حوار بين إليانور واكتيل وأنطونيو سكارميتا.
برنامج “في صحبة الكتَّاب” – إذاعة cbc الكندية – 4 أبريل 2010.
ترجمة: راضي النماصي
في الثامن والعشرين من فبراير 2010، حدث زلزال مروع في تشيلي بمقياس 8.8 ريختر، وهو يعد ثاني أقوى زلزال في تاريخ البلاد بعد زلزال 1960. في هذا الحوار المترجم، نرى أحاديث بينهما حول الزلزال الحالي، ويمهد لأحاديث أخرى حول روايات سكارميتا ومشواره في الكتابة، تاريخ تشيلي السياسي والأدبي، وآراءه في الأدب وتحولات الحكم في بلاده. اللقاء حميمي ويضج بالمشاعر والضحك والمتعة.
لمن يجيد اللغة الإنجليزية، من الأفضل له أن يستمع للحوار على هذا الرابط
http://www.cbc.ca/player/Radio/Writers+and+Company/2011/ID/1817797673/
تعريف بالمحاورين:
أنطونيو سكارميتا، روائي تشيلي من أصول كرواتية، وهو من مواليد 1940، كتب روايات عدة بعضها ترجمت للعربية عن طريق المترجم القدير صالح علماني، منها “عرس الشاعر” و “فتاة الترومبون”، وقد حقق من خلالها نجاحًا ممتازًا. لكن روايته “ساعي بريد نيرودا: صبر متأجج” – والتي ترجمها صالح أيضًا – تحولت إلى فيلم بديع باللغة الإيطالية حاز على عدة جوائز أوسكار، واسم الفيلم il postino، كما تحولت إلى مسرحية وتمثيلية إذاعية، وترجمت إلى العديد من اللغات، مما كفل له نجاحًا ساحقًا لايضاهى. حاز العديد من الجوائز الأدبية حول العالم، وتنقل مابين مناصب دبلوماسية وأكاديمية.
إليانور واكتيل، مقدمة برامج كندية من مواليد مونتريال سنة 1947، عملت في منتصف السبعينات ككاتبة مستقلة في فانكوفر، وأستاذة في جامعة سايمون فرايسر. في خريف 1987، تولت تقديم برنامج إذاعي حول الفنون في تورنتو. أدارت برنامج
الحوار
– حدث للتو زلزال في تشيلي بقوة 8.8 على مقياس ريختر. حدثني عما واجهته وقتها؟
– كان حدثًا في غاية السوء. حدث الزلزال فجر الجمعة في الساعة الرابعة، أثناء استغراقنا في النوم، وكان من السيء أننا لم نستطع المكوث في أسرتنا، إذ أدركنا وقتها أن الهزة كانت قوية وطويلة، مما اضطررنا للخروج إلى الحديقة. كان ابني الذي يبلغ من العمر عشرين عامًا يحتفل مع أصدقائه، وقد نهض مرتاعًا بفعل قوة الزلزال. دام الزلزال لمدة دقيقتين، وبعد ذلك التقطنا أنفاسنا وحاولنا معرفة الأخبار، إلا أننا لم نستطع لأن الكهرباء تقطّعت على نحو مستمر. تطلبت إعادة التيار من شركة الكهرباء اليوم التالي بطوله، أما نحن فكنا نحاول البحث عن مذياع لمعرفة الأحداث، لكن المذياع والجرائد لم تعطنا معلومات كافية بسبب الرعب. أنا من مواليد تشيلي، وهذا البلد اعتاد كثيرًا على الزلازل، لكن هذا الزلزال كان مختلفًا، إذ كان عنيفًا للغاية، وقد عرفت من اللحظة الأولى أنه سيخلف مأساة لن تمحى.
– هل تتذكر الزلزال الذي حدث سنة 1960؟
– نعم، أتذكره، وكان قويًا أيضًا. لكن هذا الزلزال أطول وأفظع، إذ كنا نهتز طوال الوقت والأشياء تتداعى من حولنا. أتذكر أنا أحسسنا بالزلزال القديم وارتعبنا منه، لكنه لا يقارن بالذي حدث توًا.
