إلى أين تضمحل الأفكار الجيدة؟ – عبدالرحمن سفر

مقدمة

هناك العديد من الظواهر السلوكية التي تمسنا كأفراد وتعطل حياتنا بشكل يومي، ولطالما تعاطينا معها بحلولٍ عامة وكلام إنشائي دون تحديد لمصدر المشكلة ومنح حل مباشر لها، بينما قد يكون الحل بدمج نظرنا للمشكلة من عدة زوايا وعلوم، وعدم الاكتفاء بزاوية واحدة. المقال القادم يوضح بالتفسير مشكلة يعاني منها الكثير – ومنهم أنا – تتعلق بالعملية الإبداعية خصوصًا والحياة بشكل عام، ولم يوجد لها تفسير محدد وواضح حتى لحظة ظهور هذا المقال.

عبدالرحمن سفر

عبدالرحمن سفر هو مدون سعودي ناشئ من المدينة المنورة، ومن سكّان المنطقة الشرقية. مهتم بترجمة السلوك البشري عن طريق العلوم الإنسانية: علم النفس، علم الاجتماع وعلم الاقتصاد السلوكي. يفضل طريقة السرد الحديث، حيث يبحث عن أصول المشكلة، وليس شكلها الظاهر.

المذهل في عبدالرحمن هو قدرته على الإلمام باالظاهرة من عدة جوانب بحيث ينظر لها بشكلٍ “تكاملي”، ولايقدم أطروحاته دون الاستناد لأرقام وحقائق علمية. وسنرى ذلك جليًا من خلال إحالاته للعديد من الكتب والنشرات في مجالات مختلفة.
هنا بعض العروض الشخصية له على موقع يوتيوب، والتي أنصح بمشاهدتها (اضغط على اسم العرض).
ذكاء العباقرة 
معضلة الإعلام الاجتماعي
من أين تأتي الأفكار الجيدة

هنا المقال لمن أراد الإطلاع عليه بالإنكليزية: اضغط هنا

أنا سعيد جدًا لمعرفتي بهذا المبدع، وفخور بترجمتي لهذا المقال المميز، والذي يفسر ظاهرة تعتري العملية الإبداعية كثيرًا دون أن نجد من يفسرها.

قراءة ممتعة!

إلى أين تضمحل الأفكار الجيدة؟* – عبدالرحمن سفر

ترجمة: راضي النماصي

        منذ مايقارب ثمانمائة عامٍ قبل الميلاد، حذر الشاعر الإغريقي هسيود من “ترك عمل اليوم إلى الغد أو اليوم الذي يليه”. كان القنصل الروماني شيشرون يدعو هذا التأجيل بـ”الكريه” بينما كان يصرف شؤون الدولة. المثير للإهتمام أنه، ومنذ قرون، لايزال تحذير كلٍ منهما تجاه هذا السلوك ساريًا حتى الآن. اليوم، نحن اصطلحنا على تسمية هذا السلوك بـ”التسويف”، ولطالما كنا نتعلم أن نواجهه درءًا لعواقبه الوخيمة.

لكني أعتقد بأننا نادرًا مانناقش الأسباب الجذرية للتسويف. لماذا نكون في غاية الحماس تجاه فكرة معينة، ونرى ذلك الحماس يتلاشى ونحن في سيرنا لإتمام الفكرة؟ كم من الكتب الجيدة وُضعت على الرفوف دون أن تطبع؟ كم عدد المشاريع الريادية التي أُلغيت؟ وكم من العشاق وقد ذهبت مشاعرهم؟ ولماذا في بعض الأحيان نجد أشخاصًا ذوي مستوى متواضع من المعرفة والفن ينتجون باستمرار، بينما نجد إنتاج الأشخاص المبدعين قليلًا؟ لماذا يعيقنا الكمال عن تحقيق مانريد؟

أعتقد بأن كل ما سبق مترابط أكثر مما نتصور، ورغم ذلك يظل من العسير أن نفسر التسويف في العمليات الإبداعية.

