسوار السفارات الأجنبية ليهاجروا من البلاد؛ لذلك أعتقد بأني قد قمت بحركة ذكية حين غادرت.

–            هل كانت لديك فكرة، حين قدمت إلى برلين، بأن إقامتك ستطول؟

–            لم تكن لدي فكرة بذلك في الأيام الأولى، إذ كنت محطَّم المشاعر، ولم أعتقد بأن عنفًا كهذا سيطول، وأن هناك حلًا قريبًا لتشيلي. لكن مع السنوات، أيقنت بأن الحل سيستغرق سنين عديدة. منذ البداية قررت أن أفتح قلبي وعقلي للثقافة الأجنبية: فتعلمت اللغة الألمانية، وقرأت الروايات الرومانسية الألمانية، وبدأت العمل لمجال صناعة الأفلام الألمانية، وأجريت مقابلات، كما قررت أنه إذا كنت أريد الحرية لبلادي، فعلي أن أخبر العالم بما يحدث هناك، وهذا ما فعلته تحديدًا، فعملت بجد، حيث أخبرت الإعلام بمشاكلنا وخيبتنا، وحاولت أن أثير التعاطف لصالح من يناضل في تشيلي من أجل الحرية، وساعدت في إنشاء بعض المعاهد لنشر الثقافة الديمقراطية.

–            ما أصعب شيء مر عليك خلال تلك الفترة؟ ما أكثر شيء افتقدته؟

–            كان يمور في داخلي حزن عميق، فتشيلي بلد جميل مليء بالأمل، ولا يستحق كل هذا العذاب، ويثير غثياني مجرد التفكير بالأشخاص المعذبين في تشيلي. كان خليطًا من الحزن والقهر، وفي نفس الوقت، تذكرت بأنه كانت لدي عائلة في تشيلي السابقة، وكانوا راضين بمكانهم وبما يعيشون فيه، وكتبت عن ذلك في “ساعي البريد”، وبعدها ذلك الدمار الممتد. بعدها قررت أن أكتب وأنا أنظر لأولادي، وكان الأمر غريبًا لأن أول رواية كتبتها في برلين كانت بعنوان “لم يحدث شيء”، وهي قصة عن تجربة قهر بعيون فتى له خمسة عشر عامًا فقط. أعتقد بأني كتبت القصة بصوته من زاوية مختلفة.،لأن قصة العائلة بأكملها ومسارها، مكتوبة بشخصية ساذجة، ومن دون ذلك النفَس الكئيب لأدبيات القهر. لذلك استطعت أن أكتب شيئًا غير اعتيادي في ذلك الوقت، حيث هناك قصة حول القهر لكن بطابع أقرب للكوميديا، ونجحت.

–           عشت في برلين الغربية مابين 1975 إلى 1989، حينما عادت تشيلي للديمقراطية بعد 14 عامًا من الحكم العسكري. هل رأيت أنه من المناسب أن تعود إلى هناك بمجرد عودة الأمور إلى نصابها؟

–            غادرت برلين إلى تشيلي لأن شيئًا مثيرًا قد حدث: استعاد الناس حريتهم من بينوشيه. كان الموقف جنونيًا، لأن بينوشيه اعتقد أنه سيفوز ضد خصمه، بينما اكتفى خصمه بطرح سؤال بسيط: “هل ترضون بأن يحكمكم لثمان سنوات أخرى؟”، أما هو فكان واثقًا لأن الإعلام كان يعمل على صنع بروباغاندا له، والتلفزيون كان يذيع لصالحه، وأمضى في الحكم خمسة عشر سنة دون منافس؛ لذلك اعتقد أن الأمر سهل، وأنه سيفوز لا محالة. قامت الأحزاب السياسية المعارضة، بمساعدة العديد من الطلاب والفنانين والمؤلفين، بحملة رفضٍ بديعة، مليئة بالمرح، وبأمل أن يسقط بينوشيه. كان الأمر مفاجئًا، وسقط بينوشيه، وها نحن ننعم بالديمقراطية إلى اليوم. إذًا، عدت لتشيلي بعد الحملة، لكن الحملة كانت تهمني، لأنها أرتني كيف يمكن لها أن تصنع القوة التي غيرت المجتمع.

–            هل استطعت أن تزور عائلتك وأصدقائك في تشيلي خلال مكوثك في برلين؟

–            مرة واحدة فقط، وكانت تجربة سيئة سنة 1985، في تلك السنة اختطفت شرطة بينوشيه ابن ممثل كنت أعمل معل، وقتل، إذ نحروه. كنت صديقًا جيدًا لأبيه، وتسبب ذلك الحادث لي بألم فظيع ذلك الوقت، فقد مرت قبل تلك الحادثة اثنا عشرة سنة على الانقلاب. مرت تلك السنوات الثقيلة وما زالوا يقتلون الناس بتلك الطريقة الوحشية. في تلك اللحظة فقدت الأمل باسترجاعنا للديمقراطية. لكن غيرت رأيي بعد سنتين، حينما رأيت الجماهير تتحرك للخلاص.

–            روايتك الأخيرة المنشورة بالانجليزية دارت حول فترة الديكتاتورية في سانتياغو، والعنوان الإنجليزي للرواية هو “الراقصة واللص” [عنوانها بالعربية: “رقصة النصر”]، وتحوي مفاهيم عديدة حول الجاسوسية والخيانة والتعقيد في العالم الذي صنعته، وسقوط نظام بينوشيه واسترجاع الديمقراطية، وتغلب الخير على الشر، هل يمكنك أن تحدثنا حول الإلهام لكتابة هذه الرواية؟ وماالذي أردت أن تستعرضه وتريه للقارئ؟

–            كانت هناك العديد من المشاكل العالقة حين عادت الديمقراطية. إذ أن هناك ناس عانوا ولا سبيل لاسترجاع مافقدوه. وهذا بالضبط ماحدث في “الراقصة واللص”، فشخصية الرواية الرئيسية طالبة في المرحلة الثانوية تود أن تنهي دراستها وتصبح راقصة محترفة، فتعلمت الرقص في أكاديمية جيدة، ونجحت بالأكاديمية وأدت وصلات رقص على مسارحٍ شهيرة في سانتياغو وبوينس آيرس. كانت هذه الشابة تعاني لأنها لم تجد قوى لمساعدتها على إكمال الطريق، إذ أن فيكتوريا – وهذا اسمها – ابنة رجل قتل في زمان الديكتاتورية، وأكملت حياتها من دونه، وأمها امرأة مكتئبة لم تعرف ما الذي تفعله بعد مقتل زوجها في ظروف قاهرة، ومن المحتمل أن فيكتوريا لن تدرك حلمها في أن تكون راقصة محترفة. فهي – إذًا – شخصية تعاني من ظلال الماضي، بكل ذلك الحمل على كتفيها، وبكل ذلك الاكتئاب. كما وجدت هذا الاكتئاب في عدة أشخاصٍ في تشيلي.