– وُلدتَ في أنتوفوغاستو، شمال تشيلي. هل يمكنك أن تحدثني حول تلك المدينة والمنطقة؟ ما الذي كانت عليه حين نشأت؟
– حين وُلدت في أنتوفوجاستو كانت تصنف قريةً، وحالها أشبه بمدن أخرى مثل كلاما وتشوكيكماتا، والتي كانت تختزن المعادن في جوفها. والمعادن، خصوصًا النحاس، هو صادرنا الأساسي للعالم. إذ تكمن ثروة تلك المنطقة، بل ثروة تشيلي بأكملها، في تصدير النحاس. لم تكن المدينة حديثة ومتحضرة في صغري كما هي اليوم. كنت طفلًا من عائلة مهاجرة، أتت من جنوب كرواتيا. قدم أجدادي في بداية القرن الماضي، ولم يستطيعوا التحدث بالإسبانية. تعلموها بكثيرٍ من المشقة. و…
– (مقاطعة) ما الذي أتى بهم إلى تشيلي؟
– كانت في كرواتيا خلال ذلك الوقت مشكلتان: كانوا يملكون في تلك الأيام كروم عنب، التي عانت بسبب أمراض تسببها حشرة الفيلوكسرا، وتلك الحشرة تتسبب بضرر مهول لكروم العنب، والتي تنتج بدورها النبيذ والزيت. لذلك حدث هناك فقر مدقع، مما جعلهم يقررون الهجرة إلى أمريكا. المضحك في الموضوع أن وجهتهم لم تكن تشيلي في بادئ الأمر، بل الولايات المتحدة، التي كانت تمثل أرض الوعود؛ لكن لظرف ما توجهوا إلى تشيلي. قدموا في البداية إلى قريتين هما أنتوفوغاستو في الشمال، وبونتانيراس في أقصى الجنوب.
– أوه، هذه بالفعل آخر نقطة من تشيلي.
– صحيح، كان يمتلك جدي مخزنًا في ناصية الشارع. وكان يبيع فيه البقالة. أما جدتي فإنسانة فريدة من نوعها لأنها كانت تحب الأدب كثيرًا، وبما أنها لا تستطيع قراءة الأدب بالإسبانية [لكونها كرواتية] كانت تستعيض عن ذلك بسماع التمثيليات (الميلودراما) على المذياع، وتلك تسليتها. بدأت علاقتي بالأدب من خلال الاستماع لهذه الدراما الإذاعية، والتي كانت تستدر العواطف ومليئة بالرومانسية والمؤثرات الصوتية – إنه مذياع، بطبيعة الحال -. وبالحديث عن القصّ، كانت جدتي تهتم بشكل خاص بتدوين تلك المسلسلات عندما كنت في الثامنة من عمري. فبدأ ذلك الاهتمام يكبر فيّ عمع تقدمي في العمر
– هل شكل الانتماء إلى مجتمع المهاجرين عائقًا لدى أجدادك؟
– كلا، فتشيلي كانت مضيافة للجميع، إذ أنها في تلك المرحلة تتطلع للنمو، وبالتالي صار كل المهاجرين من أوروبا مرحبًا بهم، وشكلوا في الوقت ذاته قوة حماية لذلك البلد.
– هل يتشارك معك أبواك نفس الثقافة؟ هل ولد أبواك في تشيلي أيضًا؟
– نعم، في نفس المدينة التي ولدت فيها. أبي توفي قبل خمس سنوات، وأمي لا تزال حية.
