تقديم
يُعد تشينوا أتشيبي (1930-2013) أهم روائي أفريقي في القرن العشرين برائعته التي أصدرها قبل نصف قرن “الأشياء تتداعى”. مالا يعرفه الكثير من الناس هو أن تلك الرواية العظيمة هي جزء من ثلاثية تدعى “الثلاثية الأفريقية”، والجزءان الآخران هما “لم يعد ممكنًا” و”سهم الرب”. حسب الأخ/ أحمد زين من جريدة الحياة اللندنية، فقد تم إصدار الجزء الثاني لهذه الثلاثية منذ فترة طويلة تحت عنوان “مابعد الراحة”، ضمن سلسلة “من ذاكرة الشعوب” الصادرة عن مؤسسة الأبحاث العربية ببيروت.
تعرض هذه الرواية التحديات التي واجهت جيل مابعد الاستعمار في نيجيريا، ويلقي فيها تشينوا أسئلته ورؤاه حول الحرية، الجريمة، الكرامة، والحب عبر سرد متقن وحكاية مميزة. يسعدني أن أقدم للقارئ العربي ترجمة مقطع من هذه الرواية الجميلة على شكل حلقات. قراءة ممتعة!
لم يعد ممكنًا – تشينوا أتشيبي
ترجمة: راضي النماصي
الحلقة الأولى
ظل أوبي أوكونكو يشجع نفسه لمدة ثلاثة أو أربعة أسابيع من أجل هذه اللحظة. وعندما دخل قفص الاتهام في ذلك الصباح ظن أنه على استعداد تام. ارتدى قميصًا شاطئيًا وبدا هادئًا وغير مبال. ماحدث بعد ذلك من إجراءات كان كفيلًا بأن يُظهر على وجهه أمارات اهتمام قليلة، باستثناء لحظة وحيدة في بداية المحاكمة حينما دخل أحد المحامين في شجارٍ مع القاضي.
“تبدأ هذه المحاكمة في التاسعة تمامًا، لماذا تأخرت؟”
كان من المعروف بأن أي نظرة من معالي السيد ويليام غالاواي، قاضي محكمة لاغوس العليا والجنوب الكاميروني، كفيلة بزرع الرعب إلى حد الجمود في وجه من ينظر إليه، كما لو كان حشرة يحنطها صائدها بالفورمالين.
أخفض القاضي رأسه ككبشٍ غاضب، وحدج المحامي عبر عدستي نظارته المذهبة.
“أعتذر ياسيادة القاضي.” تلعثم المحامي. “تعطلت سيارتي في الطريق.”
استمر القاضي بالنظر إليه مدة طويلة، ثم فاجأه بالقول:
“حسنا ياسيد أدايمي، قبلت اعتذارك. لكن عليك أن تعلم بأني سئمت من أعذارك المعتادة حول مشاكل النقل.”
كان هناك من يضحك بصوت مكتوم في طرف القاعة. اكتفى أوكونكو بابتسامة ضعيفة ورمادية، ومن ثم فقد اهتمامه.
امتلأت قاعة المحكمة بالناس عن آخرها، وتساوى عدد الواقفين مع أعداد الجالسين. كانت القضية محط اهتمام لاغوس لأسابيع عديدة، وفي آخر يوم من هذه القضية، كان الكل يحاول أن يعتذر من عمله فقط لكي يحضر هذه المحاكمة ويستمع للحكم النهائي. دفع بعض موظفي القطاع الخاص مايوازي بكثرته عشر شلنغات وستة بنسات للأطباء، فقط لكي يحرروا أعذارًا مرضية لهذا اليوم.
لم يُظهر برود أوبي أي علامة نقصان، بل أخذ بالتزايد حتى حينما بدأ القاضي مراسم المحاكمة. كان ماحركه وأزال بروده بشكل مفاجئ هو عندما قال القاضي: “لاأستطيع فهم كيف يمكن لرجلٍ بمثل تعليمك ونبوغك أن يفعل ذلك”. طفرت عينا أوبي بدموع غادرة. أخرج منديلًا أبيض ومسح تلك الدموع من على وجهه كما لو كان يمسح عرقًا. حاول أن يغالب تلك الدموع ويبتسم بحيث تكون ابتسامته منطقية. كل ذلك الكلام حول التعليم والآمال والخيانة لم يكن متوقعًا. تدرب على هذا الموقف بالذات مئة مرة حتى تآلف معه كصديق.
