سنة حلوة يا هاروكي

السلام عليكم،

نشرت مقالًا مترجمًا لأحد كتّابي المفضلين، هاروكي موراكامي، عن جدوى القص وما يعيشه على المستوى الذاتي من أجل الكتابة.

الرابط من هنا، وأتمنى للجميع قراءة ممتعة.

نوعا الأحياء – نيل كوني

يقتتل السيد سييراكاوسكي والسيد إدواردز في الشارع، والغلبة لصالح السيد إدواردز الآن، إذ يمكنني رؤية الدم ينزف من أنف السيد سييراكاوسكي، إضافة إلى دم آخر على وجهه ولا أدري ما مصدره. السيد إدواردز أكبر سنًا وأسمن قليلًا، فلذا من المفاجئ رؤيته يقاتل بهذه البراعة. لا أدري إذا كان المتفرجون الآخرون (بمقدوري رؤية القليل منهم) متفاجئين مثلي بذلك أو بالقتال كله من الأساس.

لا أظن أن قتالًا قد نشب من قبل في حينا (إنهما يعانيان الآن، إذ لا توجد العديد من اللكمات، بل كثير من المناورات وشد الأذرعة واللكمات الطائشة التي لا تقترب من الآخر أصلًا، وكأن كل واحد منهما يحس أن يد الآخر مكسوة بما هو أخطر من الجلد.)، ولدي افتراض بأن الأحياء نوعان: أحياء يشيع فيها القتال وأخرى لا يشيع فيها. حينا من النوع الثاني.

ما عدا – من المضحك رؤية الفئات وتأثيرها (يتلقى السيد إدوارد العجوز لكمة جيدة في الفك ويسقط أرضًا على مؤخرته) لأن بإمكان المرء القول إن الأحياء نوعان: أحياء تُستدعى فيها الشرطة حين نشوب قتال، وأخرى لا تُستدعى فيها. هل يُحسَب الاتصال بالشرطة محاولةً لإيقاف القتال؟ أفترض أن الأحياء نوعان -.

ينهض السيد سييراكاوسكي ويضطجع إلى جانب السيد إدواردز على الأرض، ولعل مرد ذلك إلى أنه سمع صفارات الإنذار أو أنه رأى ما فعله به حين توقف عن الدفاع عن نفسه أو التحرك بالكلية. ها قد وصلت الشرطة: ثلاث سيارات.

الموجود ثلاثة سيارات وستة عناصر شرطة. يخرجون جميعًا من السيارات، لكن اثنين فقط يقتربان من المتعاركَين. يبدو أن عناصر الشرطة متعَبون مثل مدرسي الحضانة، إذ يقبلون بما يكاد يستحيل تغييره ويتحلون بذات قلة صبرهم مع البراءة.

يمشي أحد عناصر الشرطة إلى الآنسة سميثسون التي تخاطبهم بغضب منذ خروجهم من السيارات. تعيش الآنسة سميثسون بين الرجلين، وعمرها في بداية الثلاثينات وتعمل في العقار – على ما أظن –. لا أدري ما علاقتها بالقتال، لكنها حزينة للغاية. لا يمكنني سماع ما تقوله من النافذة، إذ لا يصل عبر الزجاج إلا همهمات، فأفتحه.

“لا أعرف!”، تقول بينما يواصل الشرطي حديثه أثناء الاستجواب، “لا أعرف! لا أعرف!”

يضع الشرطي يده على ذراعها ويتحدث معها بهدوء، فيتمعّر وجهها بما يشبه القرف وتسحب ذراعها من يده، فيعتريني شعور بالخوف جرّاء فعلها ذلك، إذ أخشى أن يعتبره اتهامًا بكونه يلمسها بطريقة ليست ملائمة للمس أي أحد، فيغضب بسبب ذلك لأنه يحاول تهدئتها فقط. لكن لا يمكن لأحد لومها على رفضها لمسة من غريب مسلح. ينظر إليها الشرطي للحظة بينما يقرر أمرًا فيرجع ويذهب إلى زميله الذي ما زال يراقب الرجلين المضطجعين في الشارع.

تصرخ الآنسة سميثسون على الشرطي الذي مشى سلفًا “لا تلمسني! لا تلمسني!”

يتلفت الشرطي. يمكنني سماعه الآن، إذ يقول “أنا آسف، الخطأ خطإي. لكن أرجو منك أن تهدئي.”

“أهدأ؟ لا تضع يديك علي ثم تطلب مني الهدوء!”

لا يرد الشرطي بكلمة، بل يعين السيد سييراكاوسكي على النهوض. لربما أن السيد سييراكاوسكي سعيد بالدم على وجهه الآن نظرًا للحالة التي يبدو عليها السيد إدواردز، أما السيد إدواردز فراقد على الشارع مثل النائم وأطرافه ممتدة بما يكاد يشي بالأبهة.

يسأل زميل الشرطي “ما مقدار معرفتك الرجلين؟” مشيرًا إلى الآخرين طلبًا للمساعدة بينما يومئ برأسه تجاهها على أنه سيتولى أمرها. أسمع صفارات الأسعاف بسرعة أكاد لا أصدقها.

أما الآنسة سميثسون فلا تجيب، بل تجلس على المرج – ويا لها من حركة، حيث فيها نوع من اليوغا، إذ أن رجليها متقاطعَين بينما مؤخرتها تلمس الأرض. – فتشرع بالبكاء، وبصوت عال ومطلق العنان، فيقترب الشرطي منها.

يقول بصوتٍ يسمعه الجميع “سيدتي؟ هل يمكنني الجلوس معك؟”

تومئ باكيةً ثم تقول “لا يمكنه فعل ذلك. لا يمكن له فعل ذلك كما يريد.”

ثم يحدث أمر ما. إذ يجلس الزميل بجانبها على المرج وتبدأ الحديث، فيخرج دفترًا صغيرًا من جيب معطفه. إنها تبكي مصرحة بأمر فظيع، ويمكنني رؤيتها بينما تخبره بكل شيء.

شياطيني – براين دويل

ذات مرة حين كنت في السابعة من عمري، وضعت خالتي يديها عليّ وحاولت طرد شياطيني. لم أكن واعيًا بأن فيّ شياطينَ، وقلت ذلك بتردد، بما أنها كانت امرأة حازمة. فقالت: من المؤكد أن فيك شياطين، وقد بدأت بالتجلي الآن. لم أفهم ما معنى التجلي، ولم أقل ذلك أيضًا. حركت يديها من رأسي إلى كتفيّ وصدري ثم عادت إلى رأسي مرة أخرى. أردت أن أسأل عن مكان عيش الشياطين وكم عددها وما شكلها، وعمّا إذا كانت تعرف إبليس شخصيًا، وهل كان مجرّد صالحٍ شطحَ ذات مرة أو غير ذلك، لكنها كانت منغمسة وعيناها مغلقتان، ولم تكن امرأة تُقاطع في أثناء عملها.

فتحت عينيها بعد مدة، وسألتها إذا ما رحلت الشياطين، فقالت: سنرى ذلك، سنرى ذلك. حتى في تلك اللحظة كنت أعلم أنه إذا قال أحدٌ ما جملةً مرتين، فهذا يعني أنه غير متأكد منها. وكنت أتعلم عدة مرات أن ما يعنيه الناس لا يطابق ما يقولونه إطلاقا. فكلمة ربما تعني لا، وسيعطينا الرب تعني أن الرب لم يعطِ بعد، وخذ راحتك تعني أسرع. كان من الصعب تعلم جميع كل اللغات التي يتحدث بها في منزلنا. إذ كانت هناك اللغة الأمريكية اللينة التي نتحدث بها جميعًا؛ وهناك لغة سكان الأنهار الآيرلندية المتلوّية التي يتحدثها كبار السن إذا ما غضبوا؛ وهناك لغة النساء الباردة مثلما ينطق جاك سبارو، التي كانت تتحدثها أمي وجدتي وخالتي وبقية نساء الحي؛ وهناك أيضًا لغة المزاح الخليعة التي يتحدث بها الآباء الآخرون مع أبي حين يأتون إلى حفلة شُرب. كما أن هناك اللهجات التي يتحدث شخص واحد بها فقط، مثل أختي التي كانت تتحدث بلغة فاترة متعجرفة مثل مواء قططها، أو أصغر إخوتي، تومي، الذي كان ينطق بكلمة “تومي” ولا يفهمها إلا هو وأختي. كانت تترجم ما يقوله غالبًا، وكان يتحدث على ما يبدو في أغلب الأحيان عن الجبنة وأقلام التلوين.

ظللت أتجول بقية اليوم تحت شعور بأني ممتلئ بالشياطين، بالإضافة إلى غثيان طفيف جراء ذلك. خمّنت بأنه لا بد من أنهم يعيشون في معدتي أو رئتيّ، لأنها الأماكن الوحيدة بداخلي التي يوجد بها الهواء. سألت أكبر إخوتي عما إذا كانت الشياطين تحتاج إلى الهواء مثل الناس، فقام بإشارة بيده تعني اذهب بعيدًا الآن. كانت إشارات اليد لغة أخرى في عائلتنا، وكانت أمي أفصح المتحدثين بها. فإذا قلبت يدها مرة واحدة فهي تعني اذهب واجلب سجائري، وإذا قلبتها إلى الجهة الأخرى فهي تعني أن ما قلته للتو سخيف إلى درجة أنني لن أهتم بتوضيح غبائك. وما زالت هناك إشارات أخرى تعني لا يهم، أو سيظل الحال هكذا لألف عام، أو خذ أصغر إخوتك معك ولا تحاول أن تدفعني للحديث معك بشكل سيء عن ذلك.

انتظرتُ حتى وقت النوم كي أسأل أمي عن شياطيني. كانتْ ستقوم بإشارة اليد التي تعني سنتحدث عن ذلك في وقت آخر لولا أنها رأت وجهي القلق، فتوقفت وجلستْ ثم تحدثتُ إليها عن خالتي ووضع اليدين. نطقت أمي بأصوات غير مفهومة في حنجرتها ثم تكلمت عن أختها كما لو كانت شجرة نفحصها من عدة زوايا. قالت إن أختها الحبيبة امرأة تقيّة بشكل رائع ولم تنوِ إلا خيرًا، ولها قلب أطيب من أي أحد أقابله، وأنها كانت أنبه إلى ظهور الشياطين أكثر من أي شخص عرفته أمي، وأن عليّ تقدير إيمانها العميق – فعلينا جميعًا أن نكون ملتزمين ومكرسين وشغوفين كما كانت – لكن الحقيقة هي أننا لم نكن ملتزمين بنفس قدر التزام خالتي بالمسؤوليات الأبعد، مثل وضع الأيدي لطرد الشياطين. سألت: هل لديك أدنى فكرة عمّا أقول لك؟ فقلت بتردد إنه ليست لدي فكرة، لأني لم أرد منها أن تتوقف عن التحديث بجمال وبأسلوب مسلٍّ هكذا، فوضعت يدها على جبهتي وأخبرتني بأنها تحبني وأن الآن موعد السرير، فمن الأفضل أن أقفز إليه، وهذا ما فعلتُه. وبينما تغادر، قامتْ بإشارة بيدها تعني إن لم تفرّش أسنانك وحاولت أن تتظاهر بأنك فعلت، سأعرف أنك تكذب ولن ينتهي الأمر على خير ثم ضحكتْ، فضحكتُ، وفرّشت أسناني.

الاختيار – وايلاند هيلتون يونغ

جلب ويليامز كاميرا وآلة تسجيل صوت وتعلم الكتابة السريعة بخط اليد قبل ذهابه إلى المستقبل، وفي تلك الليلة، لمّا بات كل شيء جاهزًا، أعددنا القهوة وأخرجنا شراب البراندي والأكواب لحين عودته.

قلت له: “إلى اللقاء، لا تطل المكوث.”

“لن أفعل”.

راقبته بحذر، وسرعان ما أومض مختفيًا ثم عاد. لا بد أنه هبط بطريقة مثالية في نفس الثانية التي ذهب خلالها، إذ لم يبدُ عمره أكبرَ من يوم، وقد توقعنا أنه سيمضي عدة سنوات.

“ماذا حدث؟”

“في الواقع.. لنشرب قليلًا من القهوة.”

سكبت القهوة بينما أعاني في تمالك أعصابي، وما إن أعطيتها إياه حتى قلت مجددًا “ماذا حدث؟”

“في الواقع، ما حدث أنه.. لا أستطيع التذكر.”

“لا تستطيع التذكر؟ أي شيء؟”

حاول للحظة ثم أجاب حزينًا “ولا شيء.”

“لكن ماذا عن ملاحظاتك؟ الكاميرا؟ آلة التسجيل؟”

كان دفتر الملاحظات فارغًا، والمؤشر على الكاميرا موضوعًا على رقم 1 حيث وضعناه، والشريط لم يوضع أصلًا بداخل آلة تسجيل الصوت.

سخطت قائلًا “لكن، بحق السماء، لماذا؟ ما الذي حدث؟ ألا تستطيع تذكر أي شيء على الإطلاق؟

“أستطيع تذكر حدث واحد.”

“وما هو؟”

“لقد رأيت كل شيء، ومُنحت الخيار بين تذكره أو عدم تذكره بعد أن عدت.”

“واخترت عدم التذكر؟ لكن يا للفرصة العظيمة لو…”

“أليس كذلك؟ لا يملك المرء إلا التفكير بسبب..”

نفس القصة – باري غراهام

كان منزل الجيران كبيرًا وذا جدران بلون القشدة وغرف لا نفع منها مملوءة بالآرائك ورفوف الكتب الفارغة وأسطح طاولات مليئة بقطط خزفية سيامية. تعودنا على لعب الغميضة مع الفتاة الصغيرة التي عاشت هناك وحوض الاستحمام المكسور في حمام الطابق العلوي على أنه منطقة الحماية. وخلال يوم ما في أحد غرف النوم، وتحديدًا ذات الستائر الذهبية المجعدة، وصور القرية الشهيرة عقب الفيضان الكبير، عثرنا على جدتها معلّقة بواسطة حبل ثخين متصل بدعامة سقف. قالت الجرائد إنها فعلت ذلك لأن أمها فعلت ذلك، إضافة إلى أم أمها، وأم أم أمها قبل ذلك، وصولًا إلى عام 1846 حين اقتاد صياد جوائز جدتهن الكبرى إلى المشنقة لكونها دعمت سكة الحديد تحت الأرض. أما نحن فصدّقنا من القصة ما شهدناه بأعيننا فقط، أي السيدة العجوز معلقة هناك بلا حراك بعباءة نومها الرمادية الخفيفة وبشرتها المزرقّة وبلا سروال. لمسنا ساقيها ثم قدميها الميتتين وفكرنا بإبلاغ شخص ما لكننا لم نبلغ. بل أغلقنا الباب وعثرنا على مكان آخر للاختباء، بداخل خزانة أو بين الأرفف، أو خلف مجموعة من الصناديق مكتوبٌ عليها “قطع أثرية”.

اعتراف حارس حديقة الحيوان – تشيلسي بايوندويلو

عليكم أن تفهموا أن التعامل مع الأسود معقّد، إذ لم نقصد الأذى. فحين بدأ الأسد – الموجود، الحقيقي – السعال، أعطيناه شرابًا وحبوب أسبرين، لكن لم يفلح أي شيء. عددْنا الأيام وأخذنا ندعو، لكنه مات مع ذلك.

لكن ما حديقة الحيوان دون أسد؟ لا أحد يأتي إلى حديقة الحيوان من أجل جنازة.

ملأنا الاستمارات وأرسلنا الاستعلامات. كان هناك أسد جديد قادم، سنحبه أكثر حتى من الأسد القديم الذي يستهلك ولا يمكن إصلاحه. سيكون الأسد الجديد قويًا، وسيحبه الأطفال ويغدو محط حسد الجميع. يا للأسد الجديد الضخم!

مع لك، ما زال المربع الاسمنتي الشبيه بإفريقيا موجودًا وتحيط به الحشائش الصفراء، فاحتجنا إلى شيء ما يغطي فراغ عدم وجود الأسد لدينا.

اقترح حارس النمر أجمة من الشعر الأصفر العالق خلف حجر، لكن كيف يمكننا نقله في النهار دون أن يلحظنا أحد؟ فالأسد يجول المكان ولو كان كسولًا.

عندئذٍ وزع حارس الفلامنغو علينا صورة كلبه.

كلب! من كان لينطلي عليه ذلك؟ لكن لهذا الكلب شعر ذهبي ومنظر يوحي بالنبل، وكنّا بعيدين للغاية عن أراضي الأسود، فمن سيدري؟

كان “أسدنا” لسبعة أيام أسدًا طيبًا، وملكًا على نحو ما، حتى أتى طفل ذو لثغة بحرف السين – مثل حارس الفلامنغو – فأطلق صيحة (بداعي الدهشة) فظن الأسد أن صاحبه أتى أخيرًا، فقفز وأطلق أصفى نباح، ولا يمكن لأحد أن يلومه.

مع ذلك أود توضيح أمر واحد: كان الكلب قيد تغذية كريمة، ونبح حبًا لا جوعًا كما ظنّ البعض؛ فقد أوليناه اهتمامًا كما لو أنه أسد حقيقي، بل ربما لدرجة أفضل.

تتبع الحرب – بابلو بينييرو ستيلمان

عُثر على خمسة عشر رأس مقطوع في مكسيكو سيتي خلال الأسبوع الذي زرت فيه أبي. جلسنا نشاهد الأخبار على التلفاز مثل عدة سنين ماضية حين كنا نشاهد بطولات كأس العالم وأفلام سلفستر ستالون.

قال “ليس لدي تعليق”، وما كان في زمنٍ ما بطن أبي الساحر صار قبّة هائلة وأخًا أكبر لرأسه الأصلع، ثم أردف “لا أعلم ما إذا كان السبب أن الرجل في هذه السن يفقد قدرته على التفكير بوضوح أو أن من العبث المحض محاولة الحصول على رد مني. لكن ليس لدي أي رد على الإطلاق بشأن ذلك.”

قلت “أعتقد أن الأمر شر وحسب” بصوت بدا سخيفًا وأكدت على ذلك قناعتي بسخافته فيما بعد، دونما تصديق الكلمات ولو خرجت من فمي.

شاهدنا تقريرًا حول رأس معلّق فوق جسر مشاة، وآخر مغروسًا على سارية علم بينما يرفرف الأحمر والأبيض والأخضر تحته، ورأسان محترقان – صلبان ومتغضنان ولا يمكن التعرف على هويتيهما – خارج مخفر شرطة، كما رأينا رأس شابَّةٍ مقطوع خلال ذلك الأسبوع.

قال أبي، الذي كان لا يُصد ولا يُرد في علاقتنا في الماضي، خلال الفاصل الإعلاني “هل ترغب ببعض التشوريزو والخبز؟ أتود بعض الفاكهة؟”، وقد بات يشعر الآن أن أقصى ما بيده فعله من أجل ابنه هو إطعامه. “لقد اشتريت كمية من سمك الرنجة اليوم. من النوع الغالي.”

كانت المرة الوحيدة التي شهق فيها وأشاح بوجهه بعيدًا أثناء تغطية الأحداث هي حين عثروا على رأس في مدينة الملاهي. كان رأسًا لرجل كث الشارب ومعلّقًا على حافّة عجلة دوّارة ونظره مصوب على المدينة. كلّما دارت العجلة اشتدّت دوخة الرأس وفُقد التركيز.

ذهبت إلى مدينة الملاهي تلك طفلًا عدة مرات.. أغلبها مع أبي.. وحدنا. كنت أحبه جدًا، وكلانا – في غالب الوقت – صديق الآخر الوحيد.

قال ذات لحظة خلال ذلك الأسبوع “أشعر وكأنني سأفقد رأسي”، وبباله أنها نكتة. شبه نكتة.

منظر التلال – لاو ما

قرأ العمدة رسالة، وكانت مكتوبة بقلم طالبٍ اسمه يانغ-يانغ في الشعبة الثانية من الصف الثالث بالمدرسة الابتدائية الخضراء. ورد نصها بالكامل كالتالي:

عمّي العمدة العزيز،

كيف حالك؟

لدي قصتان أرغب بقصّهما عليك، إحداهما سعيدة والأخرى حزينة.

القصة السعيدة أولًا. اشترى والداي منزلًا جديدًا في المبنى رقم 23 بحيّ المستقبل، ونعيش الآن في الطابق الرابع عشر. المنزل رائع ولا توجد تسربات مهما هطل المطر، وكلما وقفنا إزاء النافذة الأمامية، أشار بابا إلى منظر التلال الغربية الجميل. ومثلما تعرف، فقدرتنا على رؤية التلال هي ما وراء رغبة العائلة بأكملها شراء هذا المنزل. غمرتني رؤية التلال الخضراء بالفرحة، وأخبرت والدي بمقدار رغبتي بأن يرى عمّي العمدة مثلي! فقالوا لي إن العمدة مشغول للغاية بعمله، وعلينا دعوته، إن سمح وقته، لينضم إلينا من أجل الاستمتاع بمنظر التلال على شرفة المنزل.

لكن علي أن أقصّ عليك الآن الموضوع الآخر، أي القصة الحزينة. لم أرَ التلال منذ ما يزيد عن الشهرين. كنت أمعن النظر في تلال في بداية انتقالنا إلى المنزل الجديد، لكني لم أكن محظوظًا كل يوم، بما أنها تظهر فقط حين يكون الجو صحوًا ومشمسًا. لذا احتفظت بسجل في دفتر الرياضيات، وأقف على الشرفة كل صباح ناظرًا باتجاه الغرب. فإن رأيت التلال، أضع علامة (صح) على الدفتر، وإن لم أره فعلامة (خطأ). مرت ستة أشهر، ولا يوجد سوى اثني عشر علامة (صح) في دفتري والباقي علامات (خطأ). لم أستطع في الشهرين الماضيين رؤية التلال مطلقًا، والدفتر مليء بعلامات (خطأ). الجو رمادي كل يوم ويقول بابا إن ذلك يعود لتلوث الهواء. فيا عمّي العمدة، هل يمكن للهواء الملوث حجب منظر التلال؟ أتمنى لو أني أستطيع رؤية التلال كل يوم، لكني لا أقدر. أرجو أن تساعدني على رؤية التلال، فهلّا فعلت؟ التلال جميلة جدًا!

أعتذر لو كنت قد أزعجتك يا عمّي العمدة.

أثرت الرسالة بشدة على العمدة، فأخذ قلمه وكتب على الحاشية:

ما يقوله هذا الطفل في غاية الأهمية، إذ تحتاج عيناه العلاج. اطلبوا من الدائرة المعنية نقل الرسالة إلى المستشفى المختص، واعقدوا العزم على بذل كل جهد لأجل استعادة بصر الطفل“.

خبز يومي – سو آليسون

يضع مخبز خبزه غير المباع عند الباب عند وقت الإغلاق. الخبز طازج للغاية، ويخبز دومًا كل يوم. الخبازون أناس لطفاء للغاية، ويحبون الخَبز أكثر من المال رغم أنهم يحتاجون منه ما يكفي بطبيعة الحال للخَبز. ولا يحبون رمي الخُبز الذي يخبزونه في القمامة، ويرون أيضًا أن من المهم مد يد العون للناس ويفضلون فعل ذلك لمن يعيشون حولهم، وهذا ما بدأ فكرتهم البسيطة بوضع خبزهم غير المباع خارج الباب ليلًا لأي شخص يحتاجه، مع لوحة تفيد بأنه لأي شخصٍ يحتاجه. فيأخذه الناس، وفيهم المشردون أو من يعيش في ملاجئ أو نزل ومن بينهم طلّاب. والخبازون سعداء بالمساعدة. لكن الخبر ينتشر. فيأتي ناس أكثر فأكثر من أجل الخبز المجاني. وبعضهم بات يأتي كل يوم سواء احتاجوه أم لا. ما عاد الناس الذين يشترون الخبز يأتون لشراءه. وعذرهم أنه ليس من التدبير أن تدفع لما يمكنك أخذه مجانًا. كما أن هناك ما سيبقى موجودًا على الدوام. فلا يحتاج شخص ليراهن على الانتظار حتى نهاية اليوم حين يكون الخبز مجانيًا. فالخبز موجود دومًا. وسرعان ما صار هناك خبز كثير جدًا لأنه ما عاد هناك من يشتريه. فمن لديهم مجمدة طعام باتوا يأخذون أكثر مما يحتاجونه، وهؤلاء ليسوا مشردين طبعًا. زاد الخبز أكثر فأكثر بزيادة قدوم زبائن الماضي حين وقت الإغلاق، عندما يضع الخبازون مخبوزاتهم من الجودار والحبوب السبعة والدقيق الأبيض والبر والجبنة والزيتون إضافة إلى الخبز الإتروسكاني والخبز غير المملح وخبز السميد وأرغفتهم الدائرية والبيضاوية وخبز الشطائر ولفائف عجين مخمر وخبز مسطح وخبز باغيت وخبز مضفر عليه طبقة من البيض. صار الجميع خبراء خُبز خاصة أن الخبز مجاني، وبات بإمكانهم الاختيار بعد أن كانوا محتارين فقط بين الدقيق الأبيض والبر. وإذا لم يعجبهم ذلك أو لم يأكلوه بالكامل، فلا بأس، إذ لم يكلفهم أي شيء. بل يقدمون اقتراحات لخبراء الخبز الآخرين: جربوا السمسم مع الدخن المتشقق أو الشعير التبتي أو بومبرنيكل الزبيب أو دقيق الذرة والليمون والجوز الأسود. ما عادوا ذواقة قمح فقط بل أساطين الخبز، حتى حلت ليلة لم يعد فيها خبز. تجمع حشد كبير ينتظرون فتح الباب حتى يضع أصحاب المحل بضاعتهم غير المباعة لأن الناس الآن صاروا يحبون الوصول إلى هناك مبكرًا، بل أن البعض بات ينتظر في الخارج بوقاحة قبل خروج الكمية اليومية من الخبز غير المباع. لقد مضى وقت طويل على الإغلاق، والناس قد اجتمعوا بكثرة. وسرعان ما شعر من في آخر الحشد بالذعر، إذ خشوا ألا يكون لديهم ما يكفي من الخبز، ويريدون معرفة ما يحدث لأن حجم الحشد لا يتيح لهم رؤية اللافتة على الباب. في نفس الوقت، ينظر من في المقدمة ذاهلين ودونما اقتناع أو شعور بالخوف بعد من اهتياج الناس في آخر الحشد عبر النافذة إلى ما وراء لوحة «للتقبيل» في المتجر المظلم والمهجور. وعلى ظن منهم أن من في المقدمة يستأثرون بالخبز كله، بدأ من في آخر الحشد بالصراخ ثم بالتدافع.