– وكيف كانت حياة العائلة وقتها؟
– كان أبي شخصية مغامرة بطبعها، إذ جرب العديد من الأعمال دون أن يحالفه النجاح في أيٍ منها، وكان ذلك سيئًا للعائلة، لكنه كان جيدًا بالنسبة لي بصفي كاتبًا، لأني واجهت الواقع بأشكال مختلفة، فقد كنا نبحث عن مستقبلٍ أفضل، ولذا هاجرنا إلى بوينس آيرس في الأرجنتين. كانت السنوات الثلاث التي عشتها هناك منذ العاشرة من عمري أسعد أيام حياتي، فقد تعرفت وقتها على لكنات جديدة، وأصدقاء جدد، وعلى أدب رائع أيضًا، لأن المكتبات وقتها في بوينس آيرس ممتعة وجذابة، وكل الآداب منتشرة حول المرء، إضافة إلى المسرحيات، والأفلام؛ فدور العرض كانت ممتلئة وبكثرة، وكذلك دُور الأوبرا.
– خلال الخمسينات؟
– نعم. أحببت أيضًا كرة القدم، وبدأت أتعلم الشعر بالسليقة. كنت سعيدًا بالفعل [في تلك الأيام]، وأود أن أشكر أبي لأنه أخذنا إلى هناك. بدأت العمل لدى محل خضار وفاكهة منذ وصولنا لأنه لم يكن معنا مال، وكنت أوصلها لمنازل مختلفة، وأتقاضى بعض البخشيش، وأستلم مرتبي كل أسبوع. كنت أستطيع بهذا المال أن أشتري مجلات، وأن أذهب للسينما. وفي ذلك الوقت كنت أحب الآيسكريم، وتستطيعين أن تلاحظي مافعل بجسمي لأنه كان مليئًا بالدهون (يضحك) . كنت مستقلًا.شعرت في العاشرة من العمر بالحرية والاستقلالية، وكان لذلك تأثيره على حياة أبي.
– وعندما عادت عائلتكم إلى تشيلي، هل توجهتم إلى أنتوفوغاستو؟
– لا، فقد ذهبنا إلى سانتياغو [العاصمة]. توجهت إلى المدرسة الثانوية هناك، وبعدها إلى كلية كانت تسمى “المعهد الوطني”. كانت كلية راقية، ودرست بها لمدة ست سنوات.
– كيف ذهبت إلى هناك؟ أقصد، بما أن العائلة لم تملك مالًا لذلك، هل ذهبت إلى هناك بمنحة؟
– كلا، فمن الأشياء الرائعة التي كانت موجودة في تشيلي قبل حكم بينوشيه والإنقلاب العسكري أن التعليم بمراحله كان مجانيًا، حتى التعليم الجامعي؛ إذ يكفي أن تتقدم لمقابلة الجامعة بمؤهلاتك وتُظهِر اهتمامك بالمعرفة والحياة لتدخل.
– ما الذي طمحت لتكون عليه في ذلك الوقت؟
– في ذلك الوقت؟ عزيزتي إليانور، منذ اللحظات الأولى في حياتي عندما سألت هذا السؤال لنفسي أجبت بأني أريد أن أكون كاتبًا، ولا شيء آخر. حكمت عليَّ جدتي منذ كنت في الثامنة بأن أكون كاتبًا خلال حديثٍ معها، وقد تقبلت ذلك الحُكم. دعيني أخبركِ أمرًا آخر. حينما كنت في السادسة عشر من عمري، وكنت أنهي دراستي الثانوية، سألني أبي: “ما الذي تريد أن تفعله في حياتك يا بني؟”، وأخبرته بلا تردد: “أريد أن أصير كاتبًا يا أبي.”، وعلى الفور، لم يقم أبي بما سيقوم بفعله أي أبٍ تشيلي في ذلك الوقت حينما سمع الجواب، أي إرسال الابن إلى مصحة عقلية (يضحك)، بل قال: “رائع، عظيم، يا لها من فكرة جيدة. اسمع، قم بكتابة قصص واقعية أو قصائد، وهاك العديد من الدفاتر، واكتب بقلم الرصاص، وسأطبع ما تكتبه يوميًا على الآلة، وستجده مطبوعًا بشكل ممتاز صباح الغد.”