هذا المقال هو استقصاء حول أشخاص يحملون دافعًا ذاتيًا لإنجاز أفكار إبداعية وتحمل جانبًا من المخاطرة، ولكنهم يقومون في النهاية بالتخلي عن تلك الفكرة. لماذا يفعلون ذلك؟

يخبرنا ڤيك نيثي، وهو طالب علم نفس في جامعة نيو ساوث ويلز، أن التسويف هو نتيجة شد وجذب بين كل من القشرة الخارجية للمخ ” Prefrontal Cortex” والجهاز الحوفي “Limbic System”. القشرة الخارجية للمخ هي الجزء الصارم في تركيب المخ، والذي يحث الإنسان على البقاء بأحسن حالة؛ فهو يحث على التمرين، أو توفير المال، أو إنجاز مهامه. بينما الجهاز الحوفي هو المنطقة على النقيض تمامًا. فهي منطقة ذات تركيب بدائي في أدمغتنا، وهي التي تحث – على سبيل المثال – على تصفح مواقع التواصل الاجتماعي، أو خلق اهتمام مفاجئ لحالة الطقس.

يتساءل نيثي هنا: “لماذا يفوز الجهاز الحوفي بمثل هذا الجدال دائمًا؟”، ولكي يجيب على هذا السؤال، يصب اهتمامه خصوصًا على جزء مركزي وخاص في الجهاز الحوفي، وهي مايُعرف بااللوزة الدماغية “Amygdala”. تعمل اللوزة الدماغية على السيطرة على جانبي الخوف والقلق لدى الإنسان، أو التأثير المحفز للنجاة في مواجهة الكوارث المفاجئة “fight-of-flight response”. لنقل على سبيل المثال أن شاحنة قادمة من طرف الشارع تجاهك بأقصى سرعة. هنا تقف القشرة الخارجية للمخ عن العمل، مما يجعلك تفقد القدرة على استعراض الخيارات المناسبة. هنا تقوم اللوزة الدماغية بما يناسب لكي تنقلك إلى بر الأمان.

يقوم التسويف، وبشكل مشابه، بنفس العمل. فهو مظهر من مظاهر الاستجابة للقلق حيث تتوقف القشرة الخارجية للمخ عن العمل، ومنها تقوم اللوزة الدماغية بالتحفيز للتسويف. هنا يأتي سؤال مفاجئ:  “ماالذي يخيفنا لهذه الدرجة لكي تتوقف القشرة الخارجية؟”، حينما نقوم بمهمة غير سارة، فنحن نخشى الفشل، وهذا الخوف يشلّ قدرتنا على التفكير. لا نريد أن نتقبل الشعورٍ بأننا لسنا أذكياء كفاية أو قادرون على العمل بشكل مناسب. لذلك بدلًا من أن نقر بما نحن عليه أو نبحث عن الخطأ لكي نعالجه، يقوم العقل بلوم جوانب مختلفة مثل الكسل، قلة الوقت المتوفر، غموض المهمة، قلة المصادر المتاحة.. وعدة جوانب أخرى لاتنتهي. من الأسهل علينا قول “أنا كسول” عوضًا عن قول “أنا فاشل”، ومن السهل أيضًا أن أقول بأني “من الممكن أن أعمل بجدٍ أكثر” بدلًا من القول بأني “عملت بجد، ولكني لست ذكيًا بما يكفي”. نحن نرفض الفشل، كما يصفه نيثي، بتجربة تعلمٍ إيجابية.

يكمن الحل لمثل هذه المشكلة في التخطيط السليم، وهذا التخطيط يقوم بدوره بتحفيز القشرة الخارجية للمخ. لكن الأمر يبدو هينًا حينما نقوله، بينما هو أصعب مثل ذلك. يخبرنا ديف جروسمان Dave Grossman، مؤلف كتاب “حول القتل On Killing”، بأنه في أوقات الضغط النفسي الهائل دائمًا ما يتصل الناس بـ411 عوضًا عن 911. أو أنهم لايقومون بالضغط على زر إجراء المكالمة. دائمًا ما يحث جروسمان بالتدرب بشكل متكرر على مثل هذه المكالمة، لأنه وكما يقول: “إذا ماقمتم باالتدرب عليها، ستكون قادرًا على التصرف وقت الخطر”. هنا يقوم التكرار بما يشبه السيطرة على القشرة الخارجية للمخ، مما يقلل دور اللوزة الدماغية في التحكم، وبالتالي دور الجهاز الحوفي.

