فاجأتني أمي حين كبُرَت في السن كثيرًا، وكانت تسكن في دار الرعاية، بالسؤال عما إذا كنت أكتب القصائد حتى الآن. نظرت إلي لأول وهلة بعدم استيعاب عندما أخبرتها بأني لا زلت أكتب. احتجت إلى أن أكرر لها ما قلت حتى تستوعب؛ وعندما فهمت ذلك، اكتفت بتنهيدة ومن ثم هزت رأسها. من المحتمل أنها كانت في تلك اللحظة تفكر ما إذا كان ابنها مجنونًا. لا زلت أتلقى نفس السؤال هذه الأيام، وأنا في السبعينيات من عمري، من الأشخاص الذين لا يعرفونني جيدًا. أشتبه بأن كثيرًا منهم كان يتوقع إجابة بأني اكتفيت من ذلك، وبأني تركت حماقات الشباب، ويُفضح اندهاشهم لاحقًا حينما يعلمون بالإجابة الحقيقية. يبدو أنهم كانوا يعتقدون بأن هناك خللًا ما في باطني، كما لو كنت أواعد فتاة في الثانوية بعمري هذا، وأتنزه معها في مدينة الألعاب.
يتلقى الشعراء شيبًا وشبَّانًا أسئلة نمطية في مقابلاتهم حول بداية مشوارهم والوقت الذي قرروا فيه أن يبدأوا بالكتابة، ودائمًا ما يفترِض السائل أن الإجابة ستكون بأن هناك لحظة اتخذ فيها ذلك الشخص قراره بكونه شاعرًا، وأنه حينما أخبر أهله بذلك صرخت أمه قائلة: “يا إلهي، ما الذي فعلناه لنستحق ذلك؟”، بينما ينزع أبوه حزامًا عن وسطه ويقوم بملاحقته في المنزل. غالبًا ما أخبر المحاور بوجهٍ بارد أني اخترت كتابة القصائد لكي أنال تلك الجائزة المعلن عنها في الأرجاء، بما أنه سيخيب نظرهم عندما لا أخبرهم بقصةٍ مشابهةٍ لما ذكرت؛ فهم يريدون شيئًا بطوليًا وحالمًا، وأنا أخبرهم بأني لست سوى مجرد طالب ثانوية آخر اختار كتابة القصائد ليبهر فتاة ما ولا شيء غير ذلك. لكوني غير أمريكي، فهم يسألوني وبنمطيةٍ أيضًا عن قصائدي التي كتبتها بالصربية، وعن تلك اللحظة التي اتخذت فيها قرارًا بترك لغتي الأم. وتبدو إجابتي صادمةً مرةً أخرى وأنا أخبرهم بأن على القصيدة أن تكون مفهومة لتصبح أداة إغواء، فلا توجد فتاة أمريكية ترغب بسماع قصيدة حب لها بالصربية بينما ترتشف مشروب الكولا.
ما يحيرني هو أني استمريت بكتابة القصائد لمدة طويلة بعد أن فرغت من حاجتي لها. كانت قصائدي الأولى سيئةً بشكل محرج، وما تلاها بعد ذلك لم تكن أفضل. عرفت في حياتي العديد من الشعراء الشباب الذين توقفوا عن الكتابة لاحقًا، حتى بعدما أخبرهم الناس أنهم عباقرة. لم يرتكب أحدهم هذا الخطأ معي، ومضيت بالكتابة. ندمت على إتلافي لقصائدي الأولى، لأني لم أعرف إلى الآن كيف تطورت. في ذلك الوقت، كنت أقرأ الروايات وليست لدي سوى معرفة ضئيلة بالشعر المعاصر والشعراء الحداثيين. لم أتعرض بشكل مباشر إلى الشعر إلا مرة واحدة، حينما كنت أدرس في باريس قبل انتقالي للولايات المتحدة. لم نتعرف إلى كلٍ من لامارتين وهوجو وبودلير ورامبو وفيرلاين فحسب، بل كنا نحفظ ونردد بعض قصائدهم ونلقيها أمام الصف. كان ذلك الأمر يعد كابوسًا بالنسبة إلي، بينما كان عبارةً عن متعةٍ مضمونةٍ بالنسبة لأقراني، الذين كانوا يسخرون مني بينما أخطئ في لفظ بعض أجمل سطور الشعر الفرنسي – لا زلت إلى اليوم لا أذكر شيئًا مما تعلمته هناك -. اليوم، أقر بأن حبي للشعر يأتي من تلك القراءات والأيام التي ألقيت فيها القصائد، والتي خلفت فيَّ أثرًا أكبر مما كنت أدركه حينما كنت شابًا.
هناك شيء آخر ساهم في استمراري بالكتابة، وهو حبي للعب الشطرنج. تعلمت اللعبة في بلغراد أثناء الحرب على يد أستاذ فلكٍ متقاعد. كنت وقتها في السادسة من العمر، واستطعت أن أهزم جميع من كان بعمري وأكبر منهم في حيِّنا. كانت أولى الليالي التي واجهت فيها الأرق تلك التي تعقب هزيمة ألحقها بي أحدهم، حيث كنت أعيد المباراة في ذهني. صنع مني الشطرنج شخصًا مهووسًا وعنيدًا. في ذلك الوقت، لم أستطع نسيان أي حركةٍ خاطئةٍ أو هزيمةٍ مذلة. عشقت المباريات التي لا يتبقى فيها من قطع المتبارزين إلا القليل، وتصبح أي حركة بعد ذلك مؤثّرة على النّتيجة النّهائية. حتّى اليوم، حينما أخوض مباريات الشّطرنج مع برنامج حاسوب (أسمّيه شخصيًا: الرب.)، والذي يهزمني في تسع مباريات من أصل عشرة، فإن هزائمي تثيرني أكثر من عدد المرات القليلة التي فزت فيها. دائمًا ما تذكرني قصائدي – والتي تتّصف بالقصر وتتطلب تعديلات لا تنتهي – بمباريات الشّطرنج، فهي تعتمد إما على صورة أو كلمة موضوعة بدقة، ويجب أن تكون نهايتها بمفاجأة وصرامة ضربة “كش ملك” أنيقة.
من السهل قول كل ذلك الآن. حينما كنت في الثامنة عشر من عمري، كانت لديّ أمور أخرى لأقلق بشأنها. انفصل والداي، وكنت بمفردي وقتها، أعمل في مكتبٍ بشيكاغو وأحضر محاضرات الجامعة ليلًا. لاحقًا، وفي عام 1958، حينما انتقلت إلى نيويورك، استمررت بالعيش على نفس النمط. كنت أكتب القصائد وأنشر القليل منها في المجلات الأدبية، ولكني لم أتوقع أن تمنحني الكثير. لم يتوقع أيٌّ ممّن صاحبتهم أو عملت معهم أني شاعر. كنت أرسم قليلًا في ذلك الوقت، وأجد الأمر أهون حينما أخبر أحدهم بذلك. كل ما أعرفه عن قصائدي هو أنها لم تكن بالجودة التي أردتها، وكنت أريد، من أجل أن أرتاح، أن أكتب شيئًا لا يحرجني أم أصدقائي المهتمين بالأدب. في نفس الوقت، انشغلت بأمور أهم، كالزواج، ودفع الإيجار، والتسكع في الحانات ونوادي الجاز، ودهن مصائد الفئران بزبدة الفول السوداني في شقتي التي تقع في الشارع الثالث عشر.
مجهودات رائعه ومميزه تشكر عليها اخ راضي
Keep going 😉
العفو