، وقد حدث ذلك بالفعل، إذ أخذت تلك الدفاتر، وظللت أكتب باستمرار كل يوم. وفي يوم ما، قال أبي: “اسمع يا بني، هل كتبت ما يكفي من القصص لتنشر كتابًا؟”. لم ألاحظ ذلك في بادئ الأمر، لأن الكتابة كانت محض متعة، ولم أفكر في ذلك الوقت بنشر كتاب؛ فرددت بأني لا أعرف. لكن، ماذا فعل أبي؟ ذهب بكل قصصي وأرسلها لمسابقة وطنية للقصص القصيرة دون أن يخبرني، وتحت اسم مستعار. بعد ذلك بشهرين، كل ناشر في تشيلي كان يبحث عني لينشر كتابًا لي، وذلك لأني تلقيت الكثير من المديح بخصوص قصصي. هل يمكنكِ أن تتخيلي مقدار محبتي لأبي بسبب ذلك؟
– نعم، يا له من أمر استثنائي. هل كان والدك قارئًا جيدًا؟
– كان قارئًا. حين مات، كنت أحاول البحث عن معلومات بخصوص حياته قبل ولادتي. وفي أحد المرات، وجدت في جريدة تابعة لأنتوفوغاستو بعض القصائد المنشورة باسمه، فقرأتها، وكانت ناعمة وحساسة بشكل عجيب. أظن أن له اهتمامًا بالأدب الجميل، وجال بباله: “لن أصبح كاتبًا، ولكن إن كان يريد ابني الكتابةَ، فلم لا؟”
– ماذا عن أمك؟ هل كان لديها اهتمام بهذا الموضوع؟
– لا أظن ذلك. أمي امرأة جميلة ومحافظة، وليس لها ذلك الاهتمام الفكري. كانت تحب الاستماع إلى الموسيقى، وخصوصًا موسيقى البوب الرومانسية التي ندعوها “بوليروس”. كانت لديها أغنية محببة اعتدنا أن نرددها دائمًا وهي “نوسوتروس”، وهي أغنية حزينة عن ثنائي لا يستطيعان العيش معًا لسبب مجهول لم توضحه الكلمات. الرجل يقول لفتاته: “يجب أن نفترق، أعتذر، ليس هناك مايمكننا فعله”.. (يغني مقطعًا من الأغنية).
– وهل ما زلت تغنيها مع أمك؟
– حتى الآن. لقد كبرَت بالسن، وفقدت جزءًا من ذاكرتها. لكن كلما رغبت بإسعادها، أبدأ بغنائها وتعود على الفور مبتهجة للحياة.
– قلت يا سيد سكارميتا أنه أحلام الهجرة من تشيلي إلى الولايات المتحدة كانت تراودك لفترة طويلة، وتحديدًا نيويورك. لماذا؟
– لأني لم أعرف كندا وقتها (يضحك). اسمعي، كنت دبلوماسيًا في فترة ما، فمتى ما سنحت لي فرصة انتهزتها مباشرة. كنا مبهورين بالثقافة الأمريكية على الصعيد الشخصي في ذلك الحين، وكان الأمر برمته معقدًا، فمن جهة سياسية، كنا يساريين.. ولم تعجبنا سياسات أمريكا، لكن على الجهة الأخرى، كنا مبهورين بثقافة الأمريكيين السريعة: حيث موسيقى الروك آند رول، وأفلام هوليوود، وصنَّاع الأفلام المستقلين، والشعر والنثر. لذلك كنا في ذلك الوقت معجبين بشعراء أمثال والت ويتمان، وقاصين أمثال جاك كيرواك، وروائيين مثل سكوت فيتزجيرال، فهم كانوا من نقرأ لهم ذلك الوقت. كنا مغامرين بطبعنا، ونرى أن الحياة في مكان آخر وليس تشيلي. صحيح أنها تحمل مناظر ساحرة، وتحوي الزلازل المثيرة، لكن الفن، والثقافة، والحياة، والشاشة الكبيرة.. كانت خارج البلاد في الولايات المتحدة؛ وهذا كان سبب الافتتان. عندما لاحت أول فرصة للذهاب، أخذت الباخرة، وذهبت مع أصدقائي هناك للتجوال.