يجب في نفس الوقت أن لاننسى العنصر الآخر المهم، وهو إعادة تعريف الفشل من “تجربة مخزية” إلى “جزء تكاملي من العملية الإبداعية”. حينما نعيد التفكير بإيجابية حول عاداتنا، فنحن نستطيع تشكيل العالم الذي نود.

دعونا ننتقل بمفهوم التسويف إلى خطوةٍ أبعد. لنفترض أن بحوزتنا فكرة، ونحن متحمسون لأجلها. نقوم بعد ذلك بما يلزم: ندرس تاريخ السوق، الإمكانيات المستقبلية، المنافسون… إلخ، ولكننا نتوقف في مكانٍ ما وسط حماسنا. دائمًا ماتحبسنا الأمور التقنية عن التقدم في المشوار. دائمًا مايقبع خوفٌ في تلك اللحظة خلف عقولنا من المهمة مما يهول حجمها، أو يطالنا خوف من عدم إتمامها بالشكل المناسب. وإذا مافشلنا في إتمام تلك المهمة، فسيكون الانتقاد قاسيًا.

في نشرة دورية حول علم النفس في المملكة المتحدة، والتي صدرت بعنوان “اعتقادات ماوراء-معرفية حول التسويف“، وصفت مجموعة من حملة شهادة الدكتوراة التسويف بأنه “تأخير هادف في اتخاذ القرارات ضمن إطار زمني محدد”. لكن، ماذا لو وصلنا إلى نقطةٍ نتخلى فيها عن نية اتخاذ القرار؟ حينها سننتهي بدفن تلك الفكرة الجيدة. ولكن السؤال الأهم هو: ماالذي يقودنا إلى تلك المرحلة؟ أعتقد بأنه من المهم أن نتحدث عن ركام الفوضى حيث ينحرف مسار اتخاذ قراراتنا.

هذه مشكلة تم تناولها في منتصف القرن العشرين، وهي ما يعرف بمشكلة “فيض المعرفة Information Overload“، وهي تظهر بشكل أكبر في زماننا نظرًا لتوفر شبكة الإنترنت، والتي وضعت المعلومات قيد الطاعة للبشر. هنا أقتبس من بيرترام جروس Bertram Gross، صاحب كتاب إدارة المنظمات The Managing of Organizations، قوله: ” يحدث فيض المعرفة حينما تتجاوز كمية المعلومات المُدخلة طاقة استيعابها. لدى صناع القرار عمومًا طاقة استيعاب معرفي محددة، وحينما يحدث فيض المعرفة فمن الطبيعي أن جودة اتخاذ القرار لدينا تقل”.

يقود هذا بالتالي إلى ظاهرة نفسية اسمها “لعنة المعرفة Curse of Knowledge“، والتي تحدث للأفراد الأكثر إطلاعًا لأنهم يفشلون في تجاهل المعرفة المميزة التي يمتلكونها، وبالتالي هم يصابون بما يشبه اللعنة التي تجعلهم يفشلون في عرض قدراتهم، والتي تكون مقبولة في نظر الأشخاص ذوي الأقل اطلاعا.

إذًا، فليس من المستغرب أن نجد العديد من الأفكار الجيدة وهي تتلاشى. وإذا لم نكن قادرين على الموازنة بين اتخاذ القرار وفيض المعرفة، فلن يتحسن موقفنا.

لا ينشغل الأشخاص ذوي الاطلاع المحدود بمثل هذه العوائق، فدائمًا ما تكون رؤيتهم محصورة بالظواهر اللحظية، وهم بالتالي لايفكرون فيما يلي ذلك ولايعانون من فيض المعرفة. يسمى ذلك في أدبيات علم النفس بـ”تأثير دانينغ كروجير Dunning–Kruger Effect“. هذا التحيز المعرفي – إن صحَّ التعبير – يقود إلى غرور مضلل، مما يعني بأن الأشخاص ذوي القدرة المحدودة يقيمون قدراتهم أكبر مما هي في الواقع. هناك مقولة مشهورة لتشارلز داروين يصف فيها هذه الحالة: “يمنحك الجهل ثقة أكبر مما تمنحك المعرفة”.