جمعية المؤرخين – غلن شاهين

هناك احتفاء عظيم. لقد اكتشف الباحثون توًا أنه في موضعٍ ما وُضعت سنتان في المكان غير الصحيح من القرن الثالث عشر في التقويم الروماني. كان ذلك الزمان مربكًا، إذ دُمّر العالم الغربي بفعل الحروب والأمراض والمجاعات، وربما بسبب روبن هود إن كان حقيقيًا في الأصل. كان وقتًا كارثيًا، لكن في مكانٍ ما وبطريقةٍ ما أغفِلَت سنتان، والآن فقط أدركت جمعية المؤرخين خطأ الماضي. تم الإجماع على استعادة السنتين، وها نحن في عام 2012 مرة أخرى، وسينال الجميع فرصة ثانية. إذ سيعيد فتىً ما في ولاية جورجيا تسجيله في تخصص الرقص الإيحائي بدلًا عن الكيمياء الحيوية. وبعد انفصال ممتلئ بالاتهامات، يعود عاشقان من ولاية مينيسوتا إلى بعضهما ويأكلان وجبة باستا المانيكوتي في مطعمهما القديم المفضل، على الرغم من أن موعدهما الأول كان في مطعم تايلاندي. كما يعيد سائق أجرة هديتَي عيد الميلاد مقابل رصيد في متجر، وستعلن الحكومة عن إجازة ممتلئة بالولائم مدة أسبوع. ثم خلال سنتين من الآن، سيغمر الجميع رعب هائل. سيضيعون كل شيء، وكل فرصهم الجديدة. وستكتَب الشيكات فترسل ثم تودع. سيفتش المحامي الذي أمضى كلتا السنتين الجديدتين متعاطيًا حشيش ابنه الصندوق، حيث يخبئ أغراضه، لكنه سيجده فارغًا كل مرة إلا من راقصة باليه صغيرة على عزف بطيء جدًا لمعزوفة “بحيرة البجع”. سيدعي الجميع شعورهم بالقرف حتى إن مُنحوا السنتين الجديدتين للبدء بهما. وسيسألون عن الفرق الذي تعنيه أرقام التواريخ، وسبب اهتمام الحكومة أصلًا بالاستماع إلى الباحثين. مع ذلك، في كل مرة يضغطون فيها روابط مواقع الأخبار، سيبقون على أمل أن تعثر جمعية المؤرخين على سنتين إضافيتين، ولو واحدة، أو يوم؛ أي شيء يمكن إعادته والاستفادة منه فعلًا هذه المرة.

الفكرة – روبرت لوبيز

كانت لدي فكرة ذات مرة، لكنها ذهبت الآن. كانت تلك الفكرة تتعلق باستعمال جديد للمراوح الكهربائية. يحدث ذلك لي أحيانًا، إذ أنسى الأفكار مثلما نسيت اسمي. أظن ان اسمي على وزن اسم طائر، لكني لا أعرف ما الطائر. أنا جاهل تمامًا بالطيور. جزء من المشكلة أني مصاب بعمى الألوان، لكن الأدهى أني لست مثل بقية المصابين؛ فهم يرون طائرًا أزرق محلقًا على أن لونه أخضر، والفرق أنهم يعلمون بأن الطائر ليس أخضرَ، في الواقع لأنهم يعرفون أن كل أخضر يرونه إنما هو بلون أزرق، فالأخضر أزرق بالنسبة لهم والأزرق أخضر في معظم الأحيان. إن كنت مصابًا بعمى الألوان فسيكون هذا حالك. أما أنا فلا أستطيع رؤية اللون الأخضر أو الأزرق، إذ كل الطيور تبدو متشابهة بالنسبة لي. كلها بلا ألوان. ذهبت إلى أطباء العيون، لكنهم لا يستطيعون معالجتي. يقولون إن هناك مشكلة في قرنيتيَّ وعلي استئصالهما وزرع قرنيتين جديدتين. سألتهم عن سبب حدوث ذلك لي، لكنهم لم يقدروا على الإجابة. أعتقد أن ما حدث ذات ليلة أني أويت إلى الفراش، وكان كل شيء على ما يرام واستيقظت في الصباح التالي مصابًا بعمى الألوان على هذه الحالة، وما أذكره أني نظرت من حولي في أرجاء الغرفة متسائلًا عمّا جرى للجدران والسجاد. لكن حتى هذا ليس مهمًا؛ فمن الصعب دومًا التفرقة بين المهم وغيره حين تصاب بعمى الألوان. المهم فكرتي عن المراوح الكهربائية. حلت عليّ تلك الفكرة قبل أن أغرق في نومي وأحلم بكابوس. حتى كوابيسي بلا ألوان. لكن ذلك ليس مهمًا مثل كل شيء آخر، لذلك دعونا ننسَها الآن وننسَ كلَّ شيءٍ آخر عدا فكرتي التي نسيتها أصلًا ذات مرة. أعتقد أني لو كنت مصابًا بعمى الألوان كما أصيب به الآخرون لكنت قد استيقظت في الصباح التالي وتذكرت فكرتي عن المراوح الكهربائية، لكن الحقيقة المحزنة أني لست مثلهم؛ ولذا ذهبت الفكرة إلى الأبد مثل الريح. أظن أني سأتذكر اسمي يومًا ما، لكني لا آبه بشأنه كثيرًا، ولو خُيِّرت بين تذكر اسمي أو فكرتي عن المراوح الكهربائية فلن أفكر بينهما أساسًا. والآن، أحاول تذكر اسمي كل مرة حين آوي إلى الفراش، لكني دومًا أفشل وأنام قبل أن أفلح، وحين أستيقظ لا يمكنني التفكير بأي استعمال آخر للمراوح الكهربائية، غير وصلها بقابس في الجدار، وتركها تنفخ على كل شيء آخر بلا لون في الغرفة.

روبرت لوبيز

روائي وقاص أمريكي، يعمل إلى جانب الكتابة أستاذًا بجامعة كولومبيا وكلية باين مينور، وظهرت أعماله في العديد من المطبوعات الأدبية في الولايات المتحدة. من أعماله «جزء من العالم»، «أناس طيبون».

تدوين الملاحظات – كيري كولين

كتبتُ كل كلمة قالها الطبيب، ووضعت مكان نحنحاته نجمات صغيرة، وأقواسًا مكان وقفاته، وعلامة شرطة طويلة مقابل كل تعليق على ما قال. حين مرر يديه عبر شعره المتموج، رسمتُ سلسلة من المنحنيات تتدلى من حواشي الورقة. وفوق ذلك، بعض تعبيراته، كالتكشيرة محل جملة “صرع محتمل”، وهز الكتفين مقابل جملة “نتائج غير قطعية”، وهكذا. كما غير الضماد على رأسك، ولذا قصصتُ مربعًا من القماش الذي علقتْ به خصلة من شعرك في الشاش بفعل الدم، ثم ألصقتها في الضماد الجديد.

حين غادر، شاهدنا ثلاث حلقات من مسلسل تلفزيوني لا بأس به على جهاز “آي-باد”، ثم دونتُ ضحكاتك: كانت قهقهتين، وأربع عشرة ضحكة مكتومة، ومزيجًا سريعًا بين ابتسامةٍ متكلفة وتنهيدة. وعندما تثاوبتَ، عصرتَ يدي وعبرتُ عن ضغط تلك العصرة بتمرير قبضتي لتترك أثرًا في صفحة الكتابة. لن تتذكر أيًا من ذلك لاحقًا. أما أنا فبالكاد أتذكر ما جرى هذا الصباح: أذكر فقط أنني حين كنت في ذلك القطار، وكتبت “ماما مستشفى ماذا أفعل” على محرك بحث غوغل، اقترحت المنتديات عبر الإنترنت أن عليَّ تدوين الملاحظات.

ولمّا نمتَ، تجولتُ في الممرات المضاءة بمصابيح الفلورسنت بينما ألتقط صورة لكل ممرضة في النوبة بعدسة البولارويد، وأضع كل صورة من تلك الصور بين الصفحات، ثم خرجتُ نحو المواقف وأخذت أثرًا من الغرافيت يعود إلى مطاط عجلة سيارة الإسعاف التي أحضرتك إلى هنا أثناء نومي، وحدثتُ النجوم بلا تصنع عن رؤيتي العميقة تجاه تزجية الوقت، ثم سجلتُ ضوءها الخافت باستخدام خرّامة مستعارة من مكتب فارغ. عدتُ إلى غرفتك مع كيس رقائق بطاطس من آلة بيع. كنتَ ما تزال نائمًا، وفمك عبارة عن فجوة مظلمة. رذذت الملح على أغطيتك بينما أقرأ ما جرى في يومنا وأستنتج بعض التوضيحات بأثر رجعي. إنني أبقيك في أمان.

سلوفينيا وما يأتي منها

شروخ

حدثت العديد من القصص، وهذه إحداها. لديك زوجة، وأطفال، وعمل، وسيارة، وبيت في الضواحي. يبدو أنك ستموت سعيدًا، وسيبكي أبناؤك في جنازتك، وسيأسى الجيران على رحيلك. لكن في ليلةٍ ما، بينما تقود سيارتك بسرعة لا تزيد عن المعتاد عائدًا إلى البيت خلال آخر خيوط النهار الذاوية، هناك صوت ارتطام لكونك قد اصطدمت بشيء. لم ترَ أي شيء، كان هنالك صوت الارتطام فقط مقابل سيارتك. ثم تتوقف وتخرج لترى ما الذي حصل. هناك طفل تحت سيارتك، في السابعة أو الثامنة من العمر، ولديك طفل مثله بالضبط وينتظرك في البيت، وكان من المحتمل أن يكون هذا الطفل. إنه لا يتحرك، وهناك بقعة من الدم تنبع تحت رأسه.

تشرع بالبكاء، وتقعي، وتتفقد نبضه، ولا تحس بشيء. تنظر حولك وما من أحد هناك، فالشارع خال، وتقود عبره كل يوم دون معرفة أحد، وهناك مشروع سكني رمادي متعطل. لا أحد يراك، وكل الأضواء مطفأة.

ماذا سيحدث الآن؟ ما الذي ستفعله حين يحدث مثل ذلك لك؟ فكما تعلم، لو كان الصبي يئن قليلًا، سيكون الأمر برمته هينًا، إذ ستحمله في سيارتك وتهرع به إلى المستشفى أو تتصل بسيارة إسعاف؛ لكن فات الأوان كما ترى. وحين تهدأ قليلًا ستلاحظ أن أنوار الشارع لم تعمل حتى الآن، ولا ترى أي سيارة فيه. تلتفت وتنظر من حولك لتتفقد إن كان هناك شخص قادم أو يراقب مختبئًا خلف مكبات القمامة، لكن ما من أحد في المكان.

ترغب بالاتصال بأحد، لكن من؟ إلى جانب أن بطارية هاتفك فرغت فجأة، وبت تدرك بأن ما من أحد سيجيب حتى لو كان يعمل. تنظر إلى الطفل مرة أخرى. يبدو أنه كان يرقد هناك منذ ساعات، بما أن وجهه غدا بلا لون، فالدم في رأسه قد جف. تجيل النظر من حولك مجددًا، فتبدو المباني آخذة بالانهيار، وتظهر شروخ كبيرة في سماء الليل قد تتسرب منها الهاوية في أي لحظة. ما زالت مفاتيح السيارة في يدك، فتنظر إليها وإلى سيارتك، وتدرك بأنها لن تتحرك مرة أخرى. فترمي المفاتيح فتهوي إلى الظلام تحتك، حتى إنك لا تتفاجأ حين لا تسمع صوت ارتطام المعدن بالإسفلت. ما من صوت في أي مكان. لا كلاب تنبح أو أجهزة تلفاز مشوشة أو هواتف ترن. تقعي باتجاه الطفل مجددًا. إنه يتقلص أكثر فأكثر ويذوي أكثر فأكثر، تنظر إلى يديك وتنتظر الشروخ حتى تظهر عليها. فتفكر: كانت لدي زوجة وأطفال، وبدا أني سأموت سعيدًا. ستحدث الآن أمور مختلفة. لا تنتهي العديد من القصص نهاية سعيدة، وهذه القصة إحداها.

أندري بلاتنك

كاتب ومترجم سلوفيني معاصر، وأحد أرفع المؤلفين شأنًا في بلاده منذ جيل الثمانينات في فن الرواية والقصة القصيرة والمقال. من أعماله «قانون الرغبة»، «متاهة ورقية»، «شريعة الطاو للحب»، «قضمات».

مقال وقصة

صباح الخير

تلقيت دعوة كريمة من جريدة «القافلة» الأسبوعية، الصادرة عن شركة أرامكو السعودية، لكتابة مقال في أحد أعدادهم المميزة، وقد نشروه مشكورين ضمن عدد اليوم، والرابط من هنا. يطيب لي في هذا المقام شكر أستاذنا عبد الوهاب أبو زيد على تحريره المتميز في كل مرة لدرجة تبعث الحياة في ما أكتبه.

أما القصة فنشرتها لدى حساب «أدب»، ورابطها من هنا.

قراءة ممتعة!

دب بني – ممبو جياردينيلي

بات برودون مزارع من نيوهامبشير ويهوى صيد الدببة، وظل مهووسًا بقتل دب بني ضخم يسمونه السكان المحليون “سكستين تونز”لسنوات. بحث بات عن الدب وانتظره لما لا يحصى من عطل الأسبوع، مطاردًا إياه بالكلاب ومتقصيًا أثره طوال أيام وليال لا تنتهي؛ وكل محاولة غير مجدية تحبطه أكثر وتشعل رغبته بقتل الدب. إذ يعرف المزارع أين يأكل الحيوان وما يأكله وكيف يأكله، ويعرف روتين الدب ومسالكه، لكن لا يمكن أن يلقاه. لم يفعل المزارع المهووس شيئًا سوى الحلم بلقاء الوحش الضخم طوال السنوات الثلاث الماضية.

يمرّ به صديقه فرانك في ربيع العام الرابع على جانب الطريق من لايم إلى ليبانون، فيتوقف حين يرى بات المفجوع يبكي بجوار شاحنته. وبما أنه عارف بهوس صاحبه، يسأله بسخرية خافته إن كان هذا مرتبطًا بإحباط جديد… فيهز بات رأسه رافضًا، ومسنتثرًا في منديل قذر، ويشير إلى حوض الشاحنة شارحًا أنه يبكي لأن أمرين فظيعين حدثا له في آن واحد: لقد قتل “سكستين تونز” أخيرًا، لكنه أدرك الآن أنه كان قد أحب الدب بشدة، وأنه يحس بأنه أشد الناس عذابًا.

روائي وقاص أرجنتيني، من أعماله المترجمة إلى العربية «القمر اللاهب» (ترجمة: خالد الجبيلي).

قواعد الكتابة – مارك ليڤي

مارك ليڤي أحد أشهر الروائيين الفرنسيين المعاصرين، من أعماله المترجمة إلى العربية «هي وهو»، «كل الأشياء التي لم تقل»، «امرأة مثلها»، «اليوم الأول». شاركت بترجمة أحد مقالاته نافذة البصيرة حول الكتابة لدى مشروع تكوين.

الرابط من هنا. أتمنى لكم قراءة ممتعة.

شروخ – أندري بلاتنك

صباح / مساء الخير جميعًا،

1137132

في عدد هذا الأسبوع من «زهرة الخليج»، ستقرؤون أولى ترجمة للكاتب السلوفيني أندري بلاتنك، عبر قصة بعنوان “شروخ”.

تعريف:

أندري بلاتنك (1943 – الآن)، كاتب ومترجم سلوفيني معاصر، وأحد أرفع المؤلفين شأنًا في بلاده منذ جيل الثمانينات في فن الرواية والقصة القصيرة والمقال. من أعماله «قانون الرغبة»، «متاهة ورقية»، «شريعة الطاو للحب»، «قضمات».

أتمنى للجميع قراءة ممتعة!

ثلاثون سطر – كيم مونزو

صباح / مساء الخير جميعًا،

QM2

في عدد هذا الأسبوع من «زهرة الخليج»، ستقرؤون أولى ترجمة للكاتب الإسباني الكاتالوني كيم مونزو، عبر قصة بعنوان “ثلاثون سطر”.

تعريف:

كيم مونزو (1952 – الآن) كاتب ومترجم وصحفي إسباني من إقليم كاتالونيا، حاز على جائزة برودينتشي بيرترانا عام 1976 والجائزة الوطنية للأدب عام 2000 وجائزة ماريا أنخل أنغلادا عام 2008. من أعماله «سبب ما يحدث»، «خدمة ذاتية»، «غوادالاخارا»، «فداحة المأساة»، «وقود».

أتمنى للجميع قراءة ممتعة!

مهمة قصة الجريمة – أمبرتو إيكو

صباح / مساء الخير جميعًا،

UE

في العدد الحالي من مجلة «الفيصل»، ستقرؤون مقالًا مترجمًا من قبلي (وقلبي) للكاتب الإيطالي الكبير أمبرتو إيكو، بعنوان «مهمة قصة الجريمة». المقال مستل من آخر كتاب مترجم له إلى الإنجليزية بعنوان «يوميات مجتمع سائل»، الذي جُمعت مادته وترجمت بعد وفاته.

للإطلاع على المقال، اضغط(ي) هنا.
أتمنى للجميع قراءة ممتعة!

حول الكتابة، والإلهام، والرفض – كارلوس رويز زافون

بين فترة وأخرى، تقوم جريدة “ذي غارديان” البريطانية المرموقة باستقطاب كتاب مشاهير حول العالم عبر دردشة مباشرة على الانترنت مع العديد من المعجبين في ما يخص كتبهم وحياتهم. وفي يونيو 2012، قامت باستضافة الكاتب الإسباني الشهير كارلوس رويز زافون، وقد صدرت له بالعربية حتى الآن روايتان هما “ظل الريح” و”لعبة الملاك” بترجمة الكبير معاوية عبد المجيد.

أترككم مع الحوار، مع ملاحظة أنني قمت بمحاكاة أسلوب الدردشة قدر ما يمكن دون الإخلال بترابط الجملة السليم باللغة العربية.

قراءة ممتعة!

OLYMPUS DIGITAL CAMERA

كل كتبك عن قوة القصص. أين تكمن الجاذبية في تأليف كتب عن… الكتب؟

لا أظن جازمًا أنني أكتب عن الكتب، بل عن الناس والقصص واللغة والأفكار. صحيح أن الكتب في رباعية “مقبرة الكتب المنسية” مرتبطة بعالم القراء والكتاب وبائعي الكتب والناشرين وجميع الناس في فلك الأدب، لكنها تحاول الخوض في ثيمات الأدب الكلاسيكية، فهي تطمح لأن تكون عن الحياة. والكتب والأدب، أو الحكي، ليسوا سوى جزءٍ منها.

هل “مقبرة الكتب المنسية” مستلهمة من مبنى واقعي في برشلونة؟
كم تطلب الوقت منك كي تكتب “ظل الريح” منذ الفكرة الأولى وحتى “المخطوط” النهائي؟
علاقة الأب والابن في هذا الكتاب مميزة، هل لديك علاقة حميمية مع أبيك؟

ليس كذلك. فقد راودتني فكرة المقبرة أثناء عيشي في لوس أنجلوس. وقد كان إلهام كبير مستنبطًا من مكتبة كتب مستعملة في لونغ بيتش بولاية كاليفورنيا، وتدعى “أيكرز أوف بوكس – فدانات من الكتب”. لا أعتبر “مقبرة الكتب المنسية” بالنسبة لي استعارة للكتب فقط، بل للأفكار والجمال والمعرفة بالنسبة للناس ولعالم العقل وللذاكرة.. ولكل الأشياء التي تجعلنا بشرًا وتضفي المعنى؛ والكتب، بطريقة ما، رمز لكل ذلك في القصة.

يتطلب مني الأمر عادة سنتين لتأليف كتاب من هذا النوع، ولا يعد الـ”ظل” استثناء.

علاقتي بأبي ليست كعلاقة دانيال في الـ”ظل”. صحيح أن بعض آفاقها مشابهة، لكن أبي شخص مختلف تمامًا عن أبي دانيال، وأنا أميل لكاراكس من دانيال فعليًا. C’est la vie. (بالفرنسية: هذه هي الحياة. (المترجم))

ما هو الفرق بين كتابة روايات اليافعين والبالغين؟ أو، هل ثمّت فرق بينها أصلًا؟ وأيهما تفضل ولماذا؟
واضح أن في “مقبرة الكتب المنسية” رسالة رثاء في ما يخص الكتب. ما موقفك في نقاش الكتب ضد الكتب الإلكترونية؟
لماذا تكتب بالإسبانية عوضًا عن الإنجليزية؟ هل تمنحك تلك اللغة شيئًا لا تقدر الإنجليزية عليه؟ وإن كان ذلك صحيحًا، فما هو ذلك الأمر؟

لا أعتقد أن عملية الكتابة مختلفة جدًا بين كتب اليافعين والبالغين. فأنا أحاول الكتابة للناس الذي يحبون القراءة، ولا أقلق كثيرًا تجاه أعمارهم. فالعمر بالنسبة لقارئ خاصية نسبية للغاية. أحب كتابة الكتب للقراء الذين يحبون الأدب واللغة والحكي… ولا أطلب منهم بطاقة هوية كي أتفقد أعمارهم. وأود الاعتقاد بأنني، بطريقة ما، أكتب للقراء بجميع الأعمار.

ليس لدي نقاش أو أطروحة بشأن الكتب ضد الكتب الإلكترونية. فالكتب كتب، وليست المنصة التي توَزَّع من خلالها. أي سيمفونية لموزارت هي الموسيقى، ليست القرص المدمج أو الشريط أو ملف MP3  أو FLAC. بل الموسيقى. والأدب نفس الشيء تمامًا بالنسبة إلي. فهو مرتبط بالعمل الفني، باللغة، بالإبداع.

أكتب بالإسبانية لأنني إسباني. فقد ولدت في برشلونة، والإسبانية والكتالانية لغتيَّ الأم. أعتقد أن على كاتب السرد القصصي محاولة الكتابة باللغة التي تعلم القراءة والكتابة عبرها.  لأن هناك أمرًا مهمًا للغابة بشأن تلك الرابطة ولن ترغب بالعبث به. كل اللغات تمنح شيئًا وتأخذ آخر. فاللغات الرومانية كالإسبانية والإيطالية والفرنسية والكاتالانية والبرتغالية تملك – فيما أظن – مدى هائلًا من الدهاء والتفاصيل، بينما توفر الإنجليزية – مثلًا – الترابط والدقة. وآمل فقط أن أصير طليقًا في كل لغاتي.

أذكر لنا بعض ما تستلهمه دومًا ككاتب؟

أستلهم الحياة وتجربتي الشخصية وذكرياتي وما أراه بداخلي ومن حولي.. كما أني ملهم بالأدب، وبالموسيقى والجمال بشكل عام. أنا مغرم بالجمال، والكافيين يقوم بعمل جيد.