– هل كان ذلك قبل حصولك على المنحة لدراسة ماجستير الآداب في جامعة كولومبيا؟
– نعم. لأني كررت الذهاب إلى هناك بحثًا عن المغامرة. ذهبت أيضًا مع أصدقائي إلى بلدان أمريكا الجنوبية كالبرازيل، والبيرو، وبوليفيا، وكنا نعود من هناك إلى تشيلي. وبقدر ما اكتنفت تلك الرحلات متعةً فقد تطلبت أيضًا تضحيات، لأنها كانت محفوفة بالمخاطر. كنا ننام بعض الأحيان في الشارع، ولا نجد ما نأكله، ومرةً جربنا أن نخبز لنأكل. لكني عدت بعد كل ذلك للجامعة، وبدأت دراسة الفلسفة في ذلك الوقت، ومن ثم أتتني المنحة للذهاب إلى جامعة كولومبيا في نيويورك.
– كيف تغيرت نظرتك إلى تشيلي أثناء عيشك في الولايات المتحدة؟
– في الواقع، لقد تغيرت كثيرًا. إذ لم يكن للثقافة اللاتينية ذلك التأثير في أمريكا خلال ذلك الوقت، إذ كان نشاطهم خاملًا في المحافل الثقافية، وكانوا لا يمثلون سوى قوى عاملة في وظائف قاسية ذات أجر سيئ. كان لدى تشيلي في ذلك الوقت مسرحيات لا تجلب الانتباه، وكنت – عمومًا – مستمتعًا بحياتي؛ لكن في لحظةٍ ما، أدركت بأنه يجب علي أن أبحث عن جذوري، فعدت إلى تشيلي، وبدأت الاستمتاع بالحياة اليومية هناك. بدأت بالتعرف على جوانب من تاريخنا، والنظر إلى الناس بعين أخرى: عين التعاطف والاهتمام. وبهذا السلوك، تغيرت اهتماماتي السياسية. كما بدأت أيضًا بكتابة قصصٍ تقع أحداثها في تشيلي، وبشخصياتٍ شابة.
– كنت تريد أن تكتبها كذلك كي تصبح كاتبًا أمريكيًا، مثل جاك كيرواك؟
– نعم، بالطبع. كانت شخصياته تستمتع بحياتها طول الوقت. على ذكر المتعة، أذكر أني كنت في رحلة إلى بوليفيا، وكنت متوجهًا بقطارٍ إلى لاباز [العاصمة]، وكان هناك العديد من الأشخاص يرقصون في المحطة. قابلت فتاة بتلك الملابس البوليفية…
– (مقاطعة) متعددة الطبقات؟
– نعم. كانوا يرقصون بنشوة. واحدة من الفتيات كانت تخاطبني وتقول: “يا هذا، انزل من القطار.”، ورددت بأني لا أستطيع لأني ذاهب إلى لاباز. كنت في أورورو، إحدى مدن جنوب بوليفيا، فردت علي بقولها: “لا تذهب، لاحقًا ستموت ويفوتك كل هذا.”، فقفزت من القطار فورًا، فاستقبلتني الفتاة وعلمتني كيفية الرقص في هذا المهرجان. أتذكر أنني شربت كثيرًا، وكنت أستمع إلى موسيقى لغتهم، وإلى شعرهم، تحت ذهول طاغٍ. مثلَت بوليفيا بالنسبة لي ذلك البلد المبشر بالثقافة اللاتينية، ومرجع تلك القارة في الفن والأدب. فخطر في بالي: “يا لي من أعمى. كم أحب هذه القارة، وكم أحب هؤلاء الأشخاص.”، وهذا السبب الذي دفعني للعودة إلى تشيلي.
