
لا أظن أني أشبعت شيئًا ما بالدفاع عنه طول حياتي مثل قراءة الأدب، وتحديدًا الرواية. ولا واصل الناس بصالحهم وطالحهم احتقار نوع من الكتب كالأدب، وخصوصًا القصص والروايات تحت غطاء (عدم الفائدة) أو “من أراد المعرفة فليذهب إلى غوغل”. وأكاد أقسم أن كل من تلفظ بهذه العبارة الفارغة لا يطارد فائدته “المزعومة” إلا في سناب جات، حيث اللا فائدة. لكنه الطبع المقيت في احتقار ما لا يرغبه المرء. ليتهم يذكرون الحبيب – صلى الله عليه وسلم – لما قال: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو يصمت”.
هذه المرة، سأتحدث بأبسط لغة ممكنة.
منذ قطع الشك باليقين حتى قطع الإشارة المرورية، كانت الحكايا وسيلتنا لتدبير المعيشة والنصح والتعاطي مع الوجود، إما بالرفض أو بالقبول أو بالاعتناق أو بالقناعة. فاستعملتها شعوب ما قبل الأديان السماوية تحت غطاء “الأساطير”، والأديان السماوية (ضرب الأمثال في القرآن الكريم مثلًا)، والآباء والأمهات تحت غطاء (أنا أعرف واحد..). لم يتلقّ أحد كيفية العيش بمجرد الأوامر، بل كانت تسندها حكايات من ذلك النوع سواء عشت أحداثها أم سمعت عنها، وبمجرد أن اخترنا تصديقها (بغض النظر عن قيمة الحقيقة فيها)، تجدك لا تقطع الإشارة المرورية، ولا تصادق فلانًا، وتكره أولي المذهب الفلاني، وتحب أنصار النادي الفلاني. وكل هذا التعاطي مع الحياة يتم بناء على “هوية” حددتها الحكايات من شتى المصادر.
لنتأمل نموذجًا لهوية شاب سعودي في هذا الزمن والحكايات المبني عليها والأفعال التي قد تُرتكب وفقًا لها. لا يمكن أن يحرك المرء حياته فقط بالإيعاز أو القياس العقلي فقط.
الهوية | الحكايات (المعاشة/المسموعة/المقروءة) | الأفعال |
مسلم | ما ورد في القرآن الكريم والسنة النبوية من معجزات وأحداث تؤكد وحدانية الله – سبحانه وتعالى – وتفرده بالعبادة، وختام أنبيائه بحياة محمد – صلى الله عليه وسلم –. | عبادة وطاعة الله – سبحانه وتعالى – وتوقير نبيه – صلى الله عليه وسلم – واجتناب نواهيهما، منذ الظن في الأذهان وحتى تقرير مصير الغير من الدين إلى حدود الجرائم. |
سعودي | حكاية الملك عبد العزيز وتوحيد المملكة وإنشاءها وتطويرها فيما بعد على يد أبناءه ومن عينوهم. | اتخاذ قوانين الدولة نهجًا للحياة على النطاق العام والخاص، والحفاظ على السلم وشفافية التعامل مع الآخرين، والعمل بما يرفع شأن الدولة ولا يضرها. |
حنبلي | حكاية العيش (التقليد فقهيًا) في الحياة اليومية، محنته مع خلق القرآن، مسنده للأحاديث وفضله على باقي الأمة. | مواصلة العيش على المذهب الحنبلي أو تغييره إن سمع بمذهب آخر واقتنع بآرائه. |
شرقاوي | العيش اليومي في مكان بديع كالمنطقة الشرقية في المملكة العربية السعودية بما تتيحه من أنشطة ومجتمعات وتسهيلات للحياة اليومية والتبضع وغيره. | مواصلة العيش فيها وعدم هجرانها إلا لما هو أفضل، ولن يعرف الأفضل إلا إن عاش لمدة محددة أو سمع “حكاية” عن العيش في منطقة أخرى. |
برشلوني | حكاية السداسية، وزمان ما قبل غوارديولا، والبطولات واللاعبون السابقون والحاليون، وميسي. | إن لم يكن برشلونيًا (وهذا تفضيل وميول)، ويفهم في كرة القدم (وهذا شرط عقلاني)، سيحترم برشلونة ويعشق ميسي. |
هلالي | الآسيوية القديمة والجديدة، المجد التليد منذ أيام صالح النعيمة والثنيان والتيماوي وأبو اثنين والجابر، مرورًا بالقحطاني والتمياط ونيفيز ورادوي وويلهامسون، وكل ما رافق ذلك من بطولات ومباريات سادتها المتعة قبل التفوق. | اختراع مثل جديد: “العقل السليم في تشجيع الزعيم”. |
الأصدقاء المقربون | الصداقات منذ الطفولة إلى اليوم، المواقف الكبرى.. إلخ. | صادقت أحد الناس حتى ملّكته ما تملك، وكرهت آخر حتى العمى عن أفضاله. |
التخصص الجامعي | “أنا أعرف واحد..”، “انظر إلى فلان، اختار تخصص الـ…. وصار عاطلًا عن العمل.” | اخترت التخصص الجامعي، وستعيش الأعوام الأربعين من عمرك رهنًا له. |
المهنة | العطالة، سمعة الشركة، مكان العمل، الراتب. | الالتحاق بوظيفة ما أو التخلي عنها، وقياس حياتك بما يحقق تفوقك فيها من مواعيد النوم حتى القرارات الأخلاقية. |
إن سادت الحكايات حيواتنا بهذا الشكل المخيف، فأين انعدام الفائدة من قراءة الرواية؟!
لحسن الحظ أن الروائيين العظام عبر التاريخ كانوا مدركين لهذا الأمر، وبالتالي استمروا في حرفتهم وهي صنع الحكايا بأساليب فنية رفيعة وإقامة مناظير أخرى تجاه الوجود دون الالتفات إلى “عبيد المعرفة” المزعومين حتى.. وسبق أن طرحت وجهة نظري تجاه هذا الموضوع تحديدًا في حوار مع الأستاذ طامي السميري في كتابه “القارئ على الناصية الأخرى“.
أسأل الله بلطفه ورحمته ألّا أضطر إلى الكتابة عن هذا الموضوع مرة أخرى.