في الواقع، عندما بدأت المحاكمة الأولى منذ بضعة أسابيع، تحدث السيد غرين – رئيسه، والذي استدعاه الإدعاء العام كشاهد – حول شاب واعد آخر، ولم ينبس أوبي بحركة. لحسن الحظ، فقد أمه مؤخرًا، وخرجت كلارا من حياته. صنعت هاتين الحادثتين المتقاربتين من أوبي رجلًا مختلفًا وأعدمت ماتبقى من إحساسه، مما جعله قادرًا على مواجهة كلمات مثل “الآمال” و”التعليم” بكل برود. ولكن، في تلك اللحظة المختلفة، خانته تلك الدموع الغدارة.
***
استمر السيد غرين بلعب التنس منذ الخامسة مساءًا، وكان هذا الأمر غريبًا عليه. كان من المعتاد أن يأخذ العمل أكثر وقته بحيث لايدع مجالًا له للعب. تعود أن يمشي في المساء كتمرين أساسي. لكنه اليوم لعب مع شخص كان يعمل في المجلس البريطاني الثقافي. ذهبوا بعد المباراة إلى مشرب النادي. كان السيد غرين يرتدي كنزة صفراء فاتحة فوق قميصه الأبيض، وتتدلى منشفة بيضاء حول عنقه. تواجد العديد من الأوروبيين الآخرين في المشرب. بعضهم نصف جالس على الطاولات المرتفعة، وبعضهم يقف في مجموعات مابين اثنين وثلاثة، يشربون البيرة الباردة، عصير البرتقال، أو خمرة الجين والتونيك.
“لاأستطيع أن أفهم لماذا فعل ذلك” قال موظف المجلس الثقافي البريطاني وهو يكفر. كان يرسم خطوطًا من ندى الماء المتكثف على زجاج كأس البيرة المثلجة الخاص به.
“أما أنا، فأستطيع.” رد السيد غرين بكل بساطة. “مالاأستطيع أن أفهمه هو عدم قدرتك على مواجهة الحقائق”. اشتهر السيد غرين بقدرته على قول مايجول في باله. مسح وجهه بالمنشفة البيضاء على عنقه. “الأفريقي فاسد من الداخل، كلما سبرت غوره”. أشاح موظف المجلس عنه، بدافع غريزي أكثر من كونه مفتعلًا. على الرغم من أن النادي كان مفتوحًا للأفارقة تقنيًا، فإن قليلًا منهم كانوا يرتادونه. في ذلك اليوم لم يتواجد منهم أحد، ماعدا الندلاء بالطبع، والذي يخدمون بشكل خفي. من الممكن أن تدخل، وتشرب، توقع شيكًا، تتحدث مع أصدقائك، وتغادر مرة أخرى دون أن تلاحظ وجود أولئك الندلاء في زيهم الأبيض. إذا حدث كل شيء كما ينبغي فلن تستطيع ملاحظتهم.
“كلهم فاسدون.” كرر السيد غرين. “أنا أدعو للمساواة وكل مايتعلق بها. على سبيل المثال، أنا أكره أن أعيش في بلدٍ كجنوب أفريقيا. لكن المساواة لن تغير الحقائق.”
“أية حقائق؟” سأل موظف المجلس، والذي قدم للبلاد حديثًا. اتسمت تلك المحادثة بالهدوء، وعلى الرغم من ذلك، فقد كان العديد من الأشخاص يستمعون إلى السيد غرين، دون أن يُظهروا ذلك.
” تلك الحقيقة التي تبين أنه لقرون لاتُحصى، كان الأفريقي ضحية أسوأ مناخٍ على هذه الأرض، وضحية لكل مرضٍ عصي على الخيال. بالتأكيد لم يكن خطأه، لكنه قد استنزف عقليًا وجسديًا. جلبنا له التعليم الغربي، ولكن بماذا أفاده؟ إنه… ” قاطع حديثه وصول صديق آخر.
“مرحبًا بيتر، مرحبًا بيل.”
“مرحبًا.”
“مرحبًا.”
“هل لي أن أنضم إليكم؟”
“بالطبع.”
“بكل سرور. ماذا تشرب؟ بيرة؟ حسنًا. أيها النادل. إجلب بيرة لهذا السيد.”
“أي نوعٍ ياسيدي؟”
“هينيكين.”
“حسنًا سيدي.”
“كنا نتكلم عن ذلك الشاب الذي تلقى رشوة.”
“أوه، نعم.”