– بدأت تنشر كتبك ذاتيًا في أواخر الستينات أثناء اشتغالك في الصحافة في سانتياغو، إضافة إلى عملك ناقدًا أدبيًا، ومخرجًا فنيًا، وأستاذ أدب في الجامعة. هل كانت تلك الفترة في صالح الفن والثقافة في تشيلي؟
– كانت تلك الفترة الأفضل على مدى العصور. لأن الحياة في ذلك الوقت على أقصى تسارعها، ومنطلقة بالحد الأقصى من المتعة، كما كان هنالك العديد من الحركات السياسية التي تهدف إلى تحسين معيشة الفقراء، والعديد من الحركات السياسية الجديدة التي لم تتبع أطر الشيوعية البالية أو الخطب الإشتراكية الشعبية، إذ حظيت بالكثير من الطاقة الثقافية. صحيح أنها حركات سياسية من الخارج، لكنها كانت ثقافية في الصميم. فقد أردنا التقدم والحرية، لكننا بطريقتنا. كان الأمر برمته يبعث على الحماس. كانت تلك الأيام ممتعة، ومليئة بالاستقلالية.
– كانت ممتعة إلى أنها لم تعد كذلك (تضحك). كيف كانت الأجواء في السبعينات، حين كان سلفادور الليندي وحزبه اليساري أول حزب منتخب ديمقراطيًا في تشيلي؟ هل كان هناك دعم للمجتمعات الثقافية والفكرية؟
– بشكل كامل تقريبًا. الفنانون والأدباء كانوا مستمتعين بالمحافل والأجندة التي كانت تقام لهم، أما الرجل نفسه فكان ملهمًا بحق، وحساسًا، كأنما خلق من أجل الثقافة. كان كل فنان وكاتب يعمل بالاتجاه نفسه، وكذلك سلفادور الليندي وأحزابه السياسية. عندما انتهت تلك الفترة بقتل الجيش الكثير من الناس واعلان الانقلاب، كان من ضمن القتلى العديد من الفنانين والأدباء. تعلمون جميعًا كيف قتل فيكتور خارا، وهذا لوحده مثال مأساوي لما جرى. قبل شهرين، ظهر تقرير حول كيفية إعدامه، وعن الطلقات التي اخترقت جسده. كان معتقلًا في سجون الجيش، وتم إعدامه بأكثر من ثمانين طلقة، مما قطعت جسده إربًا.
– (مقاطعة) تم الاحتفاظ بما تبقى من جثمانه..
– قاموا بتحليل المتبقي من خلال تقرير علمي عالي الدقة، لدرجة أنهم عرفوا توقيت كل طلقة وماهي الطلقة الأخيرة. ما حدث كان أمرًا مهولًا. وما أود قوله الآن هو، ومن خلال هذا المثال، أن حماس المثقفين والشباب كان مليئًا بالحركة والحرية، لدرجة أنهم دفعوا حياتهم ثمنًا لذلك في مناسبات عديدة.