ما هي مكتبتك المفضلة حول العالم؟
هل هناك إلهام من الحياة الواقعية لـ“مقبرة الكتب المنسية”، مثل مكتبة مهجورة أو غرفة قراءة صغيرة مجهولة؟
إن استطعت إنقاذ كتاب واحد، فماذا سيكون؟

أحب مكتبات عديدة، وأحدها تدعى “أتينيو برشلونة”، نادٍ أدبي بعمر قرن في منطقة القرية القديمة. لكن أعطني مكتبة وستجدني منحازًا لها.

إن استطعت انقاذ كتاب… مممممممم. أظن أن الإجابة الصائبة سياسيًا هي كتاب كلاسيكي أو كتاب رائع نحبة جمعًا. وبما أن هذا العالم كبير وشرير بلا قلب والرب يحب الأشرار، سأدع توأمي الشرير يختار، وسيختار إنقاذ كتابٍ لي، بقدر ما لا يستحق ذلك الكتاب كما يبدو. الكتاب مثل ذلك، مواطنون محزنون.

هل هناك نصيحة لمؤلف جديد؟
هل تستمع إلى الموسيقى حين تكتب؟
أهناك هواية يمكنك الاعتراف بها؟

اكتب واكتب واكتب، ثم أعد الكتابة حتى الموت. اعمل بجد. تعلم حرفتك. لا تستسلم. ثابر. لا تكن متكبرًا أو حسودًا أو كارهًا بغل. اعمل بجد لأجل أهدافك، واكتب من قلبك، لكن تأكد أن تلك الكتابة مرت بدماغك قبل أن تصل إلى أصابعك. هل ذكرت عدم الاستسلام؟

الموسيقى أكثر ما أقدره في العالم، لذا علي أن أكون حذرًا إذا ما كتبت أثناء الاستماع، لأن عقلي يتجول في موسيقى الجوقات وأي موسيقى ذات وتر خفيض.  صحيح أنني أقوم بالاستماع إلى الموسيقى في بعض الأحيان، لكن بطريقة منضبطة بعمق.

هوايات يمكن الاعتراف بها؟ عزف الموسيقى وكتابتها، ومشاهدة سيرورة العالم، ومطاردة الجمال والمعرفة والتبطل المطلق.

ما هو الكتاب الذي ألهمك حين كنت شابًا؟
هل هناك كتاب بعينهم قد ألهموك كي تصير كاتبًا بنفسك؟
ما هو مشروعك القادم؟

لا أستطيع الإشارة الى كتاب ألهمني بعينه. أقول أنها كانت كل الكتب، وعالم القراءة، والأدب والحكي بشكل مجمل. والأمر ينطبق بذاته تجاه الكتاب، فهناك ما لا يحصى منهم.

أعمل الآن على الكتاب الرابع والنهائي في “مقبرة الكتب المنسية”. تمنّ لي الحظ!

هل لديك روتين للكتابة؟
كيف تعمل مع مترجمي رواياتك؟ هل هناك تصرفات تحريرية في الإصدارات المترجمة من كتبك؟

أعمل في مكتبي/استديوهي ساعات طوال، بمعدل خمسة أيام في الأسبوع، وستة أو سعبة في بعض الأحيان. أعيد الكتابة بقدر ما أكتبه وباستمرار. أتجول حول الغرفة، وأحدث نفسي. أتحرك من طاولة الكتاب إلى بيانو أملكه في المكتب. ألعن معوقاتي. أشرب الكافيين بكثرة. أفكر بمشوار مهني تجاه الرسم على الجدران… بعدها أعيد الكتابة مرارًا، فأعمل لمدة أشهر على النهاية حتى يقترب ما أملكه بأكثر قدر ممكن إلى ما حددت فعله.

أعمل مع بعض مترجمي بقرب، وفي بعض الأحيان أقوم بعدة تصرفات تجاه الترجمات عبر إعادة كتابة بعض الأجزاء والتأكد أن ما ستقرؤونه قريب بقدر المستطاع إلى النسخة الأصل. وفي أحيان أخرى أتركهم كي يذودوا عن أنفسهم ولتفترسهم الوحوش. هكذا أعمل.

كمؤلف أدب يافعين شاب ذي ملف مليء برسائل رفض المخطوطات، كنت أتساءل عن عدد ما تلقيتَ منها قبل أن تصل إلى كل من الوكيل المهم وصفقة النشر، وهل أحسست بالهزيمة؟

نشرت كتابي الأول قبل أكثر من عشرين عامًا، لكن صحيح أن أعمالي قد رُفضت كثيرًا، وكل الكتاب يتلقون ذلك. فلا تكن منهزمًا منهم، وواصل العمل. أكمل التعلم ولا تستسلم أبدًا، فالكتاب يكتبون مهما حدث. وصحيح أنك تشعر بالهزيمة، لكن ليس إذا كنت كاتبًا، لأن الكتاب يكتبون، أما النشر فمسألة مختلفة. ابق قويًا، وكن صريحًا تجاه نفسك واعمل بجد، وسيعثر عليك العالم فيما بعد.

كيف ترى انتقالك إلى لوس أنجلوس؟ هل يوفر ذلك منظورًا آخر تجاه كتابتك؟

انتقلت إلى لوس أنجلوس في عام 1994، وعشت هناك لحوالي عشر سنوات. أظن أن مغادرة الموطن والذهاب إلى بلد آخر تعلمك الكثير، وليس أقل ما تعلمك عن نفسك. أرى أن ذلك كان أمرًا جيدًا قمت به. والآن أمضي وقتًا مساويًا في لوس أنجلوس بقدره في برشلونة أو حول أوروبا. وأنا متأكد من أن لوس أنجلوس قد منحتني منظورًا مختلفًا تجاه كتابتي، وذلك يتطور رغمًا عن أي شيء مع الوقت بغض النظر عن المكان على ما أعتقد. لربما غيرني العيش بها كإنسان بشكل عام، مما يعني تغيري ككاتب حتمًا. لكني الآن أتساءل عن مصيري لو بقيت في برشلونة أو انتقلت إلى طوكيو أو باريس… إنها أكوان مختلفة.

متعة المشيب (بلا مزاح)  – أوليفر ساكس

dsc0788-2-low-res

6 يوليو 2013

حلمتُ البارحة بالزئبق على هيئة قطرات هائلة تصعد وتهبط. الزئبق هو العنصر الثمانون <في الجدول الدوري>، وقد كان حلمي مجرد تذكيرٍ بأنني سأبلغ الثمانين يوم الثلاثاء.

لطالما اختلطت العناصر وأعياد الميلاد بالنسبة لي منذ الصبا، ففي الحادية عشر من عمري كنت أقول “أنا صوديوم” (الصوديوم هو العنصر 11)، والآن أنا ذهبٌ في التاسعة والسبعين. قبل بضع سنوات، حين أعطيت أحد الأصدقاء قنينة من الزئبق في عيد ميلاده الثمانين – وكانت قنينة مميزة بحيث لا تسرّب أو تتكسر –، رمقني بنظرة غريبة، لكنه أرسل رسالة ساحرة فيما بعد، وقد كتب فيها نكتة “آخذ قليلًا منها كل صباح لأجل صحتي”.

إنها ثمانون عامًا! أكاد لا أصدق ذلك. أحس أحسانًا أن الحياة تتعلق بابتداءها، ثم الإحساس بها قرب النهاية فقط. كانت أمي الطفلة السادسة عشر من ثمانية عشر ابنًا وابنة، وأنا كنت أصغر أبناءها الأربعة وأكاد أكون الأصغر بين أبناء الخؤولة الكثر من جهتها، كما كنت أصغر ولد في صفي خلال المرحلة الثانوية. وقد استعدت هذا الشعور بكوني الأصغر عمرًا، حتى وإن كنت أشيب من أعرف الآن.

ظننت أنني سأموت في الحادية والأربعين حين مررت بفصل خريفٍ سيء وكسرت أحد ساقي أثناء تسلق الجبال وحيدًا. ضمدت تلك الساق بأفضل ما يمكن ثم بدأت أدفع نفسي بحمق باستخدام ذراعيّ نحو أسفل الجبل. في الساعات التي تلت ذلك، ساورتني الذكريات بخيرها وشرها، وكان أغلبها مشوبًا بالامتنان تحديدًا لما منحني الآخرون، وكذلك لأني صرت قادرًا على منح شيء بالمقابل؛ فقد نُشِرَ كتاب «يقظات»[1] قبل ذلك بعام.

أشعر وأنا في الثمانين تقريبًا – مع قليل من الاعتلالات الطبية والجراحية دون أن تعيقني أي منها – بالسعادة لأني حي، حتى أن جملة من نوع “أنا سعيد لأنني لست ميتًا” تخرج عفويًا حين يكون الجو مثاليًا. (وهذا ما يناقض قصة سمعتها من صديق حين كان يتمشى مع سامويل بيكيت[2] في باريس خلال صباح ربيعي مثالي، فقال له “ألا يجعلك نهار كهذا سعيدًا لأنك حي؟” فأجابه بيكيت “لن أذهب بأحاسيسي بعيدًا إلى حيث تقول”). أنا ممتن لكوني خضت عدة تجارب – بعضها رائع والآخر فظيع – وقدرت على كتابة دزينة من الكتب، واستقبال رسائل بلا عدّ من أصدقاء وزملاء وقراء، والاستمتاع بما سمّاه ناثانيال هاوثورن “معاشرة العالم”.

وأنا نادم على أنني ضيعت (وما زلت أضيع) الكثير من الوقت، وعلى أنني ما زلت خجولًا بقدر ممض في الثمانين مثلما كنت في العشرين، وأنني لا أتحدث أي لغة أخرى سوى لغتي الأم، ولم أرتحل أو أجرب الانخراط بوسع في ثقافات أخرى بقدر ما كان عليّ ذلك.

أشعر بأن علي محاولة إتمام حياتي، مهما كان يعني “إتمام الحياة”. فبعض مرضاي ممن تخطوا التسعينات من أعمارهم ومن تعدى المئة يقولون ما يشبه صلاة سمعان في إنجيل لوقا[3] عبر جمل من نوع “لقد عشت حياة كاملة، والآن أنا مستعد للرحيل”. بالنسبة لبعضهم، ذلك يعني الرحيل إلى الجنة – ولطالما كانت ]الوجهة[ الجنة بدلًا عن الجحيم، رغم أن سامويل جونسون[4] وجيمس بوزويل[5] ارتجفا حين التفكير في الذهاب إلى الجحيم وغضبا من ديفيد هيوم[6] الذي عاش هانئًا بلا معتقدات كهذه؛ فأنا لا أؤمن بوجودٍ لما بعد الموت إلا في ذكريات الأصدقاء، وأمل بأن بعض كتبي ستبقى “ناطقة” للناس بعد مماتي.

غالبًا ما كان يحدثني و. هـ. أودن[7] عن ظنه أنه سيعيش إلى الثمانين ثم “يرحل” (وقد عاش حتى السابعة والستين فقط). وعلى الرغم من أنه مات منذ أربعين سنة، إلا أنني أحلم به كل فترة، وبوالديّ ومرضى قدامى قد ذهبوا كلهم، لكنهم ما زالوا محبوبين ومهمين في حياتي.

في الثمانين، يلوح طيف الجلطة أو الخرف، كما أن ثلث من يعرفهم المرء قد ماتوا – وغيرهم الكثير – إثر إصابة جسدية أو عقلية عميقة، ليحاصروا <بعد ذلك> في حيز مأساوي وضيق. كما تصبح أمارات الرحيل بيّنة للغاية، وانفعالات المرء أبطأ بقليل، والأسماء في الغالب أكثر تملصًا، وعلى طاقاته أن تصير مقتصَدة أكثر. لكن برغم ذلك، قد يحس المرء أحيانًا بأنه ممتلئ بالنشاط والحياة وليس “عجوزًا” بالمرة. لربما أكمل بالحظ سنوات أكثر – بحال سليمة أكثر أو أقل – وسأوهب حرية استمرار المحبة والعمل، أهم شيئين في الحياة، كما يصر <سيغموند> فرويد.

وحين يزف أجلي، أرجو أن أموت أثناء عملي كما فعل فرانسيس كريك[8]. فحين قيل له أن سرطان القولون عاد، رد على ذلك بصمت مطبق، فقد نظر ببساطة إلى المدى لمدة دقيقة ثم استمر بقطار أفكاره. ولما ضُغِطَ بسبب التشخيص عقب أسابيع، قال “ما كان لشيءٍ بداية إلا وله نهاية”. وحين مات في الثامنة والثمانين من عمره، كان ما يزال مندمجًا بالكامل في أقصى أعماله إبداعًا.

كان أبي – الذي عمّر حتى الرابعة والتسعين – يقول على الدوام إن الثمانينات كانت أحد أكثر عقود عمره متعة، إذ لم يشعر بضيق حياته العقلية وتصوراته، بل بتوسعها؛ مثلما بدأت أحس تجاه نفسي. فالمرء لا يخوض تجربة الحياة الطويلة عبر معيشته فقط، لكن مع حيوات الآخرين أيضًا. وقد رأى أفراحًا ومآسي، وانفجارات وعدة إعلانات إفلاس، وثورات وحروب، وإنجازات عظيمة وشكوكًا عميقة كذلك. كما شهد صعود نظريات كبرى حتى انهيارها بفعل حقائق لا تتزحزح، وصار أكثر وعيًا بسرعة زوال الأشياء وربما بالجمال أيضًا. في الثمانين، يمكن للمرء أن يتّخذ مطلًا عاليًا فيمتلك حسًا حيًا وأبهج بالتاريخ لم يقدر على امتلاكه في عمر أقل. أستطيع أن أتخيل ما يبدو عليه قرن من الزمان شاعرًا به في عظامي، وهذا ما لم أقدر عليه حين كان عمري 40 و60 عامًا. لا أفكر بالمشيب على أنه مرحلة أمر وتتطلب من المرء أن يتحملها بشكل ما ويجني أفضل ما بها، بل كمرحلة من الدعة والاستقلال، متحررًا من صدوف الأيام الأُوَل، وأيضًا لأجل استكشاف ما أود، ولربط أفكار ومشاعر حياة كاملة معًا.

أتطلع قدمًا لبلوغ الثمانين.

[1]  أحد أشهر كتب أوليفر ساكس. جمع فيه بين المذكرات والطب النفسي، وقد تحول إلى فيلم شهير من بطولة روبن ويليامز وروبرت دي نيرو.

[2]  كاتب إيرلندي (1906-1989)، وأحد أشهر أدباء العدمية في الأدب الأوروبي. أشهر مؤلفاته “في انتظار غودو”.

[3]  وردت كمصطلح واحد nunc dimittis ولم أستطع العثور على مقابل معجمي باللغة العربية. لكن المقصود هو صلاة سمعان الواردة في الآيات 29 إلى 32 من الإصحاح الثاني في إنجيل لوقا («الآنَ تُطْلِقُ عَبْدَكَ يَا سَيِّدُ حَسَبَ قَوْلِكَ بِسَلاَمٍ، ** لأَنَّ عَيْنَيَّ قَدْ أَبْصَرَتَا خَلاَصَكَ، ** الَّذِي أَعْدَدْتَهُ قُدَّامَ وَجْهِ جَمِيعِ الشُّعُوبِ. ** نُورَ إِعْلاَنٍ لِلأُمَمِ، وَمَجْدًا لِشَعْبِكَ إِسْرَائِيلَ».)

[4]  كاتب إنجليزي (1709-1784)، وأحد أهم رمز الأدب الإنجليزي.

[5]  محامي وكاتب سير ومؤرخ إنجليزي (1740-1795)، وكان صديقًا عزيزًا لدى سامويل جونسون وكتب سيرة حياته، التي تعد أحد أهم كتب الأدب باللغة الإنجليزية.

[6]  فيلسوف اسكتلندي (1711-1766).

[7]  شاعر إنجليزي أمريكي كبير (1907-1973)

[8]  باحث كيمياء حيوية بريطاني (1916-2004)

سر الكتابة – أورهان باموق

سر الكتابة

أورهان باموق (تركيا / نوبل 2006)

ترجمة: راضي النماصي

      يمكن للآخرين أن يتعلموا أشياء عديدة من حياة الكاتب لأنها مختلفة للغاية، فبعض الكتّاب مهووس بما يأتي من الخارج والبعض الآخر مهووس برؤاه، أما أنا وأمثالي فمختلفون؛ فأنا أعمل كموظف وبهذا تغدو رواياتي كاللوحات الجصية والملاحم. بذلك فأنا أبدأ من زاوية وأستمر حتى دون أن أعلم ما ستكون عليه الصورة الختامية في النهاية.

      علمتني أربعون سنة من التفاني تجاه فن الرواية أمرًا واحدًا، وهو أن ننتبه إلى حيوات البشر وما نسمعه عنها. فهذه الرواية، أي «غرابة في عقلي»، مبنية على مقابلاتٍ أجريتها مع العديد من الناس، والتي تعلمت منها أن أكون متواضعًا تجاه حياتهم وألعب بتفاصيلها إلى أن تغدو حقيقية أكثر من الواقع.

       في غالب حياتي لم أحظ بمحررٍ كما ينبغي منذ كنت أكتب في إسطنبول. أنا هو محرري الوحيد. لكن أسرار الكتابة تكمن في إعادتها وتحريرها بنفسك وإعادة تعديلها وقراءتها على من تحب – على زوجتك أو ابنتك أو صديقك وسماع القصة من منظور الآخرين دون أن تترك معاييرك الخاصة عن الكتابة الجيدة – ومن ثَمّ تستمر بالتعديل والحذف هكذا دون أن تهتم بالوقت الذي منحته لتلك الصفحة الجميلة، والتي من الممكن أن تحذفها أيضًا.

orhanpamuk_image

وريث تشينوا أتشيبي صيادًا للسمك

    ليس ذلك رأيي لوحدي، بل هذا ما تلهج به أوساط الأدب العالمية مؤخرًا عن الكاتب والأكاديمي النيجيري الشاب تشيغوزيي أوبيوما، الذي بلغ ثلاثين عامًا منذ فترة بسيطة ويتصدر مشهد الأدب الأفريقي حاليًا بجانب مواطنته تشيماماندا نغوزيي أديتشي. يمكن تلمس ذلك منذ الشروع في قراءة روايته الأولى «صيادو السمك» الحائزة على جائزة منحة «فاينانشال تايمز/أوبنهايمر» العالمية وجائزة معرض إدنبره للكتاب – فئة الإصدار الأول، كما وصلت كذلك للائحة القصيرة لجائزة «بوكر» البريطانية سنة 2015 والتي اختطفها الجامايكي مارلون جيمس عن رواية «تاريخ مقتضب لسبع جرائم قتل»، بالإضافة إلى القائمة القصيرة لجائزة «الغارديان» في فئة الإصدار الأول. أشاد به أحد أعلام الأدب الأفريقي الكبار، وهو الصومالي المرشح باستمرار لجائزة نوبل للآداب نور الدين فرح عبر تصريحٍ ظهر مؤخرًا بأنه “ذو أسلوب فصيح بشكل هائل في الكتابة بجانب موهبته العظيمة، وأن لديه ما يجعله في مصاف أفضل أفراد الجيل القادم من المؤلفين الأفارقة الشباب”، بالإضافة إلى العديد من الإطراءات من كبرى الصحف والمجلات والملاحق الأدبية حول العالم.
تحكي «صيادو السمك» حكاية أربعة أشقاء في نيجيريا خلال منتصف التسعينات – وذلك إيان الحكم العسكري للجنرال ساني أباتشا – على لسان أصغرهم المدعو بينجامين، ويتداخل فيها عنصر الإثارة والتأمل في الذات وفترة الصبا والرشد والعلاقات الأسرية – بين الإخوة على وجه الخصوص – عبر نبوءة عجوز مجنون يقابلونه حين يتهربون من الدراسة لصيد السمك في نهر قريب أثناء غياب أبيهم. كتب أوبيوما رواية ذات مهارة قوية في سرد القصص والتلاعب باللغة عبر مستويين، كما أنها قادرة على شد انتباه القارئ مع الإبقاء على هوية الأجواء الأفريقية بإشكالاتها الاجتماعية والدينية والسياسية والجمال الثقافي الهائل التي تتسم به القارة السمراء.
لأوبيوما حتى الآن هذه الرواية فقط بالإضافة لبعض النصوص على شبكة الإنترنت، كما أنه يعكف على كتابة رواية أخرى هذه الأيام بعنوان «الصقَّار»؛ وهو أستاذ مساعد في مجال الكتابة الإبداعية بجامعة نبراسكا الأمريكية. ستصدر ترجمة هذه الرواية إلى اللغة العربية قريبًا عن دار جامعة حمد بن خليفة للنشر في دولة قطر، وندعو دور النشر العربية لالتقاط النتاج القادم لهذا الكاتب الواعد وترجمته في خضم غرقنا بنتاج القارة العجوز والأمريكيتين خلال الأعوام الماضية.
فيما يلي ترجمة شخصيّة لمقطع من الفصل الأول للرواية:
“كنا صيادي سمك.
    أصبحنا أنا وأخوتي صيادي سمك في يناير عام 1996 حين انتقل والدي إلى خارج أكور، وهي قرية تقع غربي نيجيريا وقد عشنا فيها طوال عمرنا. نقله عمله في البنك المركزي النيجيري إلى فرع يقع في يولا – قرية تبعد عنا أكثر من ألف كيلومتر شمال البلاد – منذ الأسبوع الأول في نوفمبر الفائت. أتذكر الليلة التي عاد بها أبي حاملًا رسالة النقل. كان ذلك يوم الجمعة، ومنذ الجمعة مرورًا بالسبت كان والداي يتبادلان الاستشارات همسًا كما لو أنهما راهبين شرقيين. في صباح الأحد صارت أمي مخلوقًا آخر، إذ كانت تتحرك كفأر مبتل وتجول بعينيها في أرجاء المنزل. لم تذهب إلى الكنيسة، بقيت في المنزل وغسلت مجموعة من ملابس أبي وكوتها بينما يعتري الحزن وجهها. لم يقل أيٌّ منهما كلمة لنا ولم نطلب منهما ذلك في المقابل. فهمنا فيما بعد أنا وأخوتي – إكينا وبوجا وأوبيمبي – أننا قد نغرق المنزل حزنًا إذا ما سألنا بطيني البيت – أي أمي وأبي –، إذ كانا يكتمان الأمر مثلما يحبس بطينا القلب الدم. لذلك فقد تركنا التلفزيون في دولابه ذا شكل الرقم ثمانية في غرفة الجلوس خلال أوقات كهذه وذهبنا لغرفنا كي ندرس أو نتظاهر بالدراسة، ولم نسألهما عن أي شيء بينما كان القلق يغمرنا. حاولنا بما نستطيع لاحقًا أن نجمع أي معلومة عما يحدث.
    مع غسق السبت بانت بعض المعلومات من همهمات أمي كما يظهر زغب الفرخ: “أي عملٍ يحمل رجلًا على الابتعاد عن أبناءه بينما يشبون؟ حتى لو ولدت بسبع أيدي، فكيف سيمكنني الاعتناء بهؤلاء الأطفال لوحدي؟”
    على الرغم من أن تلك الأسئلة المحمومة لم تكن موجهة لأحد، فقد كان من الواضح أن أبي هو المعني بها. كان جالسًا على أريكة كبيرة في الصالة بينما تغطي صحيفته المفضلة «الغارديان» وجهه وهو يقرؤها ويستمع لأمي في نفس الوقت. ومع أنه قد سمع ما تقوله، إلا أن أبي كان يصم أذنيه عن أي كلام لا يوجه له مباشرة، أو ما كان يسميه بـ”الكلمات الجبانة”. كان سيكمل قراءته، وربما سيتوقف كي يحتفي أو يشجب شيئًا مما ورد في الصحيفة بجمل من نوع “واو، فيلا رجل عظيم! يا إلهي!” أو “يجب أن يُطرَد روبين أباتي”؛ كل ذلك لأجل أن يعطي انطباعًا بأن ندب أمي يتطاير في الهواء، وأن لا أحد يعير انتباهًا لنشيجها.”

chigozie-obioma-and-the-fishermen

أغوتا كريستوف : “لم أرد تسمية أي شيء”

agota-kristof_5451ea5abda66

تعود أغوتا كريستوف إلى بودابست في زيارة مقتضبة بعد أربع سنوات منذ آخر زيارة، وذلك للمشاركة في برنامج «إكسايل/المنفى»، والذي يركز على المؤلفين المهاجرين من شرق أوروبا. وصلت أغوتا إلى مدينة نيوشاتل السويسرية كلاجئة سنة 1956 مع زوجها وطفلها الوحيد، وبقيت في نفس المدينة منذ ذلك الحين.