–            عندما طُردت من المدرسة، كان أحد المدرسين يذكر البقية بمقتل والدها وكيف تم. ردت المديرة بأن “ذلك الأمر حدث قبل 17 سنة، والآن تشيلي ديمقراطية منذ زمن. متى نتوقف عن لوم بينوشيه بكل شيء؟”، وهنا يبرز سؤال معقد، فما هي رؤيتك؟

–            لا يمكن للديمقراطية أن تكون  كاملة. لكن، في بلد يعيش ديمقراطيته الأولى بعد حكم مجرم سفاح، يقتل الناس ويفكر بطريقة مختلفة كما يعتقد، ويرسل الناس إلى المعتقلات ويعذبهم، لا يستطيع المرء القول إنه لا يُلام. توجد الآن في تشيلي حكومة اجتماعية ديمقراطية لعشرين عامًا، وعما قريب سيكون هناك تغيير. إذ أن الحكومة الجديدة ستنصب خلال الأيام القادمة وهي ممثلة للجبهة اليمينية، ويديرها أشخاص عملوا مع بينوشيه. لا بأس، لا يهمني الأمر، ولا أمانع، ويمكنني أن أسامح وأنسى، لكن سيكون الأمر مختلفًا، لأن الديمقراطية التي فرضت نفسها بالقوة سيستخدمها أناس دعموا بينوشيه. لا بأس، يجب أن أتعايش مع هذا الأمر لأنهم تغيروا، ويجب أن نثق فيهم. لكن، هناك فرق حينما نختلف في آرائنا بمناخ ديمقراطي، وبين اختلافنا أيام بينوشيه. إذ قتل بينوشيه مع رفاقه كل من يعارضونه محاربًا للديمقراطية. الديمقراطية أمر جيد حتى مع رفاق بينوشيه.

–            عندما أعود وأقرأ تاريخ تشيلي أيام الانقلاب، أجد أن هناك بلدًا مقسمًا، وتفاوتًا مهولًا في الطبقات. إلى أي مدى ترى البلد حاليًا في انقساماتها؟ هل ما زالت تعيش الماضي؟

–            لا، لم تعد كذلك. أعتقد بأن الأشخاص التي قسوا على المجتمع قد تغيروا، وتضرروا بما يكفي من نظام بينوشيه. هم الآن مقتنعون بأن الديمقراطية هي النظام الأمثل لحكم البلاد، وقد طوروا الآن اقتصادًا مذهلًا على النقيض من الموجود أيام الديكتاتورية، ويحظون بالقبول الآن أمام العالم. أؤمن بأن هناك مستقبلًا أفضل لتشيلي، إذ بات الناس على تواصل في ما بينهم بسبب الديمقراطية منذ عشرين عامًا ويجنون الآن ثمار ما فعلوا.

–            سعدت بمقابلتك اليوم، شكرًا جزيلًا.

–            شكرًا لكِ، وأرجوك أن تعذري إنجليزيتي.. لقد عدت للتو من زلزال.

–            (تضحك).

“في صحبة الكتاب” منذ انطلاقه سنة 1990. حاز برنامجها على عدة جوائز، وحازت شخصيًا على ثمان شهادات فخرية جامعية.

الحوار

–            حدث للتو زلزال في تشيلي بقوة 8.8 على مقياس ريختر، حدثني عما واجهته وقتها؟

–            كان أمرًا سيئًا للغاية. حدث الزلزال فجر الجمعة في الساعة الرابعة، وكنا نائمين تمامًا. كان من السيء أننا لم نستطع المكوث في أسرتنا، وأدركنا وقتها أن الهزة كانت قوية وطويلة مما اضطررنا للخروج إلى الحديقة. ابني الذي يبلغ من العمر عشرين عامًا كان يحتفل مع أصدقائه، وقد نهض مرتاعًا بفعل قوة الزلزال. دام الزلزال لمدة دقيقتين، وبعد ذلك التقطنا أنفاسنا وحاولنا معرفة الأخبار، إلا أننا لم نستطع لأن الكهرباء كانت تتقطع باستمرار. تطلب من شركة الكهرباء طوال اليوم التالي لإصلاح الشبكة. وقتها كنا نحاول البحث عن مذياع لمعرفة ماذا كان يحدث، لكن المذياع والجرائد لم تعطنا معلومات كافية بسبب الرعب. أنا من مواليد تشيلي، وهذا البلد اعتاد كثيرًا على الزلازل، لكن هذا الزلزال كان مختلفًا، كان عنيفًا للغاية، وقد عرفت من اللحظة الأولى أنه سيخلف مأساة لن تمحى.

–            هل تتذكر الزلزال الذي حدث سنة 1960؟

–            نعم، أتذكره، وكان قويًا أيضًا. لكن هذا الزلزال كان أطول وأفظع. كنا نهتز طوال الوقت والأشياء تتداعى من حولنا. أتذكر أنا أحسسنا بالزلزال القديم وارتعبنا منه، لكنه يبدو لاشيء مقارنةً بالذي حدث توًا.