– يا أنطونيو سكارميتا، كانت الفترة التي قادت إلى انتخاب سلفادور الليندي مسرح أحداث روايتك الأشهر “ساعي بريد نيرودا: صبر متأجج”. ولعل العنوان الأكثر شهرة عند القراء هو “ساعي البريد”، وذلك بسبب الفيلم الجميل الصادر سنة 1994 بعنوان “Il postino”. القصة تستعرض أحد أيقونات تشيلي الثقافية، أي الشاعر بابلو نيرودا. هل كنت تكن قدرًا كبيرًا لنيرودا على المستوى الشخصي والشعري؟
– نعم، ولازلت. من بين العديد من الشعراء في كلا الأمريكتين، يبقى نيرودا شاعري المفضل بفارق بعيد عن غيره، ومن تشيلي أيضًا، وهذا سبب آخر لكي أحبه. لذلك كتبته شخصيةً في روايتي، وأحببته كاتبًا وقارئًا، إذ بدأت دراسته بشكل عميق، ودرَّست شعره لطلابي حينما كنت أستاذًا مساعدًا بالجامعة. وحين نشرت كتابي الأول، قررت الذهاب إلى إيسلانيدا، قرية صغيرة ساحلية تبعد 200 كيلو متر عن سانتياغو، ومعي كتابي الأول. كان ذلك الكتاب عبارة عن مجموعةٍ قصص قصيرة بعنوان: “الحماس”، وذلك العنوان مختار عن قصد. إذ لاحظت في ذلك الوقت أن كل النثر في تشيلي نثر محافظ، وكئيب، ومليء بالشخصيات المسنة التي تحتضر، وأردت أن أظهر للناس أن الحياة رائعة، وتبعث على الحيوية والمرح والأمل والمغامرة، وذلك منذ بداية الكتاب، أي الغلاف. أخذت الكتاب إلى نيرودا، وطلبت منه أن يقرأه، فقال لي: “حسنًا أيها الشاب، أود أن أقرأه، ولكن ليس الآن. سأقرأه خلال شهرين. عد بعد شهرين وسأخبرك حول رأيي في الكتاب.”، لكني عدت بعد أسبوعين. طرقت الباب، وعندما أتى نيرودا إلى الباب قلت له: “مرحبًا، هذا أنا. هل قرأت كتابي الأول، الذي أهديته لك؟”، رد علي بـ: “نعم، قرأته.”، لم أستطع الانتظار، فقلت:”وما رأيك به؟”، نظر إلي وقال: “جيد.”، من دون أي حماس. لكن، كان مجرد سماعي كلمة “جيد” من شفتيه كافيًا ليجعلني سعيدًا. كدت أن أقفز من الفرحة، لكن نيرودا – وأتذكر ذلك جيدًا – أتبع قائلًا: “ولكن، ما قلته لا يعني شيئًا. لأن كل كتابٍ أول لمؤلفٍ تشيلي هو كتاب جيد.”
– (تضحك) .. هل استمررت بالتعرف عليه شخصيًا؟ أو أمضيت وقتًا معه؟
– يظن بعض الناس من خلال روايتي والفيلم المقتبس عنها أنني أحد أصدقاء نيرودا الحميمين، بينما في الحقيقة لم أكن كذلك. إذ لم أرَ نيرودا سوى اثنتي عشرة مرة تقريبًا طوال حياتي، وفيما عدا ذلك لم أره قطّ، ولم أزره بشكل منتظم. في نهاية حياته، عندما كانت الحكومة برئاسة حزب “وحدة الشعب”، خضنا عددًا من الاجتماعات المتكررة لنرى كيف يمكن للمؤلفين المبدعين والفنانين انقاذ حكومة سلفادور الليندي من كارثة محققة، ولذلك كتبنا منشورًا مشتركًا إلى المجتمع الدولي نطلب فيه المساعدة لتجنب الانقلاب، ووقتها قابلت نيرودا مرات أخرى. في مرات عديدة، حينما كنا نجتمع مع نيرودا، تكلمنا عن أشياء لا يتكلم عنها المثقفون عادةً. تكلمنا عن علاقات حبنا في الماضي والحاضر، وعن شعراء آخرين يعيشون في سانتياغو وعلاقات الحب التي لديهم، وعن الرحلات، وعن أعداء نيرودا، وعن شعراءٍ يكرههم نيرودا. اعتدت ممازحته عبر تحوير بعض الكلمات في شِعره لتظهر قصائده بشكل مضحك. كانت علاقة جميلة في ذلك الوقت لأني كنت صغيرًا في ذلك الزمان ومستقلًا. لم أنتمي لأي حزب سياسي، أما هو فكان شيوعيًا متطرفًا. كانت العديد من مقابلاته مع رؤساء حزبه والعديد من الشخصيات الدولية تتسم بالجدية، لذلك حين كنت أقابله كان يعلم بأننا سنحظى بالكثير من المتعة والضحك. وربما لهذا السبب كتبته في “ساعي بريد نيرودا” بتلك الشخصية الظريفة، وأعتقد بأنها أتت من