
أول ما لاحظتْهُ إيلاين حين وصولها إلى العمل هو أنَّ تروي قد ترك محفظته على الرف الصغير بجانب علبة الـ«كوكا كولا» التي فرغ نصفها. ترك تروي طعامه كالمعتاد، وكما أنها خادمة له، لكنه قلّما يترك محفظته – بمعدل مرة في الشهر. حدثت المرة الأولى إبّان الليلة الثانية لها في هذه الوظيفة، وجال ببالها احتمال اختباره أمانتها، أو – وهذا الأسوأ – أنه اختلق عذرًا للعودة ورؤيتها. وقد حدث في الواقع أنه عاد بعد نصف ساعة من تلك المرة واحتكّ بجسمها عمدًا أثناء استعادة المحفظة عوضًا عن مجرد الوقوف عند الباب وطلبها منها يدًا بيد. أجريا حديثًا مرتبكًا في الحجرة الفوضوية قبل أن يرفع محفظته محييًا في النهاية ويقول بعدها “وداعًا” و”حظًا سعيدًا” ثم احتكّ بجسدها مجددًا.
والآن، أثناء استقرارها على الكرسي للبدء بالنوبة، استطاعت الاحساس بآثار حضوره، إذ رفعت علبة الـ«كوكا كولا» ووضعتها في سلة القمامة قرب قدمها بحذر كي يبقى منتصبًا إلى الأعلى، لكنها خلّفت بقعة كبيرة من الندى بسبب حر الصيف مما جعلها تهز رأسها قنطًا. جهزت أكوام أرباع الدولار والخمسة سنتات على الرف من أجل الانشغال بشيء ما. لوّح خوزيه على بعد حجرتين منها باتجاهها وأشار لها بإبهامين إلى الأعلى، في حركة ظنت أنها لطيفة منه. بينما أنه نوع آخر من الطفيليات، إذ يمضي استراحاته واقفًا قرب بابها ويتأملها من الرأس حتى القدم وينفث دخان السجائر في حجرين. لوحت باتجاهه كي يشيح بوجهه.
كان الطريق السريع أمامها متشحًا بالسواد، وكلما مضت بضع دقائق إذا بمصباحين أماميين يظهران في المدى مثل القطارات البطيئة لكن سائقيها يفضلون المسار الأوتوماتيكي. ثم تأتي ثلاث أو أربع سيارات دفعة واحدة فتشعر بالسعادة لدخولها في إيقاع معين: مد يد فإمساك فالتفات فجمع فالتفات فمد يد فليلة سعيدة. شكل عدم اقتراب البعض بسياراتهم بما يكفي انزعاجًا لها، لكنه سمح بتمديد ذراعها أكثر. دفعت فارق الرسوم لستة وعشرين شخصًا بحلول منتصف الليل، وقد شرعت بوضع سجل تعداد من باب الملل، فوصلت في أقصى عدد إلى سبعة وعشرين، أما أقل عدد فاثنا عشر.
أقبلت سيارة بسرعة مفرطة في الساعة الثالثة صباحًا، تتمايل مثل عث، قبل اختيار حجرتها. صرّت المكابح وزمجر المحرك، فإذا بها سيارة “تشيفيت” صفراء صغيرة موديلها يعود إلى الثمانينات ويعلوها الصدأ. مالت إيلاين إلى الأمام بيد جاهزة، لكن السائقة الشابة لم تحرك ساكنًا كي تدفع الرسوم، بل نظرت في وجهها مباشرة، إذ تخفيه خصل بنية، ويداها مثبتتين بعجلة المقود، وخلف مقعدها توجد شنطة ذات حالة سيئة وتفيض بالملابس.
“صباح الخير.”
“أحتاج إلى المال.”
“هل تقصدين أنك لا تملكين الرسوم؟”
“لا، بل إنني أحتاج إلى المال.”
التفتت المرأة بعد ذلك ورأت إيلاين عينيها المغرورقتين ووجهها المتورم، حيث يوجد جرح بشع تحت إحدى العينين وقد تورّم الجلد المحيط به وصار لونه بنفسجيًا. بدا أيضًا وجود ندبة قديمة على أنفها، ودم جاف في زاوية فمها. وجهت نظرة شزرة وجريئة مما دفع إيلاين إلى الالتفات إلى الجهة الأخرى.
أوشكت إيلاين على رفع الحاجز وطلب مواصلة المسير منها حين رأت حركة في المقعد الخلفي. وعن كثب اتضح أنه يوجد طفلان، إحداهما في الخامسة من العمر تقريبًا والآخر سنتين، ولا يجلسان على المقاعد أو يرتديان حزام الأمان. بدت عينا كل منهما كبيرتان وخائفتان، وأدركت إيلاين أن ذلك المشهد تحديدًا ما شد انتباهها نحوهما في الظلمة؛ حيث يتمسك الصغير بدمية حيوان محشية رمادية، بينما تمصّ الكبرى إبهامها.
كان خوزيه يراقبها، فرفع يديه وبرم شفتيه، أما هي فتلقت تدريبًا على علامة ما في حالة وجود ما يعيق سير العمل، ويبدو أن خوزيه ينتظرها، لكنها رفعت إبهامها إلى الأعلى وفي السر مدت يدها إلى محفظة تروي. فتحت المحفظة فوجدت اثنين وتسعين دولارًا بالداخل، فأخرجت الدولارات ثم ضمتها بيدها ومدتها إلى المرأة التي أخذت المال وأحكمت قبضتيها على المقود ثم انطلقت بعيدًا. غاب وجه الابنة الكبرى بعينيها اللتان تشبهان أحجارًا مضيئة ويحيط به إطار النافذة الخلفية في الظلام.