تغير حال أغوتا كريستوف عبر السنين من عاملة مصنع ساعات إلى روائية تنال تقديرًا عالميًا، وذلك بقصصها المكونة من الجمل القصيرة القاسية. حازت كتبها على مقروئية عالية جدًا في بلدها الأم هنغاريا. تُرجمت الرواية التي أطلقت شهرتها، وهي بعنوان «الدفتر الكبير»، إلى خمسٍ وثلاثين لغة. وعلى الرغم من كل هذا النجاح، لا تزال تتحدث عن نفسها بهدوءٍ وأحيانا بمرارة، كما لو كانت تعتبر نفسها الآن غريبة في موطنها.

 

المحاور: برنامج «المنفى» هو عبارة عن سلسلة من الأمسيات التي تستضيف الكتـّاب المهاجرين في بودابست؛ نحن الآن مقبلون على الذكرى الخمسين لثورة 1956. ما الذي تعنيه هذه الثورة للناس من منظور أجنبي؟ هل رأيت اهتمامًا من بقية أوروبا حول هذه المناسبة؟

أغوتا كريستوف: نعم، فكثيرٌ من الناس يولي اهتمامًا بتلك الثورة وذكراها الخمسين في كل مكان هذه الأيام. ولكنه يظل نشاطًا محصورًا بالهنغاريين الذين يعيشون هناك، وليس مواطني تلك البلاد.

 

المحاور: هل لا زالت إلى اليوم مجرّد شأن هنغاري فقط؟

أغوتا كريستوف: ذلك واضح في سويسرا على الأقل، وعلى الرغم من مشاركة المسؤولين السويسريين في تلك الذكرى. أعتقد بأن عام 1956 كان نقطة تحولٍ في تاريخ أوروبا بأكملها وليست هنغاريا فقط، بيد أن القليل يلاحظ هذا الأمر.

 

المحاور: هل يمكنكِ أن تصفي لنا ما يعنيه لك هذا الحدث بالذات؟ وأعني الهجرة وما تلاها؟

أغوتا كريستوف: كان كل ذلك منذ زمنٍ بعيد، وكنت شابّة جدًا إبان ذلك الوقت. لا أزال قادرة على تذكر ما حدث، فقد كانت لدينا طفلة واحدة، وتبلغ من العمر أربعة أشهر فقط. أتذكر أيضًا نزوحنا في تلك الأيام خلال غابات كوشيغ. لو لم يرد زوجي السابق المغادرة لما فعلت.

 

المحاور: ما قدر معرفتك بالعالم حينما كنتِ تعيشين في بلد منعزل وأنتِ تبلغين العشرين من العمر؟ هل كنت تعلمين ما ستقدمين عليه؟

أغوتا كريستوف: لم تكن لدي أدنى فكرة، فأنا لا أعرف أي شيء عن سويسرا في تلك الأيام، إضافة إلى أني لا أعرف أي لغة أجنبية. لكن زوجي تولى المسؤولية فيما يتعلق بكل شيء. فَهُوَ من قرر الوجهة التي سنهاجر إليها، واللغة التي سنتحدث بها لاحقًا. أما أنا، فقد كان اهتمامي منصبًا على الطفلة.

 

المحاور: لو كان الأمر عائدًا إلى رغبتك، فهل كنتِ ستفضّلين البقاء؟

أغوتا كريستوف: نعم، وأنا نادمة على رحيلي.

 

المحاور: هل هذا الجواب يعود إلى الظروف المالية التي عشتها، أم هي مجرد مشاعر انتماء؟

أغوتا كريستوف: إنه يعود لكل أمر تعتقده. كلما مرت السنين شعرْت بأن انتمائي لهذا البلد يزداد مع الوقت.

 

المحاور: ولكن كان من المحتمل ألا نرى كتبك فيما لو قررت البقاء.

أغوتا كريستوف: بدأت الكتابة بشكلٍ جيد قبل رحيلي، فقد كانت بداياتي في الرابعة عشر من العمر. كنت أكتب القصائد في ذلك الوقت. وللأسف، فكل ما كتبته في ذلك العمر قد ضاع. كنت أكتب أيضًا بالهنغارية حينما هاجرنا إلى سويسرا، وكانت كتاباتي تُطبَعُ في مجلة «الأدب الهنغاري» التي تصدر من باريس في تلك الأيام. يدور كتابي الأخير، «االأمّية»، بشكل كبير حول أيام تشردي.

 

المحاور: عرفتِ عن طريق الهجرة علاقتك باللغة. فمن الواضح أن لغتك الجافة الوحشية، التي لا تحفل بأي كلمة زائدة، قد أنتجت نصوصًا قويّة حينما نقرأها بالهنغارية. هل تعرفين مقدار قراءة نصوصك لدى الناس باللغة الهنغارية؟

أغوتا كريستوف: لدي جميع نصوصي وقد تمّت ترجمتها، ولكني لم أقرأها مطلقًا؛ خشيت من أنها ستكون سيّئة بعد الترجمة. تُرجمت نصوصي إلى خمسٍ وثلاثين لغة، ولا أستطيع القراءة بغير الفرنسية إلا بالهنغارية، ومع ذلك لم أجرؤ على الإطلاع عليها.

 

المحاور: إذن، دعيني أؤكد لكِ بأن الكثير يقرؤون نصوصك هنا في هنغاريا.

أغوتا كريستوف: نعم، أعتقد ذلك. فهناك الكثير ممن يتواصل معي في سويسرا، وتصلني الكثير من الإنطباعات حول ما أكتب. لا يزال أخي الأصغر يعيش في هنغاريا، ويرسل هو وعائلته لي باستمرار أي شيء يُكتب عنّي هنا.

 

المحاور: هل يهمّك كل ذلك؟ أقصد النجاح والانتشار في هنغاريا؟

أغوتا كريستوف: نعم، ويهمني جدًا.

 

المحاور: هذا الجواب يفاجؤني. توقعت أنّك ممن يقيّم كتابته بناءً على الرضى الشخصي، وليس أرقام المبيعات. فما تكتبينه ينتمي لك أكثر مما ينتمي للخارج. ربما تكوَّن لدي انطباع خاطئ.

أغوتا كريستوف: هناك بعض الحقيقة فيما قلْتَ، فأنا متحفظة جدًا، ولكن لا زلت أبتهج حينما أعلم أن رواياتي لا تزال مقروءة في جميع البلدان، وأني أستطيع العيش من عائداتها. لو لم أكن كاتبة في سويسرا لما استطعت تكوين مصدرٍ ماليّ للمعيشة.

 

المحاور: ما الذي تعنيه سويسرا بالنسبة للمهاجرين؟

أغوتا كريستوف: تختلف مدن سويسرا وأماكنها كثيرًا فيما بينتها، فهم يتكلمون بثلاث لغاتٍ مختلفة. أنا أقرأ بالفرنسية السويسرية، وأكتب بالفرنسية أيضًا. هاجرنا إلى ذلك المكان، وتعلمنا اللغة فيه. كان الأمر بطيئًا. كنت أعمل في مصنع ساعات، ولم تكن هناك فرصةٌ للحديث بسبب صخب آلات التصنيع، إلا في وقت الاستراحة حينما نقوم بالتدخين خارجًا. عملت هناك لمدة خمس سنوات، ولكن كنت أتعلم الفرنسية بشكلٍ سيء، ولم أستطع تعلم القراءة بما يكفي. تطلب مني الأمر اثنا عشرة سنة لكي أبدأ الكتابة بالفرنسية. حاولْتُ ترجمة قصائدي المكتوبة بالهنغارية إلى الفرنسية. لم يكن الأمر ناجحًا بذلك القدر، ولكن استطعت استعمال بعض العناصر الموجودة في نصوصي النثرية لاحقًا.

 

المحاور: ما هي المفاهيم التي آمنت بها كنتِ حينما كنت تنظرين للحياة أثناء عملك في مصنع الساعات؟ وكيف كانت فرص الكتابة بالنسبة لك؟

أغوتا كريستوف: في البداية لم تكن هناك أي فرصة في العمل ككاتبة وترك مصنع الساعات الذي أعمل فيه. لو استمريت بالكتابة باللغة الهنغارية لما كان هناك أمل بالانتشار إطلاقًا. حولت لغة الكتابة إلى الفرنسية لكي أعرف جدوى ما أقوم به. كان كل شيء صعبًا في ذلك الوقت، لدرجة أن أربعة مهاجرين معنا في نفس المدينة قاموا بالانتحار. لم يكن هناك أي أملٍ ظاهر.

 

المحاور: هل كانوا يشعرون بالعزلة؟ هل أتوا إلى مجتمع مغلق، فَصَعُبَ عليهم الاندماج فيه؟

أغوتا كريستوف: لم يكن لديهم خيار آخر، ولم يكن عملهم لطيفًا. تم زجّ الجميع في مصانع الآلات، ولم توجد إمكانية للعودة مطلقًا. أكمل العديد من المهاجرين طريقهم إلى بلدٍ ثالث لأنهم لم يحتملوا العيش في سويسرا.

 

المحاور: كيف ينظر لك المشهد الثقافي السويسري ككاتبةٍ سويسرية اليوم؟ وهل ترين نفسك كذلك؟

أغوتا كريستوف: صحيحٌ أني أكتب بالفرنسية، إلا أنني لا زلت هنغارية، وأمتلك جواز سفر تم تجديده للتو. يحترمني الناس في سويسرا كثيرًا، وقد فزت بالعديد من الجوائز، وتمت دعوتي إلى العديد من الأماكن.

 

المحاور: هل تتابعين ما يحدث في الأدب السويسري؟

أغوتا كريستوف: كلا، فأنا أؤمن بأني خارج هذا النطاق. من الصعب على أية حال أن نتحدث عما يسمى بـ”الأدب السويسري”، وذلك لأن كتابتهم ترتبط كثيرًا بانتماءاتهم، سواء كانت لألمانيا أو فرنسا. دائمًا ما أجد السويسريين الألمان على تواصل مستمر مع ألمانيا، في حين أن السويسريين الفرنسيين يجدون صعوبة في التواصل مع فرنسا.

 

المحاور: نستطيع إذن أن نقول بأنك كنت محظوظة إذا ما نظرنا إلى ظروف سيرتك الكتابيّة، فقد وجدت طريقك إلى مرتبة مميزة ومهمة.

أغوتا كريستوف: ما صنع ذلك هو أنني نشرت كتبي في باريس، ولولا ذلك لم يعرفني أحدٌ على الإطلاق. تمت ترجمتي من تلك المدينة إلى خمس وثلاثين لغة، بينما لا يحصل المؤلفون السويسريون على ترجمةٍ بهذا القدر. كتبت العديد من المسرحيات الحية ومسرحيات المذياع قبل رواياتي، وهناك الكثير ممن يتبناها الآن، حتى في اليابان! ولكن – والحق أقول – بأني لم أتوقع كل ذلك القدر من النجاح. بدأ كل ذلك سنة 1986، وقد كانت بدايةً متأخرة، وأنا لا أستثني نفسي من هذا التأخير. لكني لم أستطع التحدث بالفرنسية جيّدًا قبل ذلك.

 

المحاور: الكتابة بأسلوبك، وهو استخدام الجمل المقتضبة، نوع شائع. هناك العديد من المؤلفين الذين يستخدمون هذا النوع، حتى في أوساط المهاجرين. يبدو أن مثل هذه الكتابة تجد انتشارًا بين القراء…

أغوتا كريستوف: لم أكتب بهذا الأسلوب لهذا السبب، بل كتبت لأني كنت مدفوعة بقصائدي، والتي كانت عاطفية وناعمة جدًا. لذلك أردت الكتابة بطريقةٍ أكثر جفافًا وفائدة. كان ابني في الثانية عشر من عمره، واستفدت من واجباته المنزلية، وقد ظهر ذلك في رواياتي من خلال الجمل البسيطة والأقرب للطفولية. من يتحدث في «الدفتر الكبير» هم أطفال، وكان ابني يكتب بذات أسلوبهما. تُستخدم الرواية الآن لتدريس اللغة في العديد من الأماكن، حتى أنهم يدرّسون الأطفال بها. بعد صدور «الدفتر الكبير» تغيَّر أسلوبي قليلًا، لكنه بقي جافًا وبسيطًا.

المحاور: يقول العامل في مصنع الساعات، وهو الشخصية الرئيسية في رواية «أمس»، بأنه يكتب داخل رأسه، وذلك لأن الأمر يكون أسهل مقارنة بوضع ما نود كتابته على الورق؛ إذ أن الطريقة الأخرى ستسبب بتشتت الأفكار ولن تخرج بنتيجة جيدة بسبب الكلمات. هل كنت تترجمين أفكارك من الهنغارية عندما كنت تكتبين أولى جملك بالفرنسية؟ هل كنت كلماتك أدق في وصف ما تريدين التعبير عنه بحكم أنها كانت تمر عبر منخل الترجمة؟

أغوتا كريستوف: حسنًا، أعتقد بأن هذه مشكلة أمام كل كاتب، لأنه لا يمكن لنا أن نعبر بدقة عما نقصده. كنت أكتب وأحذف ما أكتبه في نفس الوقت، وقد حذفت الكثير وخصوصًا الصفات والأشياء غير المحسوسة التي تقبع في المشاعر. على سبيل المثال، أذكر بأني كتبت هذه العبارة التالية: “عيناها اللامعتان”، ومن ثم فكرت: هل تلمع العينان حقًا؟! ونتيجة لذلك قمت بحذف هذه الصفة.

المحاور: وعلى الرغم مما تقولين فإن هناك العديد من الأشياء غير الواقعية في رواية أمس، فقد كان الحلم والواقع يتداخلان بشكل مستمر.

أغوتا كريستوف: لكن ذاك أمر مختلف، فتلك الأحلام موجودة فقط في «أمس»؛ وقد كتبت العديد من قصائدي القديمة باللغة الهنغارية في وصف الأحلام.

 

المحاور: بجانب أسلوبك المقتضب، فأنتِ كثيرًا ما تتركين للخيال مهمة استحضار المكان عوضًا عن كتابته. لا يمكن لنا في بعض الأحيان أن نعرف أين نحن، أو من يتحدث.

أغوتا كريستوف: تعودت على ذلك حتى في مسرحياتي. أنا لا أحدد أين يحدث ذلك الشيء أو لمن يحدث. لم أرد تسمية أي شيء.

 

المحاور: كيف تكتبين؟ وإلى أي قدر تستطيعين المضيّ في كتابتك؟

أغوتا كريستوف: حينما بدأت الكتابة كان هنالك ثلاثة أطفال، ولم أستطع العمل إلا إذا ذهبوا إلى المدرسة. كنت أكتب بيدي، ولم تكن لدي آلة طابعة. عندما أكون مشغولة بكتابة رواية، فإن ذهني يبقى منشغلًا بها تمامًا، حتى وأنا أقوم بأعمال المنزل. أفكر بها ولا تبارح ذهني مطلقًا، وعندما أجلس للكتابة، تحضرني كل الجمل. لا أستطيع أن أخبرك عما يحدث ذلك في نفس اللحظة التي أجلس بها، لأني لم أعد أكتب.

 

المحاور: لماذا؟

أغوتا كريستوف: لا أعرف. فقدت اهتمامي بالأدب بشكلٍ أو آخر. المثير هو أني عندما أكون منشغلة بأمرٍ ما، كالعمل في مصنع أو العمل كبائعة، أجد أن هناك وقتًا للكتابة. والآن، بعدما صرت من دون حاجة للكتابة، وهناك خادمة تقوم بأعباء المنزل، فإني لا أقوى على الكتابة.

 

المحاور: ما الذي يفعله أطفالك الآن؟

أغوتا كريستوف: لدي ثلاثة أطفال. وُلدت الأولى في هنغاريا، وتدعى «شوشا»، وهي مديرة ثقافية في إحدى المراكز السويسرية. الثانية اسمها «كارين»، ولدت في سويسرا وتعمل ممثلة في باريس. أما الثالث فهو صبي، وكان يتاجر بالكتب، أمّا الآن فهو موسيقي. أواصر الثلاثة متينة تجاه سويسرا، ومع ذلك فهم فخورون بكون جزء منهم هنغاري. وحتى أحفادي كذلك.

 رابط المقابلة في جريدة الرياض

رسالة حول الكتابة – إيتالو كالفينو

رسالة لإيتالو كالفينو حول الكتابة

ترجمة: راضي النماصي

       هذه الترجمة مهداة إلى صديقي وأستاذي عبدالله ناصر، لكونه أول من عرفني على المدهش كالفينو. وعبدالله – بالمناسبة – قاص سعودي من الطراز الأول بمجموعته الجميلة (فن التخلي) الصادرة عن دار التنوير في بيروت.

 FullSizeRender (1)

إلى لويجي سانتوتشي – ميلان

سان ريمو، 24 أغسطس 1959

عزيزي سانتوتشي،

          منذ شهر وأنا أتجول حاملًا صراخك التنبيهيَّ في بالي بينما أرتب الأفكار الرئيسية لردي عليك، ولكن لكتابة رسالة – كما تقول بطريقة أؤيدها – فالمرء يحتاج عطلة؛ وليست عطلة عادية – إن كان امرؤ ما يسكن على الشاطئ – بل مطرًا ومدًا بحريًا غزيرًا كي يحبسني في البيت. إن كان هذا التأجيل هو ما قاد لكتابة رسالتك الراقية والمنعشة، والتي وهبت روحي متعة كبيرة بمجرد أن عرفت أنها منك.. فيمكن لك أن تتخيل كيف شح خيالي هذا الصيف، فأنت تعلم كم من العمل والسخط والبناء والشك الذي يكتنف مثل هذا العمل.

          على أي حال فإن هذا العمل يستحق كل ذلك – وهنا ما يهم –، أو يمكن أن نقول بأن المرء لا يسأل عم إذا كان هذا العمل يستحق. فنحن أناس نوجد فقط إذا ما كنا نكتب، وإلا فنحن لن نوجد على الإطلاق. وحتى إن لم ننل قارئًا واحدًا، فسيتوجب علينا أن نكتب؛ وهذا الأمر ليس لأن ما نقوم به وظيفة فردية، فهو – على النقيض – حوار نكون أحد طرفيه بينما نكتب، مجرد خطاب جاد، لكن يمكن أن يفترض هذا الحوار  بأنه يحري مع كتّابٍ نحبهم ويقودنا النقاش معهم إلى أن نطور أنفسنا، أو مع من لم يأت بعد ونحن نجول بينهم لكي نجد طريقتنا التي تميزنا. أنا أبالغ: فلتكن السماء بعون من يكتب دون أن يقرأه أحد؛ لأن هناك الكثير ممن يكتبون لهذا السبب، ولا يستطيع الواحد منا الحِلْم على من لديه القليل ليقوله، كما لا يستطيع السماح بتكوين نقابة كتّاب أو المتاجرة بمشاعره.

          لا تزعجني مهاجمة الكتاب والنقاد لكمِّ الكتابة والنشر الهائلين التي تحدث هذه الأيام. ربما يخطؤون ما يرمون إليه وما يختارونه، ومشكلتهم هي هذه تحديدًا، أنهم يقومون بهذا العمل المفيد جدًا بشكل خاطئ، أي إتلاف وتثبيط الآمال والطموحات المفرطة. (من يتحدث إليك هو شخص يقوم في عالم النشر بتشجيع الكتّاب الشباب، وهذا أمر ضروري بالتأكيد؛ وما هو ضروري بقدره في مرحلة لاحقة هو تثبيط تسعة وأربعين كاتبًا من الخمسين الذين شجعهم.)

          وما يزعجني أكثر هم أولئك الذي ينظرون للرواية على أن تكون بهذا الشكل أو ذلك، أو أن ذلك الشخص يجب أن يكتب الرواية… إلخ. فليذهبوا إلى الجحيم! يا للطاقة المهدورة في إيطاليا من أجل محاولة كتابة الرواية التي ترضي جميع القواعد. كان من الممكن أن تفيد تلك الطاقة في إنتاج أشياء أكثر تواضعًا وأصالة ولديها ظهور أخف: قصص قصيرة، مذكرات، ملاحظات، شهادات… أو أي كتاب مفتوح بأي مستوى، دون خطة مسبقة.

          أؤمن بالسرد شخصيًا لأن القصص التي أحبها هي التي تشتمل على بداية ونهاية، وأحاول كتابتها بأفضل ما تأتي به إلي بناءًا على ما يجب عليَّ قوله. نحن في فترة يمكن للفرد بها أن يقوم بأي شيء في الأدب، وخصوصًا في الكتابة القائمة على الخيال بشكل مطلق، وكل الأساليب والطرق في هذا الوقت متاحة. ما يوده العامة (وكذلك النقاد) هو الكتب (الروايات “المفتوحة”) الغنية بالإثارة والكثافة والعناصر…

          أنتظر المطر القادم وردك في هذا الحوار. أطيب الأماني.

          كالفينو.

 

لماذا أكتب؟ – يونغ تشانغ

فرغت صباح اليوم من قراءة الرواية السيرية (بجعات برية) للكاتبة البريطانية من أصل صيني يونغ تشانغ، وربما تكون أحد أجمل قراءات هذا العام.

تمرر يونغ في هذا الكتاب تاريخ المجتمع والدولة في الصين منذ نهاية القرن التاسع عشر، وذلك عبر سيرتها الذاتية وسيرة أمها وجدتها.

يندرج ما فعلته تشانغ في نوع مما أسميه “التأريخ الشعبي”، وهذا النوع يجمع بين حميمية المذكرات وتوثيق التغير الاجتماعي والسياسي الذي حدث لشعب المليار ونصف، وذلك دون الاكتفاء ببعض الالتقاطات أو النظر من الخارج كما يفعل هاوارد زن أو إدواردو غاليانو أو سفيتلانا ألكسيسفيتش – البيلاروسية النوبلية هذا العام.

يمتع هذا الكتاب القارئ العادي ويثير أقصى المشاعر المتنوعة مع شخصياته، ويفيد الباحث في علم الاجتماع فيما يتعلق بتشكل الظواهر والقوانين، ويثري المؤرخ عبر قيمته المعرفية العالية.

أختم بالقول أن ما جرى للبجعات الثلاثة في هذا الكتاب فظيع بكل المقاييس.

توصية لأصحاب النفس الطويل.

وكنوع من الامتنان، ترجمت مقابلة للمؤلفة حول الكتابة.
قراءة ممتعة.

لماذا أكتب؟ – يونغ تشانغ

ترجمة: راضي النماصي

 

p2898301a638302591

لماذا أكتب؟

الكتابة هي أكثر شيء يمتعني، فهي تمتصني تمامًا، وتهدؤني كما لا يفعل غيرها.

هل تكتبين كل يوم؟ إذا كنت كذلك، فكم ساعة تقضينها؟

كل يوم تقريبًا حينما أكون في لندن، وبأطول قدر ممكن.

أسوأ مصدر للتشتيت؟

الترحال. لكنه متعة بحد ذاته.

أفضل مصدر للإلهام؟

الوثائق التاريخية.

كيف تتغلبين على حبسة الكاتب أو الشك الذي يعتريك حول قدراتك؟

شعرت بالضياع بعدما كتبت مع جون هاليداي سيرة “ماو: القصة المجهولة” وترجمتها إلى الصينية وقيدت الملاحظات بها في نهاية عام 2007. لم أعتقد أني سأجد موضوعًا أخاذًا بقدره، لكني – ويا للسعادة – وجدت ما أكتبه عن تسيشي، إمبراطورة الصين الأرملة (1835-1908)، والتي كانت ملفتة للإنتباه.

هل هناك كاتب معاصر لا تفوتين جديده؟

إن كنت تقصد كاتبًا أتابع ما يصدره باستمرار فهو المدون القاطن في شانغهاي هان هان.

كاتبك الصيني المفضل؟

آيلين تشانغ.

أفضل كتاب عن الصين؟

الأرض الطيبة. إنه أحد أفضل الكتب بالتأكيد.

كتابك المفضل؟

أكن لكتاب “الحب الأول” لتورغينيف منزلة خاصة، فقد قرأته إبان الثورة الثقافية عام 1969 حين تم نفيي إلى جبال نينغان، والتي تقع جنوب سيشوان. اشترى أخي ذلك الكتاب مع المئات من الكتب الكلاسيكية الصينية والأجنبية التي نجت من محرقة “الثقافة” وبيعت في السوق السوداء في شينغدو. وكفتاة بعمر السابعة عشر، فقد وقعت في غرام تلك النوفيلا، وحفظت العديد من فقراتها عن ظهر قلب.

كاتبك المفضل؟

الوحيد الذي منحني متعة لا توصف حين أعدت قراءته هو فلاديمير نابوكوف.

ما هو الكتاب الذي توجَّب عليك قراءته ولكنك لم تفعلي؟

يوليسس.

بم تفكرين حينما تعودي بالزمن إلى أول ما نشرت في الماضي؟

“واو. هل كنت أعلم كل ذلك؟”. كان أول ما نشرته هو مقال حول اللسانيات، والتي كنت أدرسها خلال مرحلة الدكتوراة.