يمكننا أن نرى هذه العقلية الواهمة حينما نرى الأفراد وهم يهتمون بالشهرة أكثر من الجودة. هم يريدون الظهور وحسب مهما كلف الأمر. هم يهتمون بظهور أسماءهم على العناوين الرئيسية أكثر من اهتمامهم بخلق تأثير ومشاركة ثقافية. لذلك، وعلى سبيل المثال، هم يهتمون بنيل مسمى “كاتب” أكثر من اهتمامهم بالكتابة نفسها.

ولماذا ينال مثل هؤلاء الاهتمام المميز من قبل المتلقين؟ أعتقد بأن إريك شميدت، المدير التنفيذي لشركة غوغل، أجاب على هذا السؤال بجدارة حينما قال “… في عصر وفرة المعلومات، فإن تعرض الأشخاص المستمر إلى مصادر متأثرة بالتقنية يمكن أن يترك أثرًا على عملية التفكير، مما يعرقل التفكير العميق والفهم، ويعيق تشكيل الذكريات أيضًا مما يجعل التعلم أكثر صعوبة”.

وهذا يقودنا إلى نقطة أهم. مايغيب عن أذهاننا هو عواقب التسويف الوخيمة، وهي تشمل الاكتئاب، قلة تقدير الذات، مما يقود إلى الأداء السيء. لكن هذه العواقب تبدأ بالتلاشي حينما نصل إلى المصيدة المرعبة، وهي جلد الذات. أفضل من وصف أخطار هذه المصيدة هو أوسكار وايلد، الكاتب الإيرلندي الشهير، حينما قال: “هناك متعة في جلد الذات، فحينما نلوم أنفسنا، ينشأ لدينا اعتقاد بأن لاأحد يملك حق نقدنا إلا نحن. حينها، فإن من منحنا الغفران هو الاعتراف، وليس الكاهن”. عندما نحصل على ذلك الغفران الزائف، فنحن نكف عن الإصلاح. وهذا الأمر يظهر بشكلٍ ملاحظ لمن يبحث عن الكمال، فيستطيع الواحد منهم أن يعزي نفسه بـقوله “أنني حاولت أن ألتزم بمعاييري العالية، ولم أستطع تقبل أن ينزل مستواي إلى أقل من ذلك”. وبذلك، هم يتخلون عن أفكارهم، دون أن يلاحظوا القيد الذي خلقوه لأنفسهم، والمتمثل في شكل عذر.

يجب علينا أن نعترف بأن لاأحد يبدأ بشكلٍ مثالي. وكلنا نشترك في ذلك، سواء كنا موسيقيين، رياضيين، مؤلفين، متحدثين أمام الجماهير، أو حتى لاعبي شطرنج. اقرأ الاقتباس التالي من فيليب نورمان، مؤلف السيرة الذاتية لفرقة البيتلز الشهيرة بعنوان “اصرخ ! Shout” : “لم يكونوا جيدين على المسرح حينما بدأوا، وقدموا شيئًا جيدًا عندما عادوا. كانوا يفتقدون الانضباط في المسرح قبل ذلك. ولكن حينما عادوا، غنوا كما لم يغن أحد من قبل. تلك اللحظات كانت رحلة خلقهم “. وهذا يقودني إلى اقتباس آخر لجون لينون، أحد أعضاء الفرقة، حينما قال بعد سنوات من ذلك: ” تحسنا، وبالتالي نلنا ثقة أكبر”.

أسلحتنا لمقاومة التسويف في حياتنا هي التدرب باستمرار، الموازنة بين اتخاذ القرار، والتقدم باتجاه النجاح عن طريق الفشل. كما قال رالف والدو إيمرسون: “لاأحد يعلم كنه الأمر الذي يقدم عليه، أو مقدرته على اتمامه، قبل أن يجربه”.

هوامش:

* تلاعب من قبل المؤلف بعنوان كتاب ستيفن جونسون: من أين تأتي الأفكار الجيدة Where Good Ideas Come From؟

 

تعليق 1

اكتب تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s