–            صحيح، صحيح. وُلدتَ في أنتوفوجاستو، شمال تشيلي. هل يمكنك أن تحدثني حول تلك المدينة والمنطقة؟ ماالذي كانت عليه حينما نشأت؟

–            حين وُلدت في أنتوفوجاستو كانت تصنف كقرية، أشبه بمدن أخرى ككلاما وكتشوكيكماتا، والتي كانت تحتوي المعادن. والمعادن، خصوصًا النحاس، هو صادرنا الأساسي للعالم. ثروة تلك المنطقة، بل ثروة تشيلي بأكملها، تكمن في تصدير النحاس. حينما كنت صغيرًا، لم تكن المدينة حديثة ومتحضرة كما هي اليوم. كنت طفلًا من عائلة مهاجرة، أتت من جنوب كرواتيا. قدم أجدادي في بداية القرن الماضي، ولم يستطيعوا التحدث بالإسبانية. تعلموها بكثيرٍ من المشقة. و…

–            (مقاطعة) ماالذي أتى بهم إلى تشيلي؟

–            كانت في كرواتيا خلال ذلك الوقت مشكلتان: كانوا يملكون في تلك الأيام كروم عنب، وكانت تعاني بسبب أمراض تسببها حشرة الفيلوكسرا، وتلك الحشرة تتسبب بضرر مهول لكروم العنب، والتي تنتج النبيذ والزيت. لذلك كان هناك فقر مدقع، مما جعلهم يقررون الهجرة إلى أمريكا. المضحك في الموضوع أن وجهتهم لم تكن تشيلي في بادئ الأمر، بل الولايات المتحدة، التي كانت تمثل أرض الوعود، لكن لظرف ما توجهوا إلى تشيلي. قدموا في البداية إلى قريتين هما أنتوفوجاستو في الشمال، وبونتانيراس في أقصى الجنوب.

–            أوه، هذه بالفعل في آخر نقطة من تشيلي.

–            صحيح، كان يمتلك جدي مخزنًا في ناصية الشارع. وكان يبيع فيه البقالة. وجدتي كانت إنسانة فريدة من نوعها لأنها كانت تحب الأدب كثيرًا، وبما أنها لاتستطيع قراءة الأدب بالإسبانية “لكونها كرواتية” كانت تستعيض عن ذلك بسماع التمثيليات (الميلودراما) على المذياع، وتلك كانت تسليتها. بدأت علاقتي بالأدب من خلال الاستماع لهذه الدراما الإذاعية، والتي كانت مثيرة للشفقة ومليئة بالرومانسية والمؤثرات الصوتية – مذياع، بطبيعة الحال -. وبالحديث عن القصّ، كانت جدتي تهتم بشكل خاص بتدوين تلك المسلسلات عندما كنت في الثامنة من عمري. وذلك الاهتمام بدأ يكبر فيّ عندما كبرت.

–            هل شكل الانتماء إلى مجتمع المهاجرين عائقًا لدى أجدادك؟

–            كلا، فتشيلي كانت مضيافة للجميع. في تلك المرحلة كانت البلاد تتطلع للنمو، فبالتالي كل المهاجرين من أوروبا كان مرحبًا بهم، وشكلوا في الوقت ذاته قوة حماية لذلك البلد.

–            هل يتشارك معك أبواك نفس الثقافة؟ هل ولد أبواك في تشيلي أيضًا؟

–            نعم، في نفس المدينة التي ولدت فيها. أبي توفي قبل خمس سنوات، وأمي لاتزال حية.

–            وكيف كانت حياة العائلة وقتها؟

–            كان أبي شخصية مغامرة بطبعها، جرب العديد من الأعمال دون أن يحالفه النجاح في أيٍ منها. كان ذلك سيئًا للعائلة، لكنه كان جيدًا بالنسبة لي ككاتب، لأني واجهت الواقع بأشكال مختلفة. كنا نبحث عن مستقبلٍ أفضل لذا هاجرنا إلى بوينس آيرس في الأرجنتين. الثلاث سنوات التي عشتها هناك والتي بدأت عندما كنت في العاشرة، كانت أسعد أيام حياتي. وقتها تعرفت على لكنات جديدة، أصدقاء جدد، وإلى أدب رائع أيضًا. لأن المكتبات وقتها في بوينس آيرس كانت ممتعة وجذابة، وكانت الآداب كلها حولك منتشرة. ولاننسى كذلك المسرحيات، والأفلام. دور العرض كانت ممتلئة وبكثرة، وكذلك دُور الأوبرا.

–            خلال الخمسينات؟

–            نعم. أحببت أيضًا كرة القدم، وبدأت أتعلم الشعر بالسليقة. كنت سعيدًا بالفعل، وأود أن أشكر أبي لأنه أخذنا إلى هناك. بدأت العمل لدى محل خضار وفاكهة منذ وصولنا لأنه لم يكن معنا مال، عملت على توصيلها لمنازل مختلفة، وكنت أتقاضى بعض البخشيش، وأستلم مرتبي كل أسبوع. كنت أستطيع بهذا المال أن أشتري مجلات، وأن أذهب للسينما، في ذلك الوقت كنت أحب الآيسكريم، وتستطيعين أن تلاحظي مافعل بجسمي لأنه كان مليئًا بالدهون (يضحك) . كنت مستقلًا، في عمر العاشرة شعرت بالحرية، والاستقلالية، وكان لذلك تأثيره على حياة أبي.

–            وعندما عادت عائلتكم إلى تشيلي، هل توجهتم إلى أنتوفوجاستو؟

–            لا، فقد ذهبنا إلى سانتياجو (العاصمة). توجهت إلى المدرسة الثانوية هناك، وبعدها إلى كلية كانت تسمى “المعهد الوطني”، كانت كلية راقية، ودرست بها لمدة ست سنوات.

–            كيف ذهبت إلى هناك؟ أقصد، بما أن العائلة لم تملك مالًا لذلك، هل ذهبت إلى هناك بمنحة؟

–            كلا، من الأشياء الرائعة التي كانت موجودة في تشيلي قبل حكم بينوشيه والإنقلاب العسكري، أن التعليم بالكامل كان مجانيًا، حتى التعليم الجامعي. كان من الكافي أن تتقدم لمقابلة الجامعة كطالب جيد وتُظهِر اهتمامك بالمعرفة والحياة لتدخل.

–            في ذلك الوقت، ماالذي أردت أن تكون؟

–            في ذلك الوقت؟ عزيزتي إليانور، منذ اللحظات الأولى في حياتي عندما سألت هذا السؤال لنفسي أجبت بأني أريد أن أكون كاتبًا، ولاشيء آخر. منذ كنت في الثامنة، حكمت علي جدتي بأن أكون كاتبًا خلال حديثٍ معها، وقد تقبلت ذلك الحُكم. دعيني أخبركِ أمرًا آخر. حينما كنت في السادسة عشر من عمري، وكنت أنهي دراستي الثانوية، سألني أبي: “ماالذي تريد أن تفعله في حياتك يابني؟”، وأخبرته بلا تردد: ” أريد أن أصبح كاتبًا ياأبي.”، وعلى الفور، لم يقم أبي بما سيقوم بفعله أي أبٍ تشيلي في ذلك الوقت حينما سمع الجواب، وهو إرسال الابن إلى مصحة عقلية (يضحك)، بل قال: “رائع، عظيم، يالها من فكرة جيدة. اسمع، قم بكتابة قصص واقعية أو أشعار، هاك العديد من الدفاتر، اكتب بقلم الرصاص، وأنا سأطبع ماتكتبه يوميًا على الآلة. وستجده مطبوعًا بشكل ممتاز صباح الغد.”، وقد حدث ذلك بالفعل. أخذت تلك الدفاتر، وظللت أستمر بالكتابة كل يوم. وفي يوم ما، قال أبي: “اسمع يابني، هل كتبت مايكفي من القصص لتنشر كتابًا؟”. لم ألاحظ ذلك في بادئ الأمر، لأن الكتابة كانت محض متعة. لم أفكر في ذلك الوقت بنشر كتاب. رددت بأني لا أعرف، لكن ماذا فعل أبي؟ ذهب بكل قصصي وأرسلها لمسابقة وطنية للقصص القصيرة دون أن يخبرني، وتحت اسم مستعار. بعد ذلك بشهرين، كل ناشر في تشيلي كان يبحث عني لينشر لي كتابًا لأني تلقيت الكثير من المديح بخصوص قصصي. هل يمكنكِ أن تتخيلي كم أحببت أبي بسبب ذلك؟

–            نعم، ياله من أمر استثنائي. هل كان والدك قارئًا جيدًا؟

–            كان قارئًا. عندما مات أبي، كنت أحاول البحث عن معلومات بخصوص حياته عندما لم أولد. في أحد المرات، وجدت في جريدة تتبع أنتوفوجاستو بعض القصائد المنشورة باسمه. قرأتها، وكانت ناعمة وحساسة بشكل عجيب. أظن أن له اهتمامًا بالأدب الجميل، وقد فكر: “أنا لن أصبح كاتبًا، ولكن إن كان يريد ابني الكتابةَ، فلم لا؟”

–            ماذا عن أمك؟ هل كان لديها اهتمام بهذا الموضوع؟

–            لاأظن ذلك. أمي امرأة جميلة ومحافظة، وليس لها ذلك الاهتمام الفكري. كانت تحب الاستماع إلى الموسيقى، وخصوصًا موسيقى البوب الرومانسية التي ندعوها “بوليروس”. كانت لديها أغنية محببة اعتدنا أن نرددها دائمًا وهي “نوسوتروس”، وهي أغنية حزينة عن ثنائي لايستطيعان العيش سويًا لسبب مجهول لم توضحه الكلمات. الرجل يقول لفتاته: يجب أن نفترق، أعتذر، ليس هناك مايمكننا فعله.. (يغني مقطعًا من الأغنية).

–            وهل لاتزال تغنيها مع أمك؟

–            حتى الآن. لقد كبرَت بالسن، وفقدت جزءًا من ذاكرتها. لكن في أي وقت أود إسعادها، أبدأ بغنائها وتعود على الفور مبتهجة للحياة.

–            سيد سكارميتا، قلت أنه لوقت طويل كانت تراودك أحلام الهجرة من تشيلي إلى الولايات المتحدة، وتحديدًا نيويورك. لماذا؟

–            لأني لم أعرف كندا وقتها (يضحك). اسمعي، كنت دبلوماسيًا في فترة ما، فمتى ماسنحت لي فرصة أن أسدد هدفًا فعلت.
كأشخاص في ذلك الحين، كنا مبهورين بالثقافة الأمريكية. كان الأمر برمته معقدًا، فمن جهة سياسية، كنا يساريين.. ولم تعجبنا سياسات أمريكا. لكن على الجهة الأخرى، كنا مبهورين بثقافة الأمريكان السريعة: موسيقى الروك آند رول، أفلام هوليوود، صنَّاع أفلام مستقلين، والشعر والنثر. لذلك كنا في ذلك الوقت معجبين بشعراء أمثال والت ويتمان، وقاصين أمثال جاك كيرواك، وروائيين مثل سكوت فيتزجيرالد هم كانوا من نقرأ لهم ذلك الوقت. كنا مغامرين بطبعنا، ونرى أن الحياة في مكان آخر وليس تشيلي. صحيح أنها تحمل مناظر ساحرة، وتحوي الزلازل المثيرة، لكن الفن، والثقافة، الحياة، الشاشة الكبيرة.. كانت خارج البلاد في الولايات المتحدة؛ وهذا كان السبب. عندما لاحت أول فرصة للذهاب، أخذت الباخرة، وذهبت مع أصدقائي هناك للتجوال.

–            هل كان ذلك قبل حصولك على المنحة لدراسة ماجستير الآداب في جامعة كولومبيا؟

–            نعم. لأني كنت أكرر الذهاب إلى هناك بحثًا عن المغامرة. ذهبت أيضًا مع أصدقائي إلى بلدان أمريكا الجنوبية كالبرازيل، البيرو، وبوليفيا، وكنا نعود من هناك لتشيلي. وبقدر مااكتنفت تلك الرحلات من متعة فقد تطلبت أيضًا تضحيات، لأنها كانت محفوفة بالمخاطر. كنا ننام بعض الأحيان في الشارع، كنا لانجد مانأكله، ومرةً جربنا أن نخبز لنأكل. لكني عدت بعد كل ذلك للجامعة، وبدأت دراسة الفلسفة في ذلك الوقت، ومن ثم أتتني المنحة للذهاب إلى جامعة كولومبيا في نيويورك.

–            كيف تغيرت نظرتك إلى تشيلي أثناء عيشك في الولايات المتحدة؟

–            حسنًا، تغيرت كثيرًا. في ذلك الوقت، لم يكن للثقافة اللاتينية ذلك التأثير في أمريكا. في الواقع، كان نشاطهم خاملًا في المحافل الثقافية، وكانوا لايمثلون سوى قوى عاملة في وظائف قاسية وتدفع أجرًا سيئًا. كان لدى تشيلي في ذلك الوقت مسرحيات لاتجلب الانتباه، وكنت – عمومًا – مستمتعًا بحياتي؛ لكن في لحظةٍ ما، أدركت بأنه يجب علي أن أبحث عن جذوري. عدت إلى تشيلي، وبدأت الاستمتاع بالحياة اليومية. بدأت بمعرفة جوانب من تاريخنا، وبدأت بالنظر إلى الناس بعين أخرى: عين التعاطف والاهتمام. وبهذا السلوك، تغيرت اهتماماتي السياسية. بدأت أيضًا بكتابة قصصٍ تقع أحداثها في تشيلي، وبشخصياتٍ شابة.

–            كنت تريد أن تكتبها كذلك كي تصبح كاتبًا أمريكيًا، كجاك كيرواك؟

–            نعم، بالطبع. كانت شخصياته تستمتع بحياتها طول الوقت. على ذكر المتعة، أذكر أني كنت في رحلة إلى بوليفيا، وكنت متوجهًا بقطارٍ إلى لاباز (العاصمة)، وكان هناك العديد من الأشخاص يرقصون في المحطة. قابلت فتاة بتلك الملابس البوليفية…

–            (مقاطعة) المتعددة الطبقات؟

–            نعم. كانوا يرقصون بنشوة. واحدة من الفتيات كانت تخاطبني وتقول: “هي أنت، انزل من القطار.”، ورددت بأني لاأستطيع لأني ذاهب إلى لاباز. كنت في أورورو، وهي مدينة في جنوب بوليفيا. ردت علي بقولها: “لاتذهب، لاحقًا ستموت ويفوتك كل هذا.”، على الفور قفزت من القطار. استقبلتني الفتاة وعلمتني كيف أرقص في هذا المهرجان، أتذكر أنني شربت كثيرًا، وأنني كنت أستمع إلى موسيقى لغتهم، وإلى شعرهم، وكنت مذهولًا للغاية. مثلَت بوليفيا بالنسبة لي ذلك البلد المبشر بالثقافة اللاتينية، ومرجع تلك القارة في الفن والأدب. قلت لنفسي:”يالي من أعمى. كم أحب هذه القارة، وكم أحب هؤلاء الأشخاص.”. وهذا السبب الذي دفعني للعودة إلى تشيلي.

–            بدأت بنشر كتبك بنفسك في أواخر الستينات حينما كنت صحفيًا في سانتياجو، وكناقد أدبي، وكمخرج فني، وكأستاذ للأدب في الجامعة. هل كانت تلك الفترة جيدة للفن والثقافة في تشيلي؟

–            كانت تلك الفترة هي الأفضل على مدى العصور. لأن في ذلك الوقت، كانت الحياة على أقصى تسارعها هناك، وكانت تسير بالحد الأقصى من المتعة. كان هنالك العديد من الحركات السياسية التي تهدف لتحسين معيشة الفقراء، والعديد من الحركات السياسية الجديدة التي لم تتبع الأطر القديمة للشيوعية أو الخطب الإشتراكية الشعبية. كان لديها الكثير من الطاقة الثقافية. صحيح أنها حركات سياسية كما تظهر، لكنها كانت ثقافية أساسًا. أردنا التقدم والحرية، لكننا أردنا فعل ذلك بطريقتنا. كان الأمر برمته يبعث على الحماس. كانت تلك الأيام ممتعة، ومليئة بالاستقلالية.

–            كانت ممتعة إلى أنها لم تعد كذلك (تضحك). كيف كانت الأجواء في السبعينات، حينما كان سلفادور الليندي وحزبه اليساري أول حزب منتخب ديمقراطيًا في تشيلي؟ هل كان هناك دعم للمجتمعات الثقافية والفكرية؟

–            بشكل كامل تقريبًا. الفنانون والأدباء كانوا مستمتعين بالمحافل والأجندة التي كانت تقام لهم، الرجل نفسه كان ملهمًا بحق، وحساسًا، كأنما خلق من أجل الثقافة. كان كل فنان وكاتب يعمل بالاتجاه نفسه، وكذلك سلفادور الليندي وأحزابه السياسية. عندما انتهت تلك الفترة بقتل الكثير من قِبل الجيش واعلان الانقلاب، كان من ضمن القتلى العديد من الفنانين والأدباء. تعلمون جميعًا كيف قتل فيكتور خارا، وهذا لوحده مثال مأساوي لما جرى. قبل شهرين، ظهر تقرير حول كيفية إعدامه، وعن الطلقات التي اخترقت جسده. كان معتقلًا في سجون الجيش، وتم إعدامه بأكثر من ثمانين طلقة، مما قطعت جسده إربًا.

–            (مقاطعة) تم الاحتفاظ بما تبقى من جثمانه..

–            قاموا بتحليل المتبقي من خلال تقرير علمي عالي الدقة، لدرجة أنهم عرفوا توقيت كل طلقة وماهي الطلقة الأخيرة. كان أمرًا مهولًا. الآن ماأود قوله هو، ومن خلال هذا المثال، أن حماس المثقفين والشباب كان مليئًا بالحركة والحرية، لدرجة أنهم دفعوا حياتهم ثمنًا لذلك في مناسبات عديدة.

–            أنطونيو سكارميتا، الفترة التي قادت إلى انتخاب سلفادور الليندي كانت الفترة التي جرت فيها أحداث روايتك الأشهر “ساعي بريد نيرودا: صبر متأجج”. ولعل العنوان الأكثر شهرة عند القراء هو “ساعي البريد”، وذلك بسبب الفيلم الجميل الصادر سنة 1994 “Il postino”. القصة تستعرض أحد أيقونات تشيلي الثقافية، وهو الشاعر بابلو نيرودا. هل كنت تكن قدرًا كبيرًا لنيرودا، كشخص وكشاعر؟

–            نعم، ولازلت. من بين العديد من الشعراء في كلا الأمريكتين، يبقى نيرودا شاعري المفضل بفارق بعيد عن غيره. وكان أيضًا من تشيلي، وهذا سبب آخر لكي أحبه. لذلك كتبته، وأحببته ككاتب وقارئ، بدأت بدراسته بشكل عميق، ودرَّست شعره لطلابي حينما كنت أستاذًا مساعدًا بالجامعة. عندما نشرت كتابي الأول، قررت الذهاب إلى إيسلانيدا، وهي قرية صغيرة ساحلية تبعد 200 كيلو متر عن سانتياجو، وأخذت معي كتابي الأول. كان عبارة عن مجموعةٍ قصص قصيرة بعنوان: “الحماس”، كان ذلك العنوان مقصودًا. لاحظت في ذلك الوقت أن كل النثر في تشيلي هو نثر محافظ، كئيب، مليء بالشخصيات المسنة والتي تحتضر. وأردت أن أظهر للناس أن الحياة رائعة، وتبعث على الحيوية والمرح والأمل والمغامرة، أردت أن أظهر ذلك منذ بداية الكتاب، أي الغلاف. أخذت الكتاب إلى نيرودا، وطلبت منه أن يقرأه. قال لي:”حسنًا أيها الشاب، أود أن أقرأه، ولكن ليس الآن. سأقرأه خلال شهرين، عد بعد شهرين وسأخبرك حول رأيي في الكتاب.”، لكني عدت بعد أسبوعين. طرقت الباب، وعندما أتى نيرودا إلى الباب قلت له:”مرحبًا، هذا أنا. هل قرأت كتابي الأول، الذي أهديته لك؟”، رد علي بـ:”نعم، قرأته.”، لم أستطع الانتظار فقلت:”ومارأيك به؟”، نظر إلي وقال: “جيد.”، من دون أي حماس. لكن، مجرد سماعي كلمة “جيد” من شفتيه كان كافيًا ليجعلني سعيدًا. كدت أن أقفز من الفرحة، ولكن نيرودا – وأتذكر ذلك جيدًا – أتبع قائلًا: “ولكن، ماقلته لايعني شيئًا. لأن كل كتابٍ أول لمؤلفٍ تشيلي هو كتاب جيد.”

–            (تضحك) .. هل استمررت بالتعرف عليه شخصيًا؟ أو أمضيت وقتًا معه؟

–            يظن بعض الناس من خلال روايتي والفيلم المقتبس عنها أنني صديق حميم لنيرودا، بينما في الحقيقة لم أكن كذلك. طوال حياتي لم أرَ نيرودا سوى اثنتي عشرة مرة تقريبًا، فيما عدا ذلك لم أره على الإطلاق، ولم أزره بشكل منتظم. في نهاية حياته، عندما كانت الحكومة برئاسة حزب “وحدة الشعب”، خضنا عددًا من الاجتماعات المتكررة لنرى كيف يمكن للمؤلفين المبدعين والفنانين انقاذ حكومة سلفادور الليندي من كارثة محققة. لذلك كتبنا منشورًا مشتركًا إلى المجتمع الدولي نطلب فيه المساعدة لتجنب الانقلاب، ووقتها قابلت نيرودا مرات أخرى. في مرات عديدة، حينما كنا نجتمع مع نيرودا، تكلمنا عن أشياء لايتكلم عنها المثقفون عادةً. تكلمنا عن علاقات حبنا في الماضي والحاضر، عن شعراء آخرين يعيشون في سانتياجو وعلاقات الحب التي لديهم، عن الرحلات، عن أعداء نيرودا، وعن شعراءٍ يكرههم نيرودا. اعتدت أن أمازحه بأن أحور بعض الكلمات في شِعره لتظهر قصائده بشكل مضحك. كانت علاقة جميلة في ذلك الوقت لأني كنت صغيرًا في ذلك الزمان ومستقلًا. لم أنتمي لأي حزب سياسي، وهو كان شيوعيًا حادًا. كانت العديد من مقابلاته مع رؤساء حزبه والعديد من الشخصيات الدولية تتسم بالجدية، لذلك حينما كنت أقابله كان يعلم بأننا سنحظى بالكثير من المتعة والضحك. وربما لهذا السبب كتبته في “ساعي بريد نيرودا” بتلك الشخصية الظريفة، وأعتقد بأنها أتت من تجربتي وأحاديثي معه. لايشك أحد في أن نيرودا الحقيقي كان رجلًا كبيرًا بشخصية مؤثرة، بينما نيرودا الذي في الرواية كان يُرى بعيني ساعي بريد حالم في قرية تشيلية.

–            من ضمن الرسائل التي أتى بها ماريو إلى بابلو نيرودا، كانت هناك برقية من الحزب المركزي الشيوعي تفيد بترشيحهم له للرئاسة، وهذا ماحدث بالفعل سنة 1970 إلى أن تنازل عن ترشيحه وقام بدعم سلفادور الليندي. وهناك العديد من الأحداث الحقيقية الأخرى، كرسائله الدبلوماسية إلى أصدقائه، وحيازته لجائزة نوبل عام 1971. ماالذي دفعك إلى طرح هذه المعالم بأعين سكان شبه أميين من تشيلي ..

–            (مقاطعًا) لأن تلك الأحداث كان لها تأثير في حياتي، حياة نيرودا، والحياة في بلادي عمومًا. الرواية نفسها تُعد استعارة أيضًا، تلك الاستعارة تعبر عن الحياة الغنية بالأحداث في تشيلي خلال فترة قصيرة جدًا من الزمن. وبما أن الرواية بأكملها مبنية على علاقة بين شخصين غير متكافئين، قررت أن أستخدم هذه الأحداث المتصلة: انتخاب سلفادور الليندي، ذهاب نيرودا إلى باريس، ومن ثَمَّ الإنقلاب؛ في النهاية تلك النهاية المأساوية لماريو خيمينيث ساعي البريد. وكل تلك الأحداث كان لها تأثيرها في بلادي.

–            لأننا نرى في غلاف الرواية الخلفي تلك الأزمات والمعارك الوحشية التي جرت سنة 1973، والتي دمرت أحلام نيرودا والكثيرين غيره بتشيلي ماركسية واجتماعية، كيف كان تفاعلكم تجاه الأحداث التي مرت على نيرودا خلال تلك الفترة، من مرضه وحتى العناية به في المستشفى والهجمات على منزله، وغيرها؟

–            في أيام الإنقلاب، ومنذ أيامه الأولى، كنا نأمل بغد أفضل. في تلك الأيام المأساوية كان الكل يريد أن ينجو بحياته، كانوا يركضون ويختبئون ولم يعيروا اهتمامًا كبيرًا بمن لم يقطن سانتياجو. كان نيرودا يعيش وقتها في إيسلانيدا. بالمناسبة دعيني أخبركِ أمرًا، تُوفي نيرودا بعد عشرة أيام فقط من الإنقلاب، عشرة أيام من موت سلفادور الليندي. وحين مات، أحضر جثمانه إلى سانتياجو في سيارة إسعاف. وصلت جثته في المستشفى، وفي اليوم التالي حضرت جنازته. في ذلك الوقت، كان كل من يرتبط به في خطر، لأنه كان من المحتمل أن يقتل. هكذا بكل بساطة. في يوم الجنازة، قدم العديد من الأشخاص لمرافقة جثمان الشاعر إلى المقبرة. أعتقد بأن كل من مشى مع الجثمان إلى المقبرة هو بطل وعلى قدر كبير من الشجاعة، لأنه يخاطر بحياته وأكثر من ذلك. عندما وصلت الحشود إلى المقبرة، بدأت بغناء “النشيد الشامل”.

–            هل كنت هناك؟

–            لا، لم أكن هناك، كنت مختبئًا. أعتذر، لست من هذا النوع من الأبطال أبدًا، وأقر بذلك. أحترم كل من ذهب إلى هناك في ذلك الوقت. كنت أفعل شيئًا آخر، ليس بذلك الشيء الاستفزازي كمرافقة الجثمان، كنت مشتركًا بنوع آخر من المقاومة، وليس بذلك البطولي. كنت بالاشتراك مع عدة رفاق نخبئ بعض الأشياء المهمة.

–            أنطونيو سكارميتا، تغيرت حياتك بشكل متسارع بعد الانقلاب على سلفادور الليندي في سبتمبر سنة 1973، أرغموك على مغادرة تشيلي، ماالذي حدث لك بالضبط؟

–            ليس من الدقيق أن نقول بأني أرغمت على مغادرة تشيلي. في ذلك الوقت، اعتقدت بأنه من الأفضل أن أغادر البلاد، لأنه لم تكن هناك إمكانية للكتابة بحُرية. لم تكن هناك صحافة مستقلة، الكتب كانت ممنوعة، طرد الأساتذة من جامعاتهم، كنا بلا وظائف. سألت نفسي:”ماالذي أستطيع فعله هنا؟” ولم أعرف الإجابة، لذلك قررت الرحيل. ذهبت إلى برلين الغربية، لأن مدير الجريدة التي أعمل عندها في ذلك الوقت أعطاني تذكرة، وعرض علي منحة لكتابة نص فيلم كان يخطط له. ولهذا السبب انتقلت إلى ألمانيا. في ذلك الوقت، لم أعرف كلمة ألمانية واحدة، والمضحك أنني كنت أدرس الفلسفة، وفي ذلك الوقت كانت لفلسفة مارتن هايدغر شعبيتها، وكنت خبيرًا بها. كنت أعرف بعض الكلمات التقنية الفلسفية بالألمانية بينما لاأستطيع قول نعم أو لا بالألمانية.

–            إذًا لم تشعر بالتهديد لو بقيت في تشيلي؟

–            لا، شعرت بالتهديد والرعب. والسبب أن بعض أصدقائي ممن بقوا، وكانوا معي في نفس الجامعة ويشاطرونني نفس الأفكار، قد أحضروا إلى السجن، وتعرضوا للتعذيب. واحد منهم قد قتل، رأيت بعضهم وهم يقفزون أسوار السفارات الأجنبية ليهاجروا من البلاد. لذلك أعتقد بأني قد قمت بحركة ذكية حين غادرت.

–            هل كانت لديك فكرة حينما قدمت إلى برلين، بأن إقامتك ستطول؟

–            في أول الأيام، لا. كنت محطَّم المشاعر، ولم أعتقد بأن عنفًا كهذا سيطول. وأن هناك حلًا قريبًا لتشيلي. لكن مع السنوات، أيقنت بأن الحل سيستغرق سنين عديدة. منذ البداية قررت أن أفتح قلبي وعقلي للثقافة الأجنبية: تعلمت اللغة الألمانية، قرأت الرومانسيات الألمانية، بدأت العمل لصناعة الأفلام الألمانية، قمت بمقابلات، قررت أنه إذا كنت أريد الحرية لبلادي، فعلي أن أخبر العالم بما يحدث هناك، وهذا بالضبط مافعلته، فعملت بجد. أخبرت الإعلام بمشاكلنا وخيبتنا، وحاولت أن أثير التعاطف لمن يناضل في تشيلي من أجل الحرية، وساعدت في إنشاء بعض المعاهد لنشر الثقافة الديمقراطية.

–            ماأصعب شيء مر عليك خلال تلك الفترة؟ ماهو أكثر شيء افتقدته؟

–            كان يمور في داخلي حزن عميق، فتشيلي بلد جميل مليء بالأمل، ولايستحق كل هذا العذاب. مجرد التفكير بالأشخاص المعذبين في تشيلي يجعلني أمرض. كان خليطًا من الحزن والقهر، وفي نفس الوقت، تذكرت بأنه كانت لدي عائلة في تشيلي السابقة، كانوا راضين بمكانهم وبماهم يعيشون فيه، وكتبت عن ذلك في ساعي البريد، وبعدها ذلك الدمار التي امتد. بعدها قررت أن أكتب وأنا أنظر لأولادي، الأمر غريب لأن أول قصة كتبتها في برلين كانت بعنوان “لم يحدث شيء”، وهي قصة عن تجربة قهر بعيون فتى له خمسة عشر عامًا فقط. بصوته، أعتقد بأني كتبت القصة من زاوية مختلفة. لأن قصة العائلة بأكملها ومسارها، مكتوبة بشخصية ساذجة، ومن دون ذلك النفَس الكئيب لأدبيات القهر. لذلك استطعت أن أكتب شيئًا غير اعتيادي في ذلك الوقت. قصة حول القهر لكن بطابع أقرب للكوميديا، ونجحت.

–            أنطونيو سكارميتا، عشت في برلين الغربية مابين 1975 إلى 1989، حينما عادت تشيلي للديمقراطية بعد 14 عامًا من الحكم العسكري. هل رأيت أنه من المناسب أن تعود إلى هناك بمجرد عودة الأمور إلى نصابها؟

–            غادرت برلين إلى تشيلي لأن شيئًا مثيرًا قد حدث: الناس قد استعادت حريتها من بينوشيه. كان الموقف جنونيًا، لأن بينوشيه اعتقد أنه سيفوز ضد خصمه، بينما اكتفى خصمه بطرح سؤال بسيط: “هل ترضون بأن يحكمكم لثمان سنوات أخرى؟”، كان واثقًا لأن الإعلام كان يعمل على صنع بروباجاندا له، والتلفزيون كان يذيع لصالحه، أمضى في الحكم خمسة عشر سنة دون منافس، لذلك اعتقد أن الأمر سهل، وأنه سيفوز لا محالة. قامت الأحزاب السياسية المعارضة، بمساعدة العديد من الطلاب والفنانين والمؤلفين ، بحملة رفضٍ بديعة، مليئة بالمرح، وبأمل أن يسقط بينوشيه. كان الأمر مفاجئًا، وسقط بينوشيه، وها نحن ننعم بالديمقراطية إلى اليوم. إذًا، عدت لتشيلي بعد الحملة، لكن الحملة كانت تهمني، لأنها أرتني كيف يمكن لها أن تصنع القوة التي غيرت المجتمع.

–            خلال مكوثك في برلين، هل استطعت أن تزور عائلتك وأصدقائك في تشيلي؟

–            مرة واحدة فقط، وكانت تجربة سيئة سنة 1985، في تلك السنة اختُطف ابن ممثل كنت أعمل معه من قِبل شرطة بينوشيه، وقتل. قاموا بنحره. كنت صديقًا جيدًا لأبيه، وتسبب ذلك الحادث لي بألم فظيع ذلك الوقت، مرت قبل تلك الحادثة اثنا عشرة سنة على الانقلاب. مرت تلك السنوات الثقيلة ومازالوا يقتلون الناس بتلك الطريقة الوحشية. في تلك اللحظة فقدت الأمل باسترجاعنا للديمقراطية. لكن غيرت رأيي بعد سنتين، حينما رأيت الجماهير تتحرك للخلاص.

–            روايتك الأخيرة المنشورة بالانجليزية دارت حول فترة الديكتاتورية في سانتياجو، والعنوان الإنجليزي للرواية هو “الراقصة واللص”، تحوي مفاهيم عديدة حول الجاسوسية والخيانة والتعقيد في العالم الذي صنعته، سقوط نظام بينوشيه واسترجاع الديمقراطية، وتغلب الخير على الشر، هل يمكنك أن تحدثنا حول الإلهام لكتابة هذه الرواية؟ وماالذي أردت أن تستعرضه وتريه للقارئ؟

–            عندما عادت الديمقراطية، كانت هناك العديد من المشاكل التي لم تحل. هناك ناس عانوا ولاسبيل لاسترجاع مافقدوه. وهذا بالضبط ماحدث في “الراقصة واللص”. شخصية الرواية الرئيسية هي طالبة في المرحلة الثانوية، تود أن تنهي دراستها وتصبح راقصة محترفة. تعلمت الرقص في أكاديمية جيدة، ونجحت بالأكاديمية وقامت بالرقص على مسارحٍ شهيرة في سانتياجو وبوينس آيرس. كانت هذه الشابة تعاني لأنها لم تجد قوى لمساعدتها على إكمال الطريق، فيكتوريا – وهذا هو اسمها – هي ابنة رجل قتل في زمان الديكتاتورية، وأكملت حياتها من دونه، وأمها امرأة مكتئبة لم تعرف ماالذي تفعله بعد أن قتل زوجها في ظروف قاهرة. ومن المحتمل أن فيكتوريا لن تدرك حلمها في أن تكون راقصة محترفة. إذًاً، هي شخصية تعاني من ظلال الماضي، بكل ذلك الحمل على كتفيها، وبكل ذلك الإكتئاب. وجدت هذا الإكتئاب في عدة أشخاصٍ في تشيلي.

–            عندما طُردت من المدرسة، كان أحد المدرسين يذكر البقية بمقتل والدها وكيف تم. ردت المديرة بأن “ذلك الأمر حدث قبل 17 سنة، والآن تشيلي ديمقراطية منذ زمن. متى نتوقف عن لوم بينوشيه بكل شيء؟”، وهنا يبرز سؤال معقد، ماهي رؤيتك؟

–            لايمكن للديمقراطية أن تكون  كاملة. لكن، في بلد يعيش ديمقراطيته الأولى بعد حكم مجرم سفاح، يقتل الناس ويفكر بطريقة مختلفة كما يعتقد، من يرسل الناس إلى المعتقلات، من يعذب، لاتستطيع القول بأنه لايلام. في تشيلي الآن هناك حكومة اجتماعية ديمقراطية لعشرين عامًا، وعما قريب سيكون هناك تغيير. الحكومة الجديدة ستنصب خلال الأيام القادمة وهي ممثلة للجبهة اليمينية، والتي تدار من قبل أشخاص عملوا مع بينوشيه. لابأس، لايهمني الأمر، ولاأمانع، ويمكنني أن أسامح وأنسى. لكن، سيكون الأمر مختلفًا. لأن الديمقراطية التي فرضت نفسها بالقوة ستُستخدم من قبل ناس دعموا بينوشيه. لابأس، يجب أن أتعايش مع هذا الأمر لأنهم تغيروا، ويجب أن نثق فيهم. لكن، هناك فرق حينما نختلف في آرائنا بمناخ ديمقراطي، وبين اختلافنا أيام بينوشيه. قتل بينوشيه مع رفاقه كل من يعارضونه محاربًا للديمقراطية. الديمقراطية أمر جيد حتى مع رفاق بينوشيه.

–            عندما أعود وأقرأ تاريخ تشيلي أيام الانقلاب، أجد أن هناك بلدًا مقسمًا، وتفاوتًا مهولًا في الطبقات. إلى أي مدى ترى البلد حاليًا في انقساماتها؟ هل لازالت تعيش الماضي؟

–            لا، لم تعد كذلك. أعتقد بأن الأشخاص التي قسوا على المجتمع قد تغيروا، وتضرروا بما يكفي من نظام بينوشيه. هم الآن مقتنعون بأن الديمقراطية هي النظام الأمثل لحكم البلاد، وقد طوروا الآن اقتصادًا مذهلًا على النقيض من الموجود أيام الديكتاتورية، وهم الآن مقبولون أمام العالم. أؤمن بأن هناك مستقبلًا أفضل لتشيلي، الأشخاص الذين لم يتواصلوا فعلوها الآن بسبب الديمقراطية منذ عشرين عامًا وهم يجنون ثمار مافعلوا.

–            كانت فرصة رائعة لأني قابلتك، شكرًا جزيلًا.

–            شكرًا لكِ، وأرجوك أن تعذري إنجليزيتي.. كنت عائدًا للتو من زلزال.

–            (تضحك).

أنطونيو سكارميتا

إليانور واكتيل