هل تغير الكتابة شيئًا؟

نعم، غيرت حياتي.

تأملات بول أوستر حول القراءة والكتابة

جزء من حوار الكاتب الأمريكي بول أوستر مع موقع BigThink.

ترجمة: راضي النماصي. 

س: كيف يقرأ الشخص مثل كاتبٍ جيّد؟

ج: حسنًا، نحن نصل هنا مرة أخرى إلى منطقة ضبابية وغير محددة، وذلك لأن الأمر يتعلق بالذوق الشخصيّ لكلّ فرد. أقصد بأن لديّ كتّابي الذين أمنحهم أقصى اهتمامي، وأعتقد بأنهم أفضل من كتب ويكتب حتى الآن. ولكنّي أعتقد أن قائمتي ستكون مختلفة عن قوائمكم. أهم شيء بالنسبة للكاتب الشاب هو أن يقرأ، ويقرأ بالذات للروائيين العظماء. أظن بأنّي أعني بكلمة “عظماء” أولئك الذين صمدوا أمام تحدّي الزمن، وأنتم تعلمون أولئك العظام جيّدًا، مثل هاوثورن، وميلفيل، ودوستويفسكي، وتولستوي، وكافكا، وديكنز. هؤلاء هم من أعتقد أنّ الشخص يستطيع جني أغلب الفائدة منهم. تستطيع أن ترى كيف يفعلون كلّ ذلك ببراعة، ولا أنسى فلوبير أيضًا ضمن أولئك الكتّاب. كل أولئك بقوا في تلك المنزلة لسبب، وهو أنهم بالفعل أفضل من يكتب. وأعتقد بأن على الشباب أن يتعلموا من الأفضل.

س: ما هو الفخ الشائع الذي يقع فيه المؤلفون الشباب؟

ج: أعتقد أن الفخ الذي يقع فيه أغلبهم هو نوعٌ من الغرور والاعتداد بالذات، وعدم القدرة على النظر خارج أنفسهم. أؤمن بأن من المهم أن ينظر الفرد إلى العالم عن كثب، وأن يرى الأحداث التي تجري من حوله، وهذا شيءٌ يصعب على غالبية الشباب.

وهناك فخ آخر يتمثل بكون الشباب يتمسكون بما يعتقدون أنه من الذكاء فعله. أعتقد بأنه ربما للذكاء مناطقه ومكانه في العالم، ولكن الحاجة المتأججة للكتابة هي ما تصنع العمل الجيد. فالأمنيات لا تساعدك. الكتابة تتحقق عندما تكون حاجة ملحة.

لذلك عندما أتحدث للكتّاب الشباب أقول لهم بألا يفعلوا ذلك. لا تكونوا مؤلفين. إنها طريقة فظيعة للعيش، ولن تنالوا منها إلا الفقر والعزلة والتجاهل. لكن إن كنتم تريدون ذلك، وهذا يعني أنكم توّاقون حقًا لفعل الكتابة، فتقدموا واكتبوا؛ لكن لا تتوقعوا أي شيءٍ من أحدٍ ما. لا يدين لك العالم بشيء ولم يطلب منك أحد أن تكتب. أفترض أن الشعور بالإنجاز هو ما يدفع الشباب للاعتداد بما يكتبون واعتقاد أنهم يستحقون العيش على ما يكتبونه، والأمر لا يجري كذلك.

tumblr_mdng0jsckl1rk8vlzo1_1280

من يحتاج للشعراء؟ – خورخي لويس بورخيس

جريدة “نيويورك تايمز” – 8 مايو 1971م

ما يقوم بمقايضته الكاتب أو الشاعر دائمًا غريب. أتذكر اقتباسًا لتشسترتون[1] يقول فيه: “هناك شيءٌ واحدٌ تبقى له الحاجة مستمرة: كل شيء!”. وبالنسبة للكاتب، تعني كلمة “كل شيء” أكثر من كلمة شاملة، فهو يأخذها بشكل حرفي، وتعني له الشيء الأهم والأساسي، أي التجربة البشرية بشموليّتها. على سبيل المثال، يحتاج الكاتب للعزلة، وينال حصّته منها. ويحتاج أيضًا للحب، ويجد من يشاطره الحب ومن لا يشاطره. ويحتاج للصداقة أيضًا.. بل للكون بأكمله في واقع الأمر. إذ يجب أن يكون الشخص شاردًا، يعيش حياتين بشكلٍ أو آخر، لكي يصبح كاتبًا.

منذ زمنٍ بعيد، نشرت كتابي الأول “[2]Fervor de Buenos Aires” سنة 1923. لم يكن هذا الكتاب مديحًا لبوينوس آيرس قدر ما كان محاولةً مني لوصف ما أشعر به تجاه هذه المدينة. عرفت لحظتها أن الكثير ينقصني، على الرغم من أنّي عشت في جوٍّ أدبي، فقد كان أبي أديبًا، ومع ذلك لم يكن الأمر كافيًا، حتجت إلى أكثر من ذلك ووجدته فعلًا على يد الصداقات وفي المحادثات الأدبية.

ما يجب أن تمنحه جامعةٌ عظيمةٌ لكاتبٍ شاب هو، وبشكلٍ دقيق، التالي: الحوار، فن النقاش، فن الموافقة، وفن الاختلاف؛ وربما يكون الأخير هو أهم تلك الفنون. بعيدًا عن كل ذلك، نستطيع أن نقول بأن اللحظة باتت مؤاتية حينما يحس الكاتب الشاب بأنه يستطيع صياغة مشاعره من خلال القصائد. يجب عليه أن يبدأ ذلك من خلال تقليد الشعراء الذين يحبهم. وهكذا، يجد الشاعر صوته الداخلي بينما يفقد ذاته أثناء التقليد، أي يعيش حياتين في ذات الوقت، حياته الواقعية بكل ما يمكنه، وحياةً أخرى يتقمص بها، يحتاج لخلقها، ويصيغ بها أحلامه واقعًا.

هذا هو الهدف الأساسي في برنامج كلية الفنون بجامعة كولومبيا. وأنا – في هذا المقام – أتحدث بالنيابة عن العديد من الشبان والفتيات الذين يناضلون في هذه الجامعة من أجل أن يصبحوا كتّابًا، ولم يجدوا صوتهم بعد. أمضيْتُ أسبوعين في هذا المكان شارحًا لهؤلاء الطلاب التوّاقين للكتابة، وأستطيع أن أرى ما تعنيه هذه الدورات لهم، وأهميتها للأدب. لا يحظى الشبان في بلادي بمثلها.

دعونا نفكر بكل الشعراء والكتّاب الذي لم يظهروا بعد، وعن احتمال جمعهم سويًا وتعليمهم في مكانٍ واحد. أؤمن بأن هذا هو واجبنا، مساعدة هذه الكفاءات المستقبليّة لتحقيق هدفهم النهائي بكشفهم لأنفسهم، والذي سيخدم الأدب العظيم لاحقًا. الأدب ليس مجرّد ضمٍ للكلمات، ما يهم فعلًا هو ما لم يقل، أو ما يمكن أن يُقرأ بين السطور. ما لم يكن مرتبطًا بالإحساس في دواخلنا، فليس الأدب إلا لعبة، وكلنا نعلم بالطبع أنه أكثر من ذلك.

كلّنا نملك متعة القارئ، ولكن الكاتب يملك تلك المتعة بالإضافة إلى مهمّة الكتابة؛ وتعدّ هذه التجربة مكافأة بالإضافة لغرابتها. نحن ندين لكل الكتّاب الشّباب بفرصة اجتماعنا سويًّا، وبفرصة الاتفاق والاختلاف، وأخيرًا ندين لهم بالوصول لحِرْفَةِ الكتابة.

الهوامش:

[1] ج. ك. تشسترتون – G.K. Chesterton – فيلسوف و شاعر وروائي وكاتب مقالات إنجليزي (1874-1936).

[2] “حماسة بوينس آيرس”، وهو ديوان شعري.

“مقديشو بالعربية”.. سرديات قرصان عربي – خافيير لوفين

«لا يعرف الناس ما الذي يعنيه أن تكون عربياً بعد السادسة من عمرك». هذا ما كتبه المؤلف الصومالي محمد علي ديريه في الغلاف الخلفي لمجموعته القصصية (السردية) «إلى كاراكاس بلا عودة». هاجر ديريه بعد مولده في الصومال في سنٍ مبكرة، ودرس في المملكة العربية السعودية والسودان، وهي تجارب تكوينية كان من شأنها أن تؤثر بعمق في مساهماته (مشاركاته) للكتابة العربية المعاصرة. مثل غيره من الكُتَّاب الصوماليين في الشتات، يجنح ديريه إلى التعامل مع الثيمات المعتادة حول الحرب والمنفى، ولكن من منظور جديد. فعلى عكس المؤلفين العرب في مدنٍ مثل بيروت وبغداد، يستخدم ديريه اللغة العربية لوصف حربٍ أهلية أخرى، ولكن على الجانب الآخر من البحر الأحمر. في كتاباته حول الهجرة، والتي يصفها بـ «سرديات قرصان عربي»، يتمثل العالم العربي كنقطة وصولٍ لا كنقطة مغادرة.

في قصة «لعنة الجنوب»، التي قمتُ بترجمتها أخيراً إلى الإنكليزية، يترك شخصٌ ما موطنه – ولا يقوم بتسميته الصومال مباشرة – لكي يبدأ حياة جديدة في السعودية. يحاول ذلك الشخص نسيان كل ما يتعلق بأرض أجداده، ولكن جهوده تبوء بالفشل في نهاية المطاف، فلا تزال بقايا الصومال مترسبة في ذهنه. على رغم أن ديريه لم يذكر الصومال أو الحرب الأهلية بشكل مباشر، إلا أن ملامحهما تنتشر على طول النص. وفعلاً، كان للإغفال المتعمد ما يشبه الصدمات المتكررة لذاكرة الشخصية الرئيسية.

عبَّر ديريه هنا عن العلاقة مع المنفى ليس جغرافياً، بل ولغوياً كذلك. تحيلنا قصة «لعنة الجنوب» إلى مصدرين مختلفين للغة العربية. الأول يتعامل مع التغيّر اللفظي الذي يلاحظه السارد وهو يرتحل داخل الجزيرة العربية: «عندما تعدى نجران ودخل الأراضي السعودية أتعبه تمرد الحروف على خط الحدود.. القاف الصريح جنوب الحد استحال كافاً مسخاً في شماله.. خشي من تشوه باقي الحروف العربية على امتداد الطريق شمالاً..». لا يشعر السارد بالراحة مع هذا التغيير؛ بدا وكأنه يفقد معالم طريقه تجاه النسيان مرة أخرى. تعلّم ذلك الشخص العربية واتخذها لغة له، بينما يحاول في الوقت نفسه نسيان لغته الأم، ولكنه في الوقت نفسه يكتشف أن لغته الجديدة تتخذ أشكالاً ولهجات عدة، كأن طريقه نحو الخلاص لن ينتهي. في نهاية القصة، تعاني الشخصية الرئيسية من حمى انتقلت له خلال وجوده في موطنه، وأثناء نوبات الحمى تضيع محاولات لغته الأم سدى في التغلب على اللغة العربية: «الهذيان لم يفضحه أمام الآخرين، فكان يهذي بلغته الأم والتي لا تلتقي مع العربية سوى في الأسماء..». وتذكرنا اللغة هنا، وهي استعارة للوطن، باستحالة نكران شخصٍ لجذوره أو محوها. على مدى عقود، تم تناول مواضيع مثل الحرب الأهلية والمنفى والهجرة من العديد من الروائيين الموهوبين في بلدان مثل مصر، المغرب، لبنان والعراق، لكن الروائيين الصوماليين أخيراً تناولوا إصدار كتابات مهمة باللغة العربية. عرض أولئك المؤلفون وجهات نظرٍ صومالية فريدة إلى القراء العرب من خلال الكلمات في نصوصهم، الجُمل، وحتى مَقاطع الأغاني التي يقتبسونها من اللغة الصومالية. وذلك مع مناقشة مواضيع لا تُطرح عادة في العالم العربي. إلى عام 2010، كانت رواية «نداء الحرية»، التي أصدرها الكاتب محمد طاهر أفرح عام 1976، هي الرواية العربية الوحيدة التي صدرت من مؤلفٍ صومالي. في بيروت عام 2010، نشر ديريه «إلى كاراكاس بلا عودة». وفي عام 2013 نال المركز السادس في جائزة الشارقة للإبداع العربي بفئة الروايات المرتقب إصدارها. كذلك، نشرت مؤلفة صومالية اسمها زهرة مرسل رواية بعنوان «أميرة مع إيقاف التنفيذ» في القاهرة عام 2012. إضافة إلى ذلك، قام العديد من المؤلفين الصوماليين الآخرين بنشر قصص قصيرة وقصائد ونصوص حول المنفى باللغة العربية على الإنترنت، من خلال صفحات مشتركة كـ «المستقبل الصومالي» و«الشاهد».

يملك هؤلاء المؤلفون طلاقة في اللغة العربية ومعرفة عميقة بالثقافة الأدبية العربية، ولكن أدبهم يمتد بروابط متينة تجاه جذورهم الصومالية. معظمهم ينتمي إلى الشتات الصومالي في الجزيرة العربية، وكذلك في بلدان أخرى مثل مصر أو سورية، حيث تعلموا وغالباً ولدوا هناك. يتزامن ظهور هذا النوع من الأدب مع ظهور جيل من الصوماليين الشباب الذين أرغموا على ترك أوطانهم كعاقبة للحرب الأهلية عام 1991 والخلل الاقتصادي والاجتماعي الحاصل جراء تلك الحرب. تقع أحداث نصوصهم في الصومال وفي بلدان أفريقية أخرى، وكذلك اليمن والسعودية وسورية. بهذا المنطق، يمكن مقارنتهم بمؤلفين غربيين ذوي أصول أفريقية وعربية وآسيوية يكتبون باللغة الإنكليزية، مثل جبران خليل جبران، ديانا أبو جابر، ومازا منجستي في الولايات المتحدة. يشترك هؤلاء المؤلفون في كون الصومال ملهمةً لهم، حتى ولو كتبوا عن مواضيع وقضايا جديدة تتعلق بتجربتهم في الغربة. ولكن بالنسبة إليهم، يُعد الوطن العربي وجهة جديدة عوضاً عن كونه وطناً مستعاراً، ولا تعتبر اللغة العربية وسيلة تعبير لهم بقدر ما تعتبر موضوعاً للمناقشة.

يقوم ديريه وكتَّاب صوماليون آخرون من خلال هذا الحراك بإثراء أدب المنفى العربي، وذلك من خلال استقاء مصادر عربية ومعايير عربية في سياق صوماليٍ يمنح من خلال ذلك الأدبَ العربي حدوداً أبعد. بينما يدعو ديريه نفسه بـ «القرصان»، هو يعتبر تاجراً بشكل أكبر في الحقيقة، وهو يقوم بعملية تبادلٍ ثري متخطياً المكان واللغة والثقافة.

تأملات حول الكتابة – باولو كويلو

يقول برايان ألديس، والذي جعلني أحلم كثيرًا بفعل كتابته للخيال العلمي: “هناك نوعان من الكتّاب: أولئك الذين يجعلونك تفكر، وأولئك الذين يجعلونك تحلم.”. أحد المبادئ التي أؤمن بها هي أن لكلّ شخصٍ على هذا الكوكب قصّةً واحدة جيدة على الأقل ليخبر بها جاره. فيما يلي بعض تأمّلاتي حول أشياء مهمّة في عمليّة خلق نصٍّ ما:

قبل كلّ شيء، على الكاتب أن يكون قارئًا جيّدًا. الكاتب الذي يلتزم بقراءة الكتب الأكاديمية ولا ينظر لما يكتبه الآخرون (وكلامي هنا يشمل التدوينات ومقالات الجرائد وغيرها) لن يعرف ميزاته وعيوبه.

إذن، قبل أن تبدأ بأي شيء، ابحث عن أولئك الذين يهتمّون بمشاركة تجاربهم عبر الكلمات. لم أقل “ابحث عن كتّابٍ آخرين”. ما أقوله هو أن تبحث عن أناسٍ بمهاراتٍ مختلفة، لأن الكتابة لا تختلف عن أيّ نشاطٍ آخر يتمّ بالحماس.

لن يكون رفاقك الجدد بالضّرورة ممّن ينظر لهم النّاس بتقدير ويردّدون بأن لا أفضل منهم. بل الأمر على النّقيض تمامًا، فهؤلاء يقعون في الأخطاء على الرغم من عدم خوفهم من الوقوع فيها، وهذا ما يجعل أعمالهم لا تُميَّز دومًا. لكن هذا النّوع من النّاس هو من يغيّر العالم؛ بعد أن يقع أحدهم في عدة أخطاء، ستجده يخطّط لعملٍ يصنع كلّ الفارق في مجتمعه.

لا ينتظر مثل هؤلاء أن تحلّ الأحداث في حياتهم قبل أن يجدوا الطريقة الأنسب للحديث عنها، بل يقررون الشيء ويقومون بفعله في نفس اللّحظة، وهم يعلمون أن هذا الأمر قد يكون خطيرًا للغاية.

العيش بجانب هذه النوعية من الناس مهم للكاتب، لأنه من المهم أن يعلم بأنه قبل أن يضع أي شيءٍ على الورق، يجب أن يكون حرًّا بما يكفي ليغير اتجاه كتابته حسب ما يجنح خياله. عندما تأتي أيّ جملةٍ إلى نهايتها، يجب أن يفكر الكاتب بأنه قد قطع شوطًا كبيرًا بينما كان يكتب، وأنه يقدر الآن على إنهاء نصّه بوعيٍ كامل أنه خاطر بما يكفي وقدم أفضل ما لديه.

أفضل رفاقك الجدد هو من لا يفكر كالآخرين. ولهذا، تجد نفسك واثقًا بحدسك بينما تبحث عنهم، ولا تهتم لملاحظات الآخرين. يحكم الناس على بعضهم بناءً على ما لديهم من إمكانيات، ويعتري رأي المجتمع تجاه الأشخاص في بعض الأحيان كبرياء ومخاوف.

انضم إلى أولئك الذين لن يقولوا: “انتهى الأمر. يجب أن أتوقف هنا.”. لأنه لا شيء يقف عند نهاية، مثل ما يتبع الربيع الشتاء. حينما تصل إلى طموحك، يجب أن تبدأ من جديد نحو طموحٍ آخر، مستخدمًا ما نلته من علم طوال مسيرتك للهدف السابق.

الحق بأولئك الذين يغنون، ويحكون القصص، ويستمتعون بالحياة، والسعادة تملأ أعينهم. لأن السعادة تستمر بذاتها وتمنع الناس من أن يكونوا عاجزين بسبب الإحباط والوحدة والمشاكل.

واحكِ قصتك، حتى لو كانت عائلتك هم من سيقرأها فقط.

محادثات مع الموتى – ألبرتو مانغويل

لطالما كانت القراءة بالنسبة لي شيئاً أشبه برسم الخرائط. ككل القراء، ما زالت لدي ثقة عمياء بقابلية القراءة على رسم خريطة لعالمي. أعلم أنه في صفحة ما، تقبع في أحد رفوف مكتبتي، والتي تحدق الآن فيَّ للأسفل، يوجد السؤال الذي يلح عليَّ في هذه الأيام، مكتوباً منذ زمن طويل عبر كلمات شخص لم يعلم بوجودي حتى. العلاقة بين القارئ والكتاب هي علاقة تمحو حدود الزمان والمكان، وتتيح لما أسماه فرانثيسكو دي كيفيدو في القرن الـ16 «محادثات مع الموتى». أنا أكشف نفسي في هذه المحادثات، وهي بالتالي تشكّلني وتهبني قوة سحرية محددة.

قبل ما يربو على ستة آلاف سنة، بعد بضعة قرون فقط من اختراع الكتابة، كان من يملك القابلية لفك الكلمات المكتوبة في زاوية منسية من بلاد ما بين النهرين يوصف بالكاتب وليس بالقارئ. ربما كان السبب لذلك هو إضعاف التركيز على أعظم مواهبهم، وهي القدرة على الوصول لأرشيف الذاكرة البشرية، وإنقاذ صوت تجربتنا البشرية من الماضي. منذ تلك البدايات النائية، أنتجت قوة القراء في مجتمعاتهم شتى أنواع المخاوف، ابتداءً بإحياء رسائل من الماضي، مروراً بخلق مساحات سرية لا يمكن الوصل إليها دون القراءة، وانتهاءً بقدرتهم على إعادة تعريف الكون والتمرد ضد الظلم، وكل ذلك يتم عن طريق صفحة معينة. بهذه المعجزات، نستطيع نحن القراء، وبتلك الصفحات، أن ننجو من الحقارة والغباء التي نبدو دائماً مدانين بهما.

ومع ذلك، ما زالت التفاهة مغرية. من أجل تشتيتنا عن القراءة، اخترعنا استراتيجيات للإلهاء؛ لكي تحولنا إلى مستهلكين نهمين، حيث يكون كل حديث هو المطلوب بدلاً عن الراسخ في الذاكرة. نحن نجلُّ الابتذال والطموح المالي بينما ننزع عن الفعل الثقافي أناقته ورقيه. استبدلنا المفاهيم الجمالية والأخلاقية بقيم اقتصادية، ونقدم وسائل ترفيه تمنح متعة لحظية ووهم محادثات كونية؛ عوضاً عن التحدي الممتع والبطء الأنيس الذي يرافق القراءة. قدمنا الشاشات الإلكترونية على الورق المطبوع، واستبدلنا المكتبات الورقية الضاربة بجذورها في الزمان والمكان بشبكات لا نهائية تقدم فقط اللحظية والتطرف كأشهر سماتها المجهولة.

هذه العقبات ليست جديدة. في باريس أثناء القرن الـ15، حيث أبراج الأجراس العالية، التي كان يختبئ بها كوازيمودو الأحدب، توجد بها خلوة راهب تستخدم كمكان للدراسة وكمختبر كيميائي. مد رئيس الشمامسة كلود فرولو يده إلى مجلد مطبوع فيها، وكان بيده الأخرى يشير إلى المعالم القوطية لكاتدرائية نوتردام، والتي يراها في الأسفل تحت نافذته. كان القس الحزين يقول: «هذا»، يعني الكتاب، «سيقتل تلك»، مشيراً إلى معالم الكاتدرائية. استناداً إلى فرولو، وهو معاصر لغوتنبرغ، سيدمر الكتاب المطبوع صرح الكتب المخطوطة، وستضع الطباعة نهاية للنصوص الأدبية للعمارة التي شيدت في العصور الوسطى، والتي كانت تحوي في كل عمود وعتبة وبوابة نصاً يستحق القراءة.

وبعد ذلك، كما نرى اليوم، أخطأ فرولو في نبوءته بالتأكيد. بعد خمسة قرون، استطعنا الولوج إلى معارف العمارة القروسطية، بفضل الكتاب المطبوع، مرفقة بتعليقات كل من فيوليت لي دوك وجون راسكن. إضافة إلى إعادة تخيلها عبر من لو كوربوزييه وفرانك غيهري. كان فرولو يخاف من أن التكنولوجيا الجديدة ستعدم القديمة، بينما نسي أن قدراتنا الإبداعية معجزة، وأننا نستطيع أن نجد استعمالاً آخر لآلة أخرى، فنحن لا نفتقر إلى الطموح.

تظل مغالطة فرولو باقية؛ بسبب من يقيم تعارضاً بين الأوراق المطبوعة والشاشات الإلكترونية. هم يريدون منا أن نعتقد بأن الكتاب – لكونه بالنسبة لهم مجرد أداة بفاعلية عجلة أو سكين، قادرة على حفظ الذاكرة والتجربة، وعلى التفاعل بصدق، تسمح لنا بالبداية في نص ما وإنهائه أينما نريد، ونضع التعليقات عليه في الهوامش، ونُخضع إيقاع قراءة النص لمشيئتنا- يجب أن يستبدل بأداة أخرى. هذه الخيارات المتعنتة تؤدي إلى تطرف تكنوقراطي. في عالم ذكي، تتشارك كل من الأجهزة الإلكترونية والكتب مساحة في طاولة العمل، وتوفر لدى كل منا خيارات مختلفة وإمكانيات متعددة للقراءة. كما يعلم القراء، فالسياق مهم، سواء أكان فكرياً أم مادياً.

في وقت ما، قبل قرون من قدوم المسيح، ظهر نص غريب يزعم أنه سيرة لآدم وحواء. طالما أحب القراء أن يتخيلوا ماضياً أو تكملة للقصص المفضلة لديهم، ولا تُعد القصص المذكورة في الكتاب المقدس استثناءً، بادئاً من بضع صفحات في سفر التكوين، والتي أشارت إلى قصة أسلافنا الأسطوريين، كتب شخص مجهول سيرة حياة آدم وحواء، معيداً ذكر مغامراتهما، وفي الغالب قصة شقائهما، بعد نفيهما من جنة عدن. في نهاية السيرة، تظهر إحدى حبكات ما بعد الحداثة، والتي تظهر في أقدم آدابنا بشكل شائع، حينما تطلب حواء من ابنها شيث أن يكتب سيرة حقيقية لما حدث لهم. النص الذي يحمله القارئ الآن هو تلك السيرة التي كتبها شيث. ما قالته حواء لشيث هو التالي: «لكن استمعوا لي، يا أولادي. اجعلوا لأنفسكم ألواحاً من الطين والحجر، واكتبوا عليها قصة حياتي وحياة أبيكم، وكل ما شاهدتموه أو سمعتموه منا. إن قضى علينا الرب بالطوفان، فستتحلل ألواح الطين وتبقى ألواح الحجر. وإن قضى علينا بالحريق، فستذوب ألواح الحجر وتقسو ألواح الطين». لم تقف حواء بحكمتها على خيار واحد فقط بين الطين والحجر، فربما يكون النص المنحوت هو نفسه، لكن كل مادة من مواد اللوح لها ميزتها، وهي أرادت الميزتين لكي تخلد.

مضت 20 سنة تقريباً منذ أنهيت (أو هجرْتُ) كتاب «تاريخ القراءة». في ذلك الوقت، كنت أعتقد بأني أستكشف فعل القراءة، وخصائص الحِرَف المتعلقة بها، وكيف أتت إلى الوجود. لم أعلم بأني أؤكد حقنا كقراء في مطاردة رسالتنا (أو شغفنا)، متخطين مخاوفنا الاقتصادية والسياسية والتكنولوجية، في عالم خيالي لا حدود له، حيث لا نكون مضطرين إلى اختيار شيء واحد، ونملك جميع الخيارات مثل حواء. الأدب ليس عقيدة، فهو يوفر أسئلة، ولا يوفر أجوبة قاطعة. المكتبات هي أماكن للحرية الفكرية، وأي عواقب تعتريها فهي منا وحدنا. القراءة هي، أو يمكن لها أن تكون، أوساطاً لا نهاية لها، أتيناها لكي نعرف القليل عن أنفسنا، ليس عن طريق الاعتراض بل عن طريق التعرف على كلمات كتبت لنا شخصياً على حدة، في مكان ناء ومنذ زمن سحيق.

القرّاء الجيدون والكتّاب الجيدون – فلاديمير نابوكوف

تعتبر مادتي، وبمساعدة أشياء أخرى، نوعًا من تحقيق استقصائي حول لغز الشكل الأدبي.

قد تفيد عناوين مثل «كيف تكون قارئًا جيدًا» أو «اللطف مع المؤلفين» بتقديم ترجمة لتلك المناقشات العديدة حول مؤلفين كثر، وذلك لأجل خطتي وهي أن نتعامل بحب وبشكل حميمي وبالتفاصيل مع عدة روائع أوروبية. قبل مائة عام، كتب غوستاف فلوبير رسالة تضمنت الملاحظة التالية: “كفى بالمرء حكمة لو عرف جيدًا نصف دزينة من الكتب.”

على المرء في القراءة أن يلاحظ التفاصيل ويعاملها برفق. لا بأس بالحكم عندما تستكشف كل أغوار الكتاب الواضحة بحب. إذا بدأ القارئ وفي باله حكم مسبق، سيبدأ بالنهاية الخاطئة وسيهرب من الكتاب قبل أن يفهمه حتى. فلا يوجد شيء أكثر مللًا وظلمًا من قراءة كتاب، ولنقل «مدام بوفاري»، بتصور مسبق أنها شجب للبورجوازية. يجب علينا أن نتذكر دائمًا أن العمل الفني ليس سوى خلق عالم جديد دومًا؛ ولذلك يجب أن نتفحص ذلك العالم الجديد قدر المستطاع، أي أن نصل إليه وكأنه شيء خلق للتو، وليس له صلة بالعوالم التي نعرفها حاليًا. عندما يُدرس ذلك العالم بقرب، عندها، وعندها فقط، فلنختبر ما يربطه بالعوالم الأخرى، وبالفروع الأخرى من المعرفة.

يبرز سؤال آخر: هل نستطيع التوقع بأننا سننال قدرًا من المعرفة عن الأماكن والتاريخ من رواية ما؟ هل يستطيع أن يكون أحدنا بهذه السذاجة ليعتقد بأنه يستطيع تعلم أي شيء عن الماضي من تلك الروايات المترهلة “الأفضل مبيعًا” والتي تلتقطها أندية الكتب بوصفها روايات تاريخية؟ لكن ماذا عن نيل المعرفة من الروائع الأدبية؟ هل نستطيع الاعتماد على صورة جاين أوستن لإقطاعيي إنجلترا وملاك الأراضي فيها وتلك المساحات الشاسعة، بينما كل ما كانت تعرفه هي صالة استقبال لأحد القساوسة؟ وهل نستطيع القول بأن رواية «منزل كئيب» الرومانسية الرائعة لديكنز، والتي جرت أحداثها في مدينة لندن الخلابة كانت دراسة تاريخية للندن قبل مائة عام؟ بالتأكيد لا. وهذا الشيء ينطبق على العديد من الروايات الأخرى في تلك السلسلة. الحقيقة هي أن كل الروايات العظيمة هي في المقام الأول حكايات عظيمة، والروايات في هذه السلسلة «سلسلة الروائع» هي حكايات في قمة الروعة في المقام الأول.

المكان والزمان، ألوان فصول السنة، خلجات العقل وحركات الجسد؛ كل هذه بالنسبة للكاتب العبقري – بما استطعنا تخمينه، وأنا واثق أن تخميننا صائب – ليست ملاحظات عادية يمكن التقاطها من خزنة الحقائق العامة، بل هي سلسلة من المفاجآت الفريدة التي تَعلمها الفنانون العظام ليعبروا بطريقتهم الخاصة. بالنسبة لمؤلفين أقل شأنًا، فتُترك لهم الكتابات المبتذلة للأماكن المعتادة والشائعة، لأنهم لا يهتمون بإعادة تكوين العالم؛ هم ببساطة يفعلون أقصى ما لديهم لكي يخرجوا عن ترتيب معين من الأشياء وعن الأنماط التقليدية للكتابة القصصية. ما يستطيع كتابته أولئك المؤلفون العاديون هو بضع تراكيب معقدة تضع حدًا مسليًا بطريقة معتدلة عابرة، لأن القراء العاديين يحبون أن يتعرفوا على أفكارهم خلف قناع ظريف يمكن كشفه بسهولة. لكن الكاتب العظيم، ذلك الشخص الذي يرسل كواكبًا دوارة، ويخلق شخصًا نائمًا ويعبث بأضلعه وأحشائه بكل شغف، لا يهمل أي قيْمة، ويجب عليه أن يخلق قيَمه بنفسه. فن الكتابة هو عمل عقيم إن لم يعْنِ بالمقام الأول أنه فن إمكانية التخيل. قد تكون مادة هذا العالم واقعية بما يكفي – بعيدًا حيثما ترنو الواقعية –، لكنها لا توجد أبدًا كوحدة كاملة. هي محض فوضى، والكاتب يقول لها “انطلقي!” سامحًا لهذا العالم أن يومض ويندمج ببعضه ليظهر بشكله الناتج أخيرًا. تمت إعادة دمج هذا العالم بكل ذراته عن طريق ذلك الكاتب، وليس بشكل سطحي عبر ما هو مرئي ومحسوس. الكاتب هو أول من يلمع هذا العالم ويخلق العناصر الطبيعية التي يحتويها هذا العالم. يجب أن يكون التوت الموجود في ذلك العالم صالحًا للأكل، ويمكن ترويض ذلك المخلوق الأرقط الذي اعترض طريقي. ستُسمَّى تلك البحيرة بين الأشجار بحيرات العقيق، أو بشكل فني أكثر، بحيرة مياه الغسيل. وذلك الضباب عبارة عن جبل، وهذا الجبل يجب أن يُحتل. يصعد الكاتب العظيم في منحدر ذلك الجبل غير المطروق؛ وحين يصل القمة، على تلة عاصفة، من سيواجه؟ سيواجه ذلك القارئ السعيد الذي يتنفس بصعوبة، وبكل عفوية سيتعانقان ويرتبطان للأبد، إذا قُدر للكتاب أن يخلد.

في إحدى الليالي، وفي كلية تتبع إحدى المحافظات النائية، حيث كنت ألقي محاضرة مطولة، اقترحت اختبارًا صغيرًا: طلبت عشرة تعاريف للقارئ، ومن هذه العشرة يجب على الطلاب أن يختاروا منها أربعة تختلط لتكون التعريف الأمثل للقارئ. للأسف أضعت القائمة، لكن ما أستطيع تذكره أن التعريفات كانت شيئًا من هذا القبيل. اختر أربعة إجابات للسؤال عما يجب على القارئ فعله ليكون قارئًا جيدًا:

  • يجب على القارئ أن ينضم لنادي كتاب.
  • يجب على القارئ أن يجد نفسه في شخصية روائية.
  • يجب على القارئ أن يركز على الزاوية الاجتماعية-الاقتصادية حينما يتعامل مع الكتاب.
  • يجب على القارئ أن يفضل قصة مليئة بالأحداث والحوارات على قصة لا تملك شيئًا.
  • يجب على القارئ أن يشاهد كتابه في فيلم.
  • يجب على القارئ أن يكون كاتبًا ناشئًا.
  • يجب على القارئ أن يملك خيالًا جامحًا.
  • يجب على القارئ أن يمتلك ذاكرة جيدة.
  • يجب على القارئ أن يملك مفردات كثيرة.
  • يجب على القارئ أن يكون لديه حس فني.

مال الطلاب بشكل كبير للتعريف العاطفي، الصورة المتحركة، والزاوية الاجتماعية-الاقتصادية أو التاريخية. بالطبع، كما خمنتم، القارئ الجيد هو من يملك الخيال، الذاكرة، المفردات، وبعض الحس الفني.. والذي أود تطويره في نفسي والآخرين متى ما سنحت الفرصة.

بالمناسبة، أنا أستعمل كلمة “قارئ” بشكل فضفاض جدًا. الغريب بما فيه الكفاية، أن الشخص لا يستطيع قراءة كتاب، بل يستطيع فقط إعادة قراءته. القارئ الجيد، القارئ العظيم، القارئ النشط والخلاق هو قارئ يعيد ما يقرأ، وأود أن أخبركم عن السبب. عندما نقرأ كتابًا للمرة الأولى ونحن نحرك أعيننا بمشقة من اليسار لليمين، سطرًا إثر سطر وصفحة إثر صفحة، فإن هذا العمل الجسماني المعقد على الكتاب، والذي يجعلنا نتعرف عليه في حدود الزمان والمكان، يقف بيننا وبين التقدير الفني. عندما نطالع لوحة فنية فنحن لا نحتاج أن نحرك أعيننا بطريقة خاصة، حتى لو كانت مثل الكتاب في عمقه وبما ترمي إليه. نحن نحتاج وقتًا عندما نقرأ أي كتابٍ لنتآلف معه. لا نملك عضوًا حسيًا – كالعين مع اللوحة – يمكن أن يأخذ الصورة بأكملها ويستمتع بتفاصيلها. لكن عندما نقرأ للمرة الثانية، الثالثة، الرابعة، فإنا بشكل ما نتعامل مع الكتاب كما لو كان لوحة.

على كل حال، دعونا لا نخلط بين العين المحسوسة، ذلك الانجاز المهول للتطور، مع العقل، ذلك الانجاز الأكثر تطورًا. أول ما يجذبه الكتاب، مهما يكن، سواءً رواية أو كتاب علمي – والخط الفاصل بينهما ليس واضحًا كما يعتقد العامة – هو العقل. يجب أن يكون العقل، الدماغ، ما هو أعلى العمود الفقري، الأداة الوحيدة التي نتعامل بها مع الكتاب.

والآن، وهذا يحدث كذلك، يجب علينا تأمل السؤال التالي: ما الذي يفعله العقل عندما يواجه القارئ النكد كتابًا جميلًا؟ أولًا، سيذهب المزاج المتجهم بعيدًا، وبشكل أفضل أو أسوأ سيدخل القارئ في روح اللعبة. الجهد المبذول لبدء قراءة كتاب – خصوصًا إذا مُدح من قِبل أناس يعتبرهم القارئ الناشئ جادين أو متابعين للكتب الكلاسيكية – حتى هذا الجهد يصعب تحقيقه، لكن حينما يبذل الجهد، ستكون المنح متعددة ومميزة.

بما أن الكاتب العظيم يستخدم خياله أثناء الكتابة، من الطبيعي والعدل أن يستخدم القارئ خياله أيضًا.

هناك بطبيعة الحال صنفان من الخيال على الأقل في حالة القارئ، ولنرَ أي حالة منهما يجب استعمالها عندما نقرأ كتاباً. أولًا، هناك المتخيل المتواضع، والذي يجنح إلى المشاعر البسيطة، وتلك المشاعر ذات طابع شخصي بالتأكيد. (هناك عدة أصناف تدرج تحت هذا الصنف، في هذا النوع من القراءة العاطفية). قد يغمر أي موقف في الكتاب هذا القارئ بالمشاعر لأنه يتذكر موقفًا حصل له أو شخصًا يعرفه أو تعرف عليه مسبقًا. أو قد نجد أن هناك قارئًا يحتفي بكتاب لأنه يتذكر بلدًا، أو منظرًا، أو طريقة عيش يتذكرها بحنين كجزء من ماضيه. أو، وهذا أسوأ ما قد يفعله قارئ من هذا النوع، أن يعرّف نفسه كإحدى شخصيات الكتاب. لا أود من القراء أن يستخدموا هذه النوعية المتواضعة من الخيال.

إذًا ما هي الأداة الأصلية، والتي يجب أن يستعملها القارئ؟ إنها الذائقة الفنية بالإضافة للخيال المجرد. ما أعتقد أنه يجب أن يؤسس، هو مقياس جمالي متناغم بين عقل القارئ وعقل الكاتب. يجب علينا أن ننعزل ونستمتع بذلك الانعزال، بينما في نفس الوقت نستمتع بشغف بالموجة الداخلية لتحفة ما. من المستحيل أن تكون محايدًا في مثل هذه المواضيع. كل شيء يجلب الاهتمام يكون إلى حد ما غير موضوعي. على سبيل المثال، قد تكون أنت الجالس هناك مجرد حلم بالنسبة لي، بينما أكون كابوسك الدائم. ما أعنيه هو أن القارئ يجب أن يعرف متى وأين يكبح خياله، وهذا يتحقق بأن نفهم ذلك العالم الخاص الذي صاغه المؤلف في منعزله. يجب علينا أن نسمع أشياءً ونراها، أن نتخيل الغرف، الملابس، وأخلاق الشخصيات التي صاغها المؤلف. كان لون عيني فاني برايس في رواية «مانسفيلد بارك[1]» وأثاث غرفتها الصغيرة الباردة تفاصيل مهمة لا غنى عنها.

كلنا بطبيعة الحال نملك أمزجة مختلفة نتعامل بها مع النصوص، وأستطيع أن أقول بأن أفضل مزاج للقارئ يجب أن يحظى به ويطوره هو خليط من الحس الفني والعلمي. الفنان الشغوف وحده سيتعامل بموضوعية حادة في سلوكه مع الكتاب، والحكم بشكل علمي بارد على الكتاب ليس إلا تدميرًا لحرارة البديهة والحدس. إن كان القارئ – على أية حال – يخلو من العاطفة والصبر، صبر العالم وشغف الفنان، من الصعب عليه أن يستمتع بقراءة الأدب العظيم.

لم يوجد الأدب حين كان يصرخ الطفل باكيًا “ذئب، ذئب!”، وكان الذئب خارجًا من الوادي على إثره. وُجد الأدب حينما كان يصرخ الولد “ذئب، ذئب!” ولم يكن هناك ذئب خلفه أصلًا. أن يأكل الذئب صاحبنا المسكين بسبب كذبه المتوالي هو أمرٌ عرضي تمامًا، لكن هناك ما هو أهم. ما بين الذئب الذي يجري في الأحراش، وذلك الذئب في تلك القصة الطويلة، هناك وميض بينهما. ما يومض بينهما، ذلك المنشور الذي يعكس الضياء، هو فن الأدب.

الأدب عبارة عن ابتكار، والكتابة القصصية تنبع من الخيال وحده. أن يُقال عن قصة ما أنها حقيقية لَهُوَ إهانة للفن وللحقيقة في نفس الوقت. كل كاتب عظيم هو مخادع كبير، لكنه يواجه في غشه الطبيعة. الطبيعة أيضًا تخادعنا. من أصغر إشاعة تجري بيننا إلى الألوان المعقدة التي تحمي الطيور والحشرات، هناك في الطبيعة نظام مذهل من الأشياء الساحرة والخدع. الكاتب فقط يتبع إشارة الطبيعة.

لنعد لحظة إلى صديقنا الهارب من الذئب. نستطيع أن نرتب الأمور بالشكل التالي: سحر الفن كان في ظل الذئب الذي اختُرع عمدًا. أما أحلام الصبي حول الذئب، وبعد ذلك قضية خداعه للناس فقد صنعت قصة جيدة. حينما لقي حتفه في النهاية، أعطت القصة مغزى ودرسًا جيدًا فيما وراء النص. لكن الطفل كان الساحر الذي أضاف للقصة طعمها، كان هو المبتكر.

هناك ثلاث وجهات للنظر نستطيع أن نرى بها الكاتب: قد نراه حكاءً، وقد نراه كمعلم، أو قد نراه كساحر. الكاتب العظيم يحتوي هؤلاء الثلاثة، لكن الساحر بداخله هو من يتحكم به ويجعله كاتبًا عظيمًا.

نحن نبحث لدى الحكاء عن الترفيه، عن المتعة العقلية بأبسط صورها، عن المشاركة العاطفية، عن متعة الارتحال إلى مناطق نائية في الزمان والمكان. بينما لدى المعلم نحن ننظر بطريقة مختلفة ترتبط بالعقل، وليس من الضرورة بطريقة أرقى. نحن نذهب للمعلم الموجود بداخل الكاتب ليس فقط للتربية الأخلاقية، بل حتى للمعرفة المباشرة والمعلومات البسيطة. للأسف، عرفت أناسًا كان الغرض من قراءتهم للرواية الفرنسية والرواية الروسية مجرد التعرف على الحياة في باريس السعيدة أو روسيا الكئيبة. أخيرًا، وما يجب أن نضعه فوق كل شيء، الكاتب العظيم هو دائمًا ساحر عظيم، وهنا نأتي إلى الجزء الممتع.. حينما نحاول أن نتشرب ذلك السحر الشخصي لعبقريته، وأن ندرس شكل رواياته وأشعاره والخيال المتقد فيهما والنمط التي تتركب منه.

تختلط الأوجه الثلاثة للكاتب العظيم – السحر والقصة والمغزى –لتجتمع في نقطة واحدة هي الأكثر إشراقًا وفرادة من نوعها، بما أن سحر الفن قد يوجد في أعمق نقطة من القصة، في أكثر الزوايا احتواءً للفكر. هناك روائع لا تحتوي سوى فكر جاف توقظ فينا الحس الفني كما توقظه رواية «مانسفيلد بارك» أو أي رواية لديكنز مليئة بالصور والأحاسيس. يبدو لي أن التركيبة الجيدة لتقييم رواية ما هي، وعلى طول الرواية، مجرد دمج بين دقة الشعر والحدس العلمي. فمن أجل أن نستلقي في ذلك السحر، يجب أن نرى القارئ المميز. فهو لا يقرأ الكتاب بقلبه، ولا بدماغه، بل بعموده الفقري. هناك تحدث تلك الرعشة المنبهة على الرغم من أننا نجعلها بمنأى أثناء القراءة. عندها، نستمتع حسيًا ومعنويًا ونحن نرى ذلك الفنان يبني قلعة أفكاره بالحديد الجميل، والزجاج الأجمل.

[1]  Mansfield Park، هي الرواية الثالثة للكاتبة الإنجليزية جاين أوستن. نشرتها سنة 1814.

حوار بابلو نيرودا مع مجلة باريس ريفيو

تقديم

منذ أشهر، حصلت لي تجربة نشر سيئة مع إحدى المواقع العربية الثقافية. اليوم، أعيد طرح هذا الحوار الرائع، والذي ترجمته بحب لشاعرنا العذب بابلو نيرودا، متذكرا مقولته التي تجسد الصورة أعلاه:

“الضحك لغة الروح”

قراءة ممتعة!

حوار بابلو نيرودا مع مجلة باريس ريفيو – يناير 1970

أجرى الحوار: ريتا غويبرت

ترجمة: راضي النماصي

“لم أعتقد بأن حياتي ستنقسم يومًا بين الشعر والسياسة.”، بدأ بابلو نيرودا خطاب ترشحه لرئاسة تشيلي عن طريق الحزب الشيوعي بهذه العبارة. “أنا من أبناء هذه البلاد، والذين عرفوا لعقود نجاحات وإخفاقات وصعوبات تواجدنا كوطن واحد، ومن شارك الفرح والألم بنفس القدر مع كل الشعب. أتيت من طبقة عاملة، ولم أحز في يومٍ ما سلطة، وكنت ولاأزال أعتقد بأن واجبي هو خدمة شعب تشيلي بأفعالي وبقصائدي. عشت وأنا أغني لهم، وأدافع عنهم.”

لأنه مصنف يساريًا، سحب نيرودا ترشيحه بعد شهور من المنافسة الصعبة في الحملات الانتخابية، واستقال من أجل دعم مرشح الوحدة الشعبية: سلفادور الليندي. أجريت هذه المقابلة في منزله في إيسلانيغرا خلال شهر يناير سنة 1970 قبل استقالته.

إيسلانيغرا، أو الجزيرة السوداء، ليست بجزيرة وليست سوداء. هي منتجع شاطئي أنيق يبعد أربعين كيلومترًا جنوب فالباريسو، وعلى بعد ساعتين بالسيارة من العاصمة سانتياجو. لاأحد يعلم من أين أتى الاسم. يعتقد نيرودا بأن الاسم أتي من الصخور السوداء، والتي تحمل أشكال جزر. قبل ثلاثين سنة، حينما لم يكن هذا المكان بنفس الفخامة، اشترى نيرودا من عائدات كتبه ستة آلاف متر مربع على ساحل البحر، وتتضمن تلك المساحة بيتًا صغيرًا على أعلى جرفٍ حاد. ” ثم بدأ المنزل بالنمو، كما ينمو البشر، وكما تنمو النباتات.”.

لدى نيرودا منازل أخرى، يملك منزلًا في هضبة سان كريستوبال في العاصمة سانتياجو، ومنزل آخر في فالباريسو. جاب محلات الأنتيكة والخردة لكي يزين منزله بكل الأشياء. يسأل نيرودا “ألا يشبه ستالين؟” وهو يشير إلى صورة لمغامر إنجليزي يدعى مورغان في صالة الطعام بمنزله في إيسلا نيغرا. ثم يستأنف القول: ” لم يرد بائع التحف أن يبيعني هذه الصورة، ولكن حينما أخبرته أني تشيلي، سألني ماإذا كنت أعرف بابلو نيرودا، وهكذا أقنعته ببيعها لي.”.

يسكن نيرودا “ملاح الأرض” بشكل شبه دائم في منزله بإيسلا نيغرا، مع زوجته الثالثة “ماتيلدا”، والتي يسميها “باتوخا”، تلك المعشوقة التي طالما تغزل فيها بقصائد الحب الشهيرة.

طويل القامة، ممتلئ الجسم، ذو بشرة زيتونية، ملامحه المميزة هي أنف حاد وعينان بنيتان واسعتان مع الجفون. تحركه بطيء لكنه ثابت، ويتحدث بوضوح دون غطرسة. عندما يذهب مع أحدهم للمشي، فهو يحمل نوعين من الأطعمة، برفقة عصاه ومعطفه الريفي الطويل.

يسلي نيرودا زواره القادمون باستمرار في إيسلا نيغرا، وهناك دائمًا تلك الطاولة المخصصة لضيوف الدقيقة الأخيرة. يقوم نيرودا بأكثر تساليه في المشرب، والذي يدخل إليه المرء من خلال ممر صغير من شرفة تطل على البحر. على سقف الممر الصغير تتبدى نقوش فيكتورية وجهاز هاتف قديم. توجد على رفوف النافذة مجموعة من الزجاجات، وقد تم تصميم المشرب كصالون سفينة. للغرفة جدران زجاجية على البحر، نحتت على أطرافها كتابات بخط يد نيرودا، وأسماء أصدقائه الموتى.

خلف المشرب تظهر بوضوح علامة “لا ديون هنا”. يأخذ نيرودا دوره كساقي بمنتهى الجدية، ويحب أن يقدم لضيوفه مشروبات مخلوطة، بالرغم من أنه يفضل السكوتش والنبيذ. يتواجد ملصقان ضد نيرودا على الجدار، واحد منهما سبق واشتراه وهو عائد من رحلته الأخيرة إلى كاراكاس. يظهر ذلك الملصق صورة كبيرة لوجهه، مع عبارة أسفل الملصق “نيرودا، عد إلى موطنك”. أما الآخر، فهو غلاف مجلة من الأرجنتين، يحمل صورة له، ومكتوب في الأسفل “لماذا لايقتل نيرودا نفسه؟”.

الوجبات في إيسلا نيغرا تشيلية نموذجية، وقد ذكر نيرودا بعضها في قصائده: شوربة محار، سمك بصلصة الطماطم، وقطع من الجمبري الصغير. النبيذ كله من تشيلي. في الصيف، يُقدم الطعام في شرفة تطل على حديقة تحتوي محرك قطار قديم. يقول نيرودا عنه: ” ياله من محرك قوي وطاحن، مزمجر وذو صفير حاد، ويطلق أصواتًا كالرعود… أحبه لأنه يبدو وكأنه والت ويتمان.”

تم هذا الحوار خلال فترات قصيرة متقطعة. في الصباح، عقدنا الحوار في المكتبة، والتي تعتبر جناحًا جديدًا في المنزل. انتظرته حتى يفرغ من إجابة بريده، ويفرغ من إحدى قصائده في كتابه الجديد. أو يصحح ألواح الطباعة لأجل الطبعة التشيلية الجديدة من ديوانه الأشهر: عشرون قصيدة حب وأغنية يائسة. حينما يكتب القصيدة، فهو يستعمل الحبر الأخضر في دفتر عادي. يستطيع نيرودا كتابة قصيدة طويلة في وقت قصير نسبيًا، بعدما يصحح قليلًا من الأخطاء. ثم تتم طباعتها على الآلة الكاتبة من قبل سكرتيره وصديقه المقرب لأكثر من خمسين سنة: هوميرو آرسي.

بعد الظهر، حينما يفرغ من قيلولته، كنا نجلس سويًا على مقعد حجري، في الشرفة المطلة على البحر. كان نيرودا يتحدث وهو يمسك بالمذياع الخاص بجهاز التسجيل، والذي كان يسجل صوت تكسر الأمواج، كما لو كان خلفية موسيقية لصوته.

الحوار

غويبرت: لماذا غيرت اسمك؟ ولماذا اخترت بابلو نيرودا؟

نيرودا: في الحقيقة لاأتذكر. كنت وقتها في الثالثة عشر أو الرابعة عشر من عمري. أتذكر أن أبي قد انزعج كثيرًا حينما أفصحت له عن رغبتي بالكتابة. في أكثر أحواله تفاؤلًا، كان يعتقد أن الكتابة ستدمرني وتدمر العائلة. كان يفكر على نطاق محلي، مما لم يجعلني أغضب، ولم أتحمل أي مسؤولية من تلك الأسباب. لذلك كان تغيير اسمي أحد الأسباب الدفاعية.

غويبرت: هل اخترت نيرودا تيمنًا بالشاعر التشيكي: جان نيرودا؟

نيرودا: قرأت قصة قصيرة له. لم أقرأ شعره من قبل، لكن كان لديه كتاب اسمه “قصص من مالا سترانا”، وهي يحكي عن أولئك الناس البسطاء، الذين يقطنون حيًا بنفس الاسم في براغ. من المحتمل أن اسمي الجديد قد أتى من هناك. ومع ذلك، فإن التشيكيين يحسبوني واحدًا منهم، واحدًا من أمتهم، وقد تواصلت معهم بشكل جميل أكثر من مرة.

غويبرت: في حالة إذا انتُخبت رئيسًا لتشيلي، هل ستستمر بالكتابة؟

نيرودا: الكتابة لدي أشبه بالتنفس. فكما لايمكن أن أعيش بلا تنفس، فإني لاأستطيع العيش بدون الكتابة.

غويبرت: هل تعرف شعراء تبوؤا مناصب عالية سياسية ونجحوا؟

نيرودا: فترتنا هي فترة الشعراء الحُكَّام: ماو تسي تونغ و هو شي منه. ماو تسي تونغ يمتاز بصفات أخرى: فهو، كما تعرف، سباح ماهر، وأنا لاأعرف السباحة على الإطلاق. هناك شاعر عظيم آخر، ليوبولد سينغور، رئيس السنغال؛ وآخر يدعى آيم سيزار، شاعر سريالي، وهو أمير الجبهة الفرنسية في المارتينيك. في بلدي، لطالما تورط الشعراء بالسياسة، ولكن لم يحز أحد منهم على رئاسة الجمهورية. على الجانب الآخر، كان هناك رؤساء ممن يكتبون النثر. فعلى سبيل المثال: رومولو غاليغوس، وكان رئيسًا لفنزويلا.

غويبرت: كيف أدرت حملتك الرئاسية؟

نيرودا: أعددنا منصة في بادئ الأمر، ومن ثم عزفنا على الدوام أغانٍ فولكلورية. وكان هناك من يُكلف بشرح آفاقنا السياسية الصارمة، والتي تتعلق بحملتنا. بعد ذلك، أصررت على الذهاب إلى القرى كونها أكثر حرية، وأقل تنظيمًا، أي: أكثر شاعرية. كنت دومًا أنتهي بتلاوة الشعر. وإذا لم أفعل ذلك، سيغادر الناس حملتي بخيبة أمل. أردت منهم أن يسمعوا أفكاري السياسية بالطبع، ولكن لم تكن في غالبية حديثي، لأن الناس يحتاجون أيضًا نوعًا مختلفًا من اللغة.

غويبرت: كيف يتفاعل الناس معك عندما تتلو قصائدك؟

نيرودا: انهم يحبونني بشكل عاطفي للغاية. في بعض الأحيان لاأستطيع دخول أو الخروج من بعض الأماكن. لدي مرافقون خاصون يحمونني من الحشود، وذلك بسبب إحاطة الصحافيين بي. وهذا يحدث في كل مكان.

غويبرت: إذا كان عليك أن تختر بين رئاسة تشيلي وجائزة نوبل، والتي رشحت لها أكثر من مرة، فماذا ستختار؟

نيرودا: لايمكن أن يكون هناك سؤال خيارات بين شيئين مختلفين لهذه الدرجة.

غويبرت: وإن وضعنا رئاسة تشيلي و جائزة نوبل هنا على الطاولة؟

نيرودا: في تلك الحالة سأقوم وأذهب إلى طاولة أخرى.

غويبرت: هل تعتقد أن تتويج صامويل بيكيت لجائزة نوبل العام الماضي كان عادلًا؟

نيرودا: نعم، أعتقد ذلك. يكتب بيكيت أشياء قصيرة لكنها عظيمة. أينما حلت جائزة نوبل على شخص، فهي بالتأكيد تشريف كبير للأدب. لست من الأشخاص الذين يجادلون حول أحقية شخص ما بالجائزة من عدمها. مايهم في هذه الجائزة – إذا كان لها أي أهمية – هو منح بعض الاحترام لمن توج بها. وهذا مايهم.

غويبرت: ماهي أقوى ذكرياتك؟

نيرودا: لاأعلم. لعل أقوى ذكرياتي هي حينما عشت في إسبانيا، في ذلك المجمع العظيم من الشعراء. لم أعرف مجموعة بهذا القدر الأخوي من الشعراء في أمريكا اللاتينية إلا وتملؤها الإشاعات، كما يُقال في بوينس آيرس. بعد فترة من العيش هناك، كان من الفظيع أن نرى جمهورية من الأصدقاء بهذا الحجم تمزقها الحرب الأهلية، مما بين الوجه البشع للتحكم الفاشي. تفرق أصدقائي: منهم من قتل كغارثيا لوركا وميغيل هرنانديز، ومنهم من توفى في المنفى . حياتي بالمجمل غنية بالذكريات، وبالمشاعر العميقة، وكل منهما أثر في حياتي بشكل أو آخر.

غويبرت: هل يسمحون لك الآن بدخول إسبانيا؟

نيرودا: لست ممنوعًا بشكل رسمي. دعتني السفارة التشيلية هناك في مناسبة خاصة لأقرأ عليهم بعض القصائد، وكان من المحتمل أن يدعوني أدخل، لكني لم أذهب إلى هناك عن قصد. لم أرد أن تدعي الحكومة الإسبانية في ذلك الوقت أنها ديمقراطية عن طريق إدخال من حاربها بكل قوة في الماضي. لاأعرف. منعت من دخول عدة بلدان، وتوضح لي من أشخاص آخرين أن هذا الموضوع لايؤلم بقدر مايفعل لك في البداية، وهذا بالضبط ماحدث لي.

غويبرت: تنبأت قصيدتك الغنائية، والتي كتبتها في غارسيا لوركا، بنهايته المأساوية.

نيرودا: نعم، كانت تلك القصيدة غريبة. غريبة لأنه قد كان شخصًا سعيدًا. بالفعل، كان مخلوقًا مبتهجًا. عرفت القليل من الناس بمثل سجيته، وكان هو تجسيدًا لـ ….. حسنًا، لاأقول للنجاح، ولكن لحب الحياة. لقد استمتع بكل دقيقة من حياته. هو مسرف في سعادته. ولذلك السبب، كانت جريمة إعدامه واحدة من أشنع جرائم الفاشية التي لاتُغتفر.

غويبرت: كثيرًا ماكنت تذكره في قصائدك، وكذلك كنت تذكر ميغيل هرنانديز.

نيرودا: كان هرنانديز بمثابة ابن لي. كشاعر، كنت أعتبره أقرب لتلميذي، وتقريبًا عاش جزءًا كبيرًا من حياته في بيتي. اقتيد إلى السجن ومات هناك فقط لأنه كذب الرواية الرسمية لموت غارسيا لوركا. إذا كانت روايتهم صحيحة، فلماذا أبقوه الفاشيون حتى الموت في السجن؟ لماذا رفضوا نقله إلى المستشفى حينما كان يحتضر، كما طلبت السفارة التشيلية؟ كانت وفاة هرنانديز اغتيالًا أيضًا.

غويبرت: ماالذي تتذكره من السنين التي أمضيتها في الهند؟

نيرودا: كان بقائي هناك حدثًا عارضًا، ولم أكن مستعدًا له. غمرتني روعة تلك القارة، وشعرت برغم ذلك باليأس. لأن حياتي وعزلتي هناك قد طالت. في بعض الأحيان، كنت أشعر بأني محتجز في فيلم صوري، فيلم رائع ولكن لايمكنني مغادرته. لم أشعر بالتصوف الذي ألهم العديد من الأمريكيين الجنوبيين والأجانب في الهند. كل من يذهب إلى الهند، في محاولةٍ منه لإجابة دينية حول أسئلة تؤرقه، يرى الأشياء بطريقة مختلفة. أما بالنسبة لي، فقد تأثرت بالظروف الاجتماعية التي تعصف بذلك البلد. تلك الأمة المعزولة عن السلاح كانت ضعيفة للغاية، ومقيدة إلى نير الإمبريالية. حتى الثقافة الإنكليزية، والتي كان لدي ميل كبير تجاهها، أشعرتني بالبغض كونها صارت أداة تقييد فكري للعديد من الهندوس في ذلك الزمان. اختلطت بالعديد من الشباب المحتجين هناك خلال بعثتي الدبلوماسية، ومن خلال منصبي استطعت التعرف على كل أولئك الثوار، والذين شكلوا تلك الحركة العظيمة، التي أدت في النهاية للاستقلال.

غويبرت: هل كتبت ديوانك “المقام على الأرض” في الهند؟

نيرودا: نعم، بالرغم من الهند لم يكن لها ذلك التأثير الفكري على قصائدي.

غويبرت: كتبت كل رسائلك المؤثرة إلى الكاتب الأرجتيني هيكتور أياندي من رانغون، صحيح؟

نيرودا: نعم. كانت تلك الرسائل مهمة في حياتي. لأني لم أعرفه ككاتب. لكنه أخذ على عاتقه، باعتباره شخصًا صالحًا، أن يرسل لي الأخبار والمجلات الدورية باستمرار، كي يساعدني في عزلتي. كنت خائفًا من أن أفقد قدرتي على التواصل بلغتي الأم، لأني ولسنوات لم أستطع التحدث مع أحدهم بالإسبانية. طلبت في إحدى رسائلي من رافائيل ألبيرتي قاموسًا إسبانيًا. عُينت في منصب قنصل، ولكنه كان منصبًا منخفضًا ولايمتاز بمكافأة. عشت في فقر مدقع وعزلة أكثر بؤسًا. لم أستطع رؤية إنسان آخر لأسابيع.

غويبرت: كانت هناك علاقة حب شهيرة بينك وجوزي بليس، والتي كنت تذكرها دومًا في قصائدك.

نيرودا: نعم. كانت امرأة تركت بصمة عميقة في شعري. لطالما تذكرتها، حتى في أحدث كتبي.

غويبرت: إذًا شعرك يرتبط بشكل قريب من مجرى حياتك؟

نيرودا: هذا أمر طبيعي. يجب أن تنعكس حياة الشاعر على قصائده. هذا قانون فن، وقانون حياة.

غويبرت: يمكن تقسيم شعرك إلى مراحل، أليس كذلك؟

نيرودا: لدي أفكار مربكة حول ذلك الموضوع. أنا لاأمتلك مراحل؛ النقاد يكتشفونها. إذا أمكن لي قول أي شيء، فيمكنني القول بأن قصائدي تملك امتيازات عضو بشري: رضيع حينما كنت صغيرًا، طفولي حينما كنت شابًا، يائس حينما كنت أعاني، ومقاتل حينما انخرطت في النضال الاجتماعي. يحضر خليط من هذه الحالات في قصائدي الحالية. لطالما كتبت بدافع من داخلي، وأعتقد بأن هذا الأمر يحدث لجميع الكتاب، الشعراء خصوصًا.

غويبرت: رأيتك ذات مرة وأنت تكتب داخل السيارة.

نيرودا: أكتب أينما أستطيع ومتى أستطيع، أنا أكتب بشكل دائم.

غويبرت: هل تكتب كل شيء بيدك؟ أم تكتب بالآلة الكاتبة؟

نيرودا: منذ أن حصل لي حادث وكسرت اصبعي قبل عدة أشهر، لم أستطع استخدام الآلة الكاتبة. عدت إلى عادات الشباب وصرت أكتب بيدي. اكتشفت لاحقًا أنني حينما أكتب قصائدي بيدي، فإنها تغدو أكثر حساسية، وقابلة للتشكيل أكثر. يقول روبرت غريفز في مقابلة أنه لكي نفكر فيجب علينا أن نحيط أنفسنا بأشياء أقل مما لم يصنع باليد. كان بوسعه أن يضيف بأن الشعر يجب أن يكون مكتوبًا باليد. فصلت الآلة الكاتبة تلك العلاقة الحميمة لي مع الشعر، وأعادتني يدي إلى تلك العلاقة أقرب من قبل.

غويبرت: ماهي ساعات عملك؟

نيرودا: لاألتزم بجدول معين، ولكن أفضل الكتابة في الصباح. مايعني أنه لولا تواجدك اليوم وإضاعة وقتي ووقتك، لكنت الآن أكتب. لاأقرأ أشياء كثيرة خلال اليوم، بل أفضل الكتابة طوال اليوم، ولكن بقمة انشغالي الفكري، أو في قمة شعوري بتجربة، أو أثناء احساسي بشيء ما وهو يخرج مني بشكل صاخب – دعنا نسميه الإلهام – يتركني راضيًا، أو مرهقًا، أو هادئًا، أو فارغًا، إلى أن أصل لحالةٍ لاأستطيع معها الاستمرار في الكتابة. بعيدًا عن ذلك، أود لو أعيش طوال اليوم جالسًا قرب مكتب. أود لو أضع نفسي في معترك الحياة، في منزلي، أن أخوض السياسة، أن أبقى في الطبيعة. أن أبقى في تجوال لاينتهي. ولكني أكتب بشكل مكثف أينما استطعت وكيفما استطعت. لايزعجني الأمر حينما أكون كثير من الأصدقاء حولي وأنا أكتب.

غويبرت: هل تعزل نفسك عما يحيط بك أثناء الكتابة؟

نيرودا: نعم. ولكن الهدوء التام يستفزني ويزعجني.

غويبرت: لم تلق في يوم بالًا نحو النثر.

نيرودا: النثر…. طوال عمري، لم أشعر بضرورة التعبير عن نفسي إلا بالشعر. لم يهمني يومًا أن أعبر من خلال النثر. أكتب النثر حينما يجتاحني شعور معين، أو في مناسبة معينة تستدعي السرد. الحقيقة أنه يمكنني أن أستغني عن كتابة النثر للأبد، ولكنني أكتبه بشكل مؤقت.

غويبرت: إذا كان عليك أن تنقذ أحد أعمالك من حريقٍ ما، فأي أعمالك تختار؟

نيرودا: لاشيء منها. وماحاجتي لها؟ أفضل أن أنقذ فتاة، أو أن أنقذ مجموعة جيدة من القصص البوليسية، فهي تجلب اهتمامي أكثر من أعمالي الخاصة.

غويبرت: أي نقادك فهم قصائدك بشكل أفضل من غيره؟

نيرودا: أوه، نقادي! لطالما مزقوني إربًا إلى شرائح، بكل الحب أو بكل الكره المتوفر في هذا العالم! في الحياة، وكما في الفن، لايمكن لشخص أن يرضي الجميع، هذا أمر يحدث معنا كلنا. دائمًا مانتلقى القبلات والصفعات، المداعبات والركلات، وهذه حياة الشاعر. مايزعجني هو التشويه الحاصل في تفسير الشعر في أكثر من مناسبة في حياة المرء. على سبيل المثال، في مؤتمر الكتاب العالمي في نيويورك، والذي جلب أناسًا من مختلف أصقاع الأرض، قرأت قصائدي الاجتماعية. وأكثر منها في كاليفورنيا، قرأت قصائدي التي كتبتها في كوبا دعمًا للثورة الكوبية. ولكن الكتاب في كوبا بدلًا من أن يساندوني، قاموا بتوقيع عريضة وزع منها ملايين النسخ، يعتبرونني فيها شخصًا محميًا من الأمريكيين الشماليين، حتى أنهم اعتبروا دخولي إلى الولايات المتحدة نوعًا من منحة! هذا تفسير غبي، إن لم يكن افتراءًا. لأن هناك العديد من الكتاب يسكنون البلدان الشيوعية قد حضروا المؤتمر، وقد تمت دعوة بعض الكتاب من كوبا. نحن لم نفقد شخصياتنا كمناهضين للإمبريالية بمجرد ذهابنا إلى هناك. على كل حال، فقد صدر ذلك الادعاء، إما بحسن نية أو مجرد حسد من الكوبيين. مايحدث الآن كوني مرشحًا من حزبي لرئاسة الجمهورية يؤكد كوني صاحب تاريخ ثوري. من الصعب أن نجد ممن وقعوا تلك العريضة من يوازي تاريخه الثوري واحدًا بالمائة مما قمت به وقاتلت لأجله.

غويبرت: كنت قد تعرضت لانتقادات بسبب طريقة عيشك، وحالتك الاقتصادية.

نيرودا: بشكل عام، كل هذه أكذوبة. بمعنى آخر، تلقينا إرثًا سيئًا من إسبانيا، والتي لم تسمح يومًا لشعبها بالتميز في أي أمر. لقد حسبوا كريستوفر كولومبوس حال عودته. ولم يتسبب بذلك الإرث سوى البورجوازي الحسود، الذي يفكر فيما يملكه الناس ومالايملكونه. في حالتي الخاصة، كرست نفسي لتعويض الشعب. ومايوجد في منزلي، كتبي على سبيل المثال، فهي أعمالي. لم أستغل أحدًا في حياتي، وهذا أمر غريب. لايأتي مثل هذا اللوم لمن يكتب وفي فمه ملعقة من ذهب! بدلًا عن ذلك، يوجهون أصابع اللوم نحوي، أنا الذي عملت لخمسين سنة. يقولون دائمًا: “انظروا، انظروا إليه كيف يعيش. لديه منزل جيد، ويشرب نبيذًا جيدًا”. ماهذا المنطق؟ قبل كل شيء، من الصعب أن تشرب نبيذًا سيئًا في تشيلي، لأن كل النبيذ هنا جيد. إنها مشكلة تعكس بشكل ما التخلف الموجود في بلادنا، والرداءة التي نعيش بها. أنت بنفسك أخبرتني يومًا حول نورمان ميلر، وكيف تلقى مبلغًا يوازي تسعين ألف دولار أمريكي لمجرد أنه نشر ثلاث مقالات في مجلة بأمريكا الشمالية. هنا، لو تلقى كاتب لاتيني مثل ذلك المبلغ، لأطلق الكتاب الآخرون احتجاجاتهم: “ياله من إسراف! ياله من أمر فظيع! متى سيتوقف؟!”، بدلًا من أن يبتهجوا لأن كاتبًا يستطيع جني مثل تلك المبالغ. حسنًا، كما قلت لك، هذه هي المصائب التي نجنيها من وراء تخلفنا الثقافي.

غويبرت: لعل أغلب الانتقادات التي واجهتك، صدرت بسبب كونك شيوعيًا.

نيرودا: بالفعل. قيل أكثر من مرة بأن الذي لايملك شيئًا لن يخسر شيئًا عدا قيوده. أنا أخاطر في كل مرة بحياتي، وبشخصي، وبكل ماأملك: كتبي، ومنزلي. احترق منزلي من قبل، وقد تم اضطهادي، وتم اعتقالي أكثر من مرة، تم نفيي من البلاد، ووضعت تحت الإقامة الجبرية. رآني أفراد الشرطة أكثر من مرة بشكل صريح. أنا لست مرتاحًا مع ماأملكه، ولكن هذا كل مالدي. سخرت نفسي لأجل نضال الشعب، وهذا النضال كان منزلي لأكثر من عشرين سنة تحت مظلة الحزب الشيوعي، والذي يضعني العامة الآن على رأسه. أنا أعيش في هذا المنزل الآن بكرم من قبل حزبي. حسنًا، لندع أولئك الذين حسدوني يقاسون ماقاسيته، وليدعوا على الأقل أحذيتهم في أي مكان ليستعملها أحد آخر!

غويبرت: تبرعت أكثر من مرة بمكتبات مختلفة. ألست تشارك الآن في مشروع “مستعمرة الكتاب” في إيسلانيغرا؟

نيرودا: لقد تبرعت بأكثر من مكتبة إلى الجامعة الوحيدة في بلادي. أنا أعيش على دخل كتبي، وليست لدي أي مدخرات. ليس لدي ماأتخلص منه، إلا ماأدفع كل شهر من نتاج كتبي. بذلك الدخل، أمكن لي جمع مبلغٍ معين لشراء قطعة أرضٍ على الساحل، لكي يستطيع الكتاب إمضاء الصيف هنا، وكتابة أعمالهم الإبداعية في مناخ جميل بشكل استثنائي. سيؤسس المكان مؤسسة كانتالاو، وسيديره بشكل مشترك كل من الجامعة الكاثوليكية، جامعة تشيلي، ومجتمع الكتاب.

غويبرت: ديوان عشرون قصيدة حب وأغنية يائسة هو أحد دواوينك المبكرة، ولايزال يقرأ حتى الآن عن طريق الآلاف من المعجبين منذ طباعته أول مرة.

نيرودا: كتبت في مقدمة الطبعة الجديدة، والتي تحتفي بصدور مليون نسخة من ذلك الكتاب – بالمناسبة، سيبلغ عدد النسخ مليونان قريبًا – بأني لاأفهم لماذا يحدث كل هذا الاحتفاء. لماذا لايزال الناس يقرأون الكتاب الذي يحتوي حزن الحب، ووجعه، خصوصًا من قِبل الشباب. بكل صراحة، لاأستطيع فهم ذلك. ربما يمثل طرحًا شابًا للعديد من الألغاز، وربما يجاوب عليها. هو كتاب حزين، ولكن جاذبيته لاتهدأ.

غويبرت: أنت من أكثر الشعراء ترجمة، نحو ثلاثين لغة. ماهي اللغة التي قدمت أفضل ترجمة لشعرك.

نيرودا: ربما الإيطالية، للتشابه بين اللغتين. بالنسبة للإنجليزية والفرنسية، وهي لغتان أعرفهما غير الإيطالية، فهما لايرتبطان بالإسبانية، لا نطقًا، ولا في مكان الكلمات، ولا حتى في وزن الكلمات ولونها. الأمر لايتعلق بقدر الترجمة. المنطق يؤكد بأن على قدر الترجمة، يصل الشعر. بينما في الواقع، أمانة الترجمة، ونقل المعنى، قد يدمر القصيدة. في العديد من الترجمات إلى الفرنسية – ولاأقول كلها -، أجد أن شعري يهرب، ولاشيء يبقى. لا أحد يستطيع التظاهر بسبب أن الكتابة المترجمة تطابق الأصل، لكن من الواضح أنني لو كتبت الشعر بالفرنسية، فلن يبدو النصان متشابهان، وذلك لاختلاف قيمة الكلمات. كنت سأكتب شيئًا مختلفًا تمامًا.

غويبرت: قلت بأنك قارئ جيد للقصص البوليسية، من هو مؤلفك المفضل؟

نيرودا: هناك عمل عظيم ينتمي لهذا النوع من الكتابة، وهو يدعى نعش لأجل ديميتريوس للكاتب إريك أمبلير. قرأت كل أعمال أمبلير التي تلته، ولكن لم يوجد عمل يحاكي جمال أساسات ذلك العمل، ودسائسه الاستثنائية، وجوه الغامض. جورج سيمينون أيضًا مهم، ولكن لايوجد أحد يكتب القصة البوليسية بغموضها، وبكل الرعب الذي تحتويه مثل تلك القصص، كما يكتب جايمس هادلي تشايس. روايته التي بعنوان لا زهور للآنسة بلاندش تعتبر رواية قديمة، لكنها تبقى أحد تحف القصص البوليسية الخالدة. هناك تشابه غريب بين تلك الرواية، ورواية الملاذ لويليام فولكنر، ذلك الكتاب الهام. لكني لم أستطع معرفة أي منهما صدر أولًا. بالطبع، حينما يتحدث أحدهم عن القصة البوليسية، يتبادر إلى ذهني داشيل هاميت. هو الشخص الذي أنشأ مايعرف بالتوهيم ماخلف الروائي، ومنحه أساسات قوية. هو المبتكر العظيم، ومن خلفه المئات من الروائيين. لايفوتني جون ماكدونالد، كونه أحد ألمع الأسماء. كلهم كتاب عظماء ويعملون بمشقة على كتبهم. وربما كل من يتبع تلك المدرسة من الروائيين، مدرسة الأدب البوليسي في أمريكا الشمالية، يُعتبر ناقدًا لمجتمع أمريكا الشمالية الرأسمالي المتداعي. ليس هناك ماهو أكبر من الشجب الذي يظهر في تلك الروايات حول فشل وفساد السياسيين والشرطة، وتأثير المال في المدن الكبرى، والفساد الذي يطفح كل مرة في أجزاء أمريكا الشمالية، والذي يعتري “الطريقة الأمريكية في الحياة”. ذلك الأدب هو الشهادة الأكثر درامية على ذلك العصر. وحتى الآن، لايزال النقاد يعتبرونه أكثر أنواع الرواية سطحية، بما أنهم لم يتناولوها بعين الاعتبار.

غويبرت: ماالذي تقرؤه من الكتب الأخرى؟

نيرودا: أنا قارئ للتاريخ، خصوصًا تلك الكتب الأثرية، والتي تتحدث عن تاريخ بلادي. لدى تشيلي تاريخ متفرد. ليس بالطبع بسبب منمنمات الآثار القديمة، والتي لاتوجد هنا، بل لأن شاعرًا ابتكر هذه البلاد، وهو العظيم ألونسو دي إيرثيلا زونيغا، والذي عاش في زمان كارلوس الخامس. كان أرستقراطيًا باسكيًا ممن وصل مع الغزاة الأوائل لإسبانيا، وهذا أمر غريب بما أن أغلب من أرسل إلى تشيلي يكون من المحاربين. كان ذلك المكان هو أسوأ مكان يعيش فيه المرء. جرت الحرب بين الأراكونيين والإسبان هنا لعدة قرون، وكانت أطول حربٍ أهلية في تاريخ البشرية. قاتلت تلك القبائل نصف الهمجية لأجل حريتها ضد الإسبان مدة ثلاثمائة سنة. قدم زونيغا، ذلك الشاب الإنساني، مع أولئك القادة الذين أرادوا أن يحكموا كل القارة، ونجحوا في ذلك، باستثناء هذا الشريط الضيق والمسمى تشيلي. كتب ألونسو ملحمة تدعى لا أراوكانا، وهي أطول ملحمة في الأدب القشتالي، وقد شرف فيها قبائل أراوكانيا المجهولة. أولئك الأبطال المجهولين، والذي منحهم ألونسو أول اسم لهم، قد مدحهم ألونسو أكثر من بني جلدته، المقاتلين القشتاليين. نشرت لا أراكونيا في القرن السادس عشر، وترجمت عن القشتالية، وانتشرت كالهشيم في أنحاء أوروبا. يالها من ملحمة رائعة لشاعر عظيم. حازت تشيلي ذلك التاريخ العظيم والبطولي منذ نشأتها. لم ننحدر نحن التشيليون، كما انحدر عدة أقوام مهجنة من الاسبان والهنود الأمريكيين، من جنود إسبانيين عن طريق الاغتصاب والتنكيل، ولكن عن طريق زواج طوعي أو قسري للأراكونيين مع سبايا إسبانيات خلال سنين الحرب الطويلة. نحن استثناء. بالطبع، يلي ذلك مرحلة استقلالنا الدموي منذ 1810. تاريخ مليء بالمآسي، وبالمعارضات، والنضال تحت أسماء مثل سان مارتين، بوليفار، خوسيه ميغيل كاريرا وأوهيجنس، من خلال صفحات طويلة من النجاحات والإخفاقات. كل ذلك يجعلني قارئًا لتلك الكتب التي أنفض عنها الغبار، والتي تثيرني وتلهمني إلى أقصى حد. تجعلني تلك الكتب نائيًا عن الجميع، أعاني البرد هناك، ضمن خطوط عرض بلادي وصحرائها. سبخاتها في الشمال، وساحلها المزهر، وجبال الانديز الثلجية. هذه بلادي، تشيلي. أنا ممن ينتمون لهذه البلد حتى الفناء، والذي لايمكن أن أتركها للأبد، مهما عوملت بالحسنى في بلاد أخرى. أحببت مدن أوروبا الكبرى، وأقدر وادي آرنو، وشوارع معينة في كوبنهاجن وستوكهولم، وبالطبع باريس، باريس، باريس، ومع ذلك سأبقى مشتاقًا للعودة إلى تشيلي.

غويبرت: في مقال بعنوان “معاصريّ”، ينتقد إرنستو مونتينيغرو الناقد الأورغواياني رودريغيز مونيغال، كونه صرح بأنه يتمنى لو يدرس الكتاب المعاصرون في أوروبا وأمريكا الشمالية الأدب اللاتيني ومن يكتبون فيه، إن أرادوا أن يحسنوا أدبهم. شبه مونتينيغرو بتهكم ماقاله مونيغال، كأن نملة تقول لفيل: “هيا، اصعد على ظهري”. ثم اقتبس من بورخيس: “على النقيض من الولايات المتحدة الهمجية، لم تنتج هذه البلاد ( هذه القارة ) أي كاتب ذو مقروئية عالمية، مثل ويتمان أو إيميرسون أو بو. كما لم تنتج كاتبًا عميقًا، مثل هنري جيمس أو ميلفيل.”

نيرودا: لماذا يهم إن كنا نملك أسماء مثل ويتمان أو كافكا أو بودلير في قارتنا أم لا؟ تاريخ إبداعنا الأدبي كبير بحجم الإنسانية كلها. لايستطيع أحد في أمريكا الشمالية برغم أعداد المثقفين الهائل فيها، أو أوروبا برغم تاريخها العريق، أن يقارن نفسه بتنوعنا الثقافي في أمريكا اللاتينية دون كتب، أو يقارن معانيها بمعانينا في التعبير عن الذات. من السذاجة أن يرمي أحدهم أحجارًا في بركة الآخر، وتمر حياته وهو يأمل أن يتجاوز تلك القارة أو الأخرى. بجانب أن هذا الأمر كله لايعدو كونه رأيًا شخصيًا.

غويبرت: هل لك أن تعلق على الشؤون الأدبية في أمريكا اللاتينية؟

نيرودا: أي مجلة تصدر من هندوراس أو نيويورك، أو مونتيفيديو أو غواياكيل، تكتشف أنها كلها تقدم نفس الكاتالوج الأنيق لأدب مستلهم من إليوت أو كافكا. هذا مثال للاستعمار الثقافي. نحن لانزال مغمورين بالاتيكيت الأوروبي. هنا في تشيلي، على سبيل المثال، سترى سيدة المنزل وهي تريك أي شيء – أطباق صينية مثلًا – وتقول لك بابتسامة راضية: “إنها مستوردة”. معظم السلع الفظيعة في البيوت التشيلية هذه الأيام مستوردة، وهي من أسوأ الأنواع. تنتج من مصانع في ألمانيا وفرنسا. تلك القطع التي لامعنى لها تُعتببر الأفضل هنا فقط لأنها مستوردة.

غويبرت: هل السبب هو الخوف من عدم المطابقة؟

نيرودا: بالطبع كنا كلنا نخاف من الأفكار الثورية أثناء الأيام الخوالي، وخصوصًا معشر الكتاب. في هذا العقد، خصوصًا بعد الثورة الكوبية، أصبح الموقف على العكس تمامًا. يعيش الكتاب تحت رعب عدم تصنيفهم كيساريين متشددين، لذلك تجد بعضهم أشبه برجال العصابات. هناك من يكتب فقط نصوصًا تجعلك تظن أنهم في الجبهة الأولى ضد الإمبريالية. نحن، ممن خضنا هذه الحرب، نستمتع حينما نرى الأدب ينحاز إلى جانب الشعب؛ ولكن، نخاف في نفس الوقت من أن يتحول إلى مجرد موضة، وأن يصير الكاتب من عديمي المقروئية، والتصنيف كيساري متشدد، لأنه لن يمضي في الطريق بذات الثورية. في النهاية، كل أنواع الحيوانات يمكن تواجدها في غابة أدبية. في إحدى المرات، حينما تمت إهانتي لعدة سنوات من قبل أشرار لاهم لهم إلا مهاجمة حياتي وشعري، قلت: “لنتركهم وشأنهم، فالغابة تسع الجميع. إذا استطاعت الفيلة أخذ مساحة مناسبة، وهي تأخذ الكثير من المساحات في أفريقيا وسيلان، فمن المؤكد أن هناك مساحة لجميع الشعراء.”.

غويبرت: يتهمك بعض الناس بالعدائية تجاه خورخي لويس بورخيس.

نيرودا: ربما يتخذ ذلك العداء منحى ثقافيًا أو فكريًا نظرًا لتوجهاتنا المختلفة. يستطيع الواحد منا أن يحارب بهدوء، لكن لدي أعداء آخرون عدا الكتاب. بالنسبة لي، فعدوي هو الإمبريالية، وأعدائي هم الرأسماليون ومن ألقوا بقذائف النابالم على فيتنام. لكن بورخيس ليس عدوي.

غويبرت: مارأيك بكتابات بورخيس؟

نيرودا: إنه كاتب عظيم. وكل من يتكلم الإسبانية يفخر بتواجد شخص مثله على رأس هرم أمريكا اللاتينية. كان لدينا القليل من الكتاب الذين يمكن مقارنتهم بالأوربيين قبل بورخيس، ولكن لم يكن لدينا كاتب بهذه المقروئية العالمية قبله. لاأستطيع أن أقول بأنه الأعظم، وأرجو أن يتجاوزه الكثير، ولكنه بطريقة ما فتح الطريق وجذب اهتمام أوروبا الأدبي نحو بلداننا. لكن بالنسبة لي، فلن أستعدي بورخيس لمجرد أن الآخرين يودون ذلك. إذا كان يفكر كديناصور، حسنًا، فإنه لن يتعارض مع تفكيري. هو لايفهم شيئًا مما يجري في العالم المعاصر، وهو يعتقد بأني لاأفهم شيئًا كذلك. إذًا، نحن على وفاق.

غويبرت: في يوم الأحد، رأينا بعض الشباب من الأرجنتين يعزفون ويغنون قصائد لبورخيس، ألم يبهجك ذلك المنظر؟

نيرودا: تسرني تلك القصيدة كثيرًا، فهي تظهر لي كم أن بورخيس شاعر محْكم – ولنستخدم ذلك المسمى- وذكي ومعقد يمكن له أن يتحول إلى مثل ذلك الشكل الشعبي، وبتلك اللمسة الشاعرية. أحببت قصيدته كثيرًا، ويجب على الشعراء اللاتينيين تقليدها.

غويبرت: هل كتبت أي أغانٍ تشيلية فولكلورية؟

نيرودا: كتبت بعض الأغاني المشهورة في هذا البلد.

غويبرت: من هم الشعراء الروسيون الذين تفضلهم؟

نيرودا: لعل الرمز المهيمن على الشعر الروسي هو ماياكوفسكي، مثل بثورته لروسيا مامثله والت ويتمان في أمريكا الشمالية. لقد تشرب الشعر حد أن كل قصائده استمرت كونها ماياكوفسكية، وتستطيع أن تعرف ذلك من أول قراءة.

غويبرت: مارأيك بالكتاب الروس الذين غادروا روسيا؟

نيرودا: من يرغب في مغادرة مكان فيجب عليه أن يفعل ذلك. هذه مشكلة شخصية تمامًا. ربما يشعر بعض الكتاب السوفييتيين بالامتعاض من علاقتهم بالمنظمات الأدبية، أو من حالتهم المادية والاجتماعية. ولكني لم أر علاقة لاتشوبها الخلافات بين الدولة والأدباء أكثر من البلدان السوفييتية. غالبية الكتاب هناك يفخرون باشتراكيتهم، وبحرب تحررهم ضد النازيين، وبالنسيج الاجتماعي الذي صنعته الاشتراكية. إذا كان هناك استثناءات، فهو أمر شخصي بحت، ويحتاج الاستقصاء وراء كل حالةٍ لوحدها.

غويبرت: ولكن العمل الأدبي هناك لايمكن أن يكون حرًا، يجب أن يعكس خط الدولة الفكري.

نيرودا: هذه مبالغة في القول. عرفت الكثير من الكتاب والرسامين هناك ممن لايحابون شخصًا أو آخر في الدولة، وأي شيء يحكى هناك حول هذا الموضوع فهو من قبيل المؤامرة، ولكن الحقيقة عكس ذلك. بالطبع، فكل ثورة تحتاج لحشد قواتها، والثورة لايمكن أن تستمر بدون تنمية. الضجة الناجمة عن التغيير من الرأسمالية إلى الاشتراكية لايمكن أن تستمر دون تحقق مطالب الثورة، وبكل قوات الدولة والمجتمع، وذلك يشمل الكتاب، والمفكرين، والفنانين. فكر بالثورة الأمريكية، أو حربنا لأجل الاستقلال ضد إسبانيا. ماالذي كان سيحدث لو أن أحد الكتاب أو الفنانين وقف بصف المستعمر ؟ لو حدث ذلك، لكنا قد سقطنا وتم اضطهادهم. هذا من أكبر المبررات للثورة لكي تبني مجتمعًا من الصفر (في النهاية، لم يجرب أحد نقل مجتمع من الرأسمالية والخصوصية إلى الشيوعية) أن تحشد طاقات مفكريها. ربما تتعارض الرغبات في مثل تلك البرامج، وعمومًا لايحدث ذلك إلا في السياسة والإنسان. لكن آمل بأنه مع الوقت والاستقرار ستتمكن المجتمعات الاشتراكية من التخفيف على كتابها لأجل التفكير في المشاكل الاجتماعية، ويكون الكتاب قادرين على ابتكار مايرغبونه.

غويبرت: ماالنصيحة التي تسديها للشعراء الشباب؟

نيرودا: أوه، لاتوجد نصيحة للشعراء الشباب! يجب عليهم أن يشقوا طريقهم بأنفسهم؛ يجب عليهم أن يواجهوا العقبات لكي يعبروا عن أنفسهم بشكل صحيح ويتغلبوا عليها. مالن أنصحهم به أبدًا هو أن يبدأ الواحد منهم بالشعر السياسي. الشعر السياسي أعمق في مشاعره من أي نوع – على الأقل بقدر حب الشعر – ولايمكن كتابته وأنت مجبر، لأنه سيخرج بشكل مبتذل وغير مقبول. يجب عليك أن تبدع في كل ألوان الشعر وأغراضه لكي تكتب شعرًا سياسيًا. ويجب عليه أن يتلقى الانتقادات بصدرٍ رحب حول خيانته للأدب أو خيانته للشعر. وأيضًا، يجب أن يتسلح الشعر السياسي بالمحتوى والعناصر، وبالثراء الفكري والعاطفي، من أجل أن يتخلى عن نوع آخر من الشعر. وهذا نادرًا مايتحقق.

غويبرت: دائمًا ماتقول أنك لاتؤمن بالأصالة.

نيرودا: أن تبحث عن الأصالة في كل القيم هو شرط حداثي. في أيامنا، كان الشاعر يريد أن يجلب الاهتمام لنفسه، وهذا الانشغال السطحي يقضي على خصائصه العصية. كل شخص يحاول أن يجد طريقًا يبرز فيه، لا من أجل العمق أو الاكتشاف، ولكن لأجل التنوع. أكثر الفنانين أصالة ستجده يغير مراحل عمله لكي يجاري الزمان والحقبة التي يعيش فيها. أكبر مثال على ذلك هو بيكاسو، الذي بدأ بإنشاء فنه عن طريق النحت والرسم في أفريقيا أو الفنون البدائية، ثم وجد طريقه الخاص وتحول بقوة جعلت الآن أحد المعالم الثقافية لهذا العالم.

غويبرت: ماهي التأثيرات الأدبية على بابلو نيرودا؟

نيرودا: يتبدل الكتاب في دواخلهم بطريقة ما، كما أن الهواء الذي نتنفسه لاينبع من مكان واحد. تنقل الكاتب الداخلي أشبه بتنقله من منزل لآخر: يجب عليه أن يغير الأثاث. يرتاح بعض الشعراء مع ذلك. أذكر فيدريكو غارسيا لوركا حينما كان يسألني دومًا أن أقرأ سطوري وقصائدي، كان يطلب مني التوقف دومًا في منتصف قراءتي وهو يقول:” توقف، توقف! لاتكمل، كي لاتؤثر علي.”

غويبرت: لنتحدث حول نورمان ميلر. كنت من أوائل الكتاب الذين تحدثوا عنه.

نيرودا: بعدما صدرت رواية ميلر بفترة وجيزة، والمسماة بـ”العاري والميت”، وجدتها في مكتبة بالمكسيك. لم يعلم أحد بأمرها، وحتى صاحب المكتبة لم يعلم شيئًا عنها، كان دافعي الوحيد لشرائها هو أنني على وشك رحلة، وأود قراءة رواية أمريكية جديدة. ظننت بأن الرواية الأمريكية ماتت بعد العظام الذين بدأوها، الذين بدأوا بدرايزر، وانتهوا بهيمنغواي وشتاينبك وفولكنر. لكني اكتشفت كاتبًا عظيمًا آخر، بألفاظ عنيفة، ومشتبكة بدقة مع قدرة عظيمة على الوصف. لطالما أعجبت بشعر باسترناك، ولكن روايته دكتور زيفاجو تعد مملة إذا ماقارناها بالعاري والميت، ماعدا وصفه الشاعري للطبيعة. أتذكر في ذلك الوقت أنني كتبت قصيدة بعنوان “لتستيقظ فواصل السكك الحديدية”، وتلك القصيدة التي استدعيت فيها شخص لينكولن، كانت مخصصة للسلام العالمي. كتبت فيها عن أوكيناوا والحرب في اليابان، وذكرت أيضًا نورمان ميلر. وصلت قصيدتي إلى أوروبا وتمت ترجمتها، وأتذكر بأن المترجم قال لي بأنه عانى كثيرًا ليعرف من يكون نورمان ميلر هذا. لم يعرفه أحد في الواقع، ولا أزال أشعر بالفخر كوني من أوائل الكتاب الذين اكتشفوه.

غويبرت: هل يمكنك التعليق على تأثرك العميق بالطبيعة؟

نيرودا: منذ طفولتي، حافظت على مشاعري العميقة تجاه الطيور والأصداف والغابات والنباتات. ذهبت لأماكن عديدة من أجل أن أرى أصدافًا بحرية، وقد جمعت الكثير منها. كتبت كتابًا بعنوان “فن الطيور”، كتبت عن الحيوانات المنقرضة، الزلازل البحرية، وحتى “زهرة العشّاب”. لاأستطيع العيش بعيدًا عن الطبيعة، ربما أحب الفنادق ليومين، وأحب الطائرات لساعة، ولكني أسعد حينما أتواجد بين الأشجار في الغابات، أو على الرمال، أو أثناء الإبحار، وحينما أتواصل مباشرة مع النار، الأرض، الماء، والهواء.

غويبرت: هناك رموز تتكرر دائمًا في قصائدك، وهي تأخذ على الدوام شكل البحر والأسماك والطيور….

نيرودا: لاأؤمن بالرموز. إنها بكل بساطة أشياء كما هي. حينما أقول البحر مثلًا فأنا أعنيه دون أي معنى آخر. ظهور بعض الثيمات في قصائدي هو ظهور مادي لاأكثر.

غويبرت: مادلالات كل من الحمامة والغيتار في شعرك.

نيرودا: الحمامة تدل على الحمامة، والغيتار يدل على آلة موسيقية تدعى غيتار.

غويبرت: إذًا، فأنت تعني أن من يحاول تفسير تلك الأشياء بغير ماهي ….

نيرودا: عندما أرى حمامة، فإني أسميها حمامة. الحمامة، سواء كانت موجودة أم لا، لديها شكل بالنسبة لي، سواء بذاتها أو شكل موضوعي، ولكنها لاتتجاوز كونها حمامة.

غويبرت: قلت عن ديوانك “اقامة على الأرض” مرة بأنه “لايساعد المرء على الحياة، بل يساعده على الموت.”

نيرودا: مثل ذلك الديوان لحظة مظلمة وخطيرة في حياتي. تلك اللحظة كانت الشعر من دون مخرج. كنت أحتاج إلى أن أولد من جديد فقط لكي أتجاوز تلك المرحلة. تم إنقاذي من ذلك اليأس الذي لازلت أجهل عمقه، والذي خلفته الحرب الأهلية الإسبانية، وعدة مناسباتٍ أخرى جعلتني أتأمل. قلت مرة بأنه لو كانت لدي السلطة والقوة، لمنعت انتشار ذلك الكتاب، ولخططت لعدم طبعه مرة أخرى. إنه يضخم الشعور بالحياة كعبء مؤلم، وكشعور قاتل. ولكني أعرف بأنه من أفضل كتبي، وذلك لأنه يعكس حالتي الذهنية. مع ذلك، حينما يكتب الواحد منا – ولاأعلم إن كان ذلك ينطبق على بقية الكتاب – فهو يفكر ماإذا كانت كلماته ستحط على الأرض. كتب روبرت فروست في إحدى مقالاته بأن الألم هو وجهة الشعر الوحيدة: “دعوا الألم وحده مع الشعر”. لكني لاأعلم ماسيفكر به لو رأى شابًا منتحرًا ودمائه تنزف على أحد كتبه. حدث هذا الأمر لي: انتحر شاب بجانب أحد كتبي، وكان مليئًا بالحياة حسب مايقال عنه. لا أشعر حقيقة بالذنب لمقتله، ولكن مرأى تلك الصفحة الملطخة بالدماء لاتجعل ذلك الشاعر يفكر، بل كل الشعراء… بالطبع، سعد أعدائي بهذا الأمر – كما يفعلون دومًا معي – واستفادوا سياسيًا جراء لومي في بلادي، مما أشغل رغبة في لكتابة شعر متفائل وسعيد. هم لم يعرفوا بذلك الأمر، ولم يسبق لي أن تخليت عن شعوري بالوحدة والألم والسوداوية بسبب ذلك الحادث. لكنني أحببت تغيير نبرة قصائدي، أحب أن أجد كل الأصوات، وأطارد جميع الألوان، وأبحث عن قوى الحياة أينما كانت، سواء بناءة أو مدمرة.

مر شعري بجميع المراحل التي مرت بها حياتي؛ منذ الطفولة الوحيدة وحتى العزلة في البلاد النائية البعيدة، عزمت على أن أجعل من نفسي جزءًا من هذه الإنسانية العظيمة. نضجت حياتي، وهذا كل مافي الأمر. كل من نمط الشعراء في القرن الماضي أن يكونوا سوداويين معَذبين، ولكن من الممكن أن يتواجد شعراء ممن يعرفون الحياة ومشاكلها، ومن ينجو من تلك المشاكل بالتعايش مع الحاضر. ومن يهرب من الحزن إلى السعادة الوافرة.

تمت المادة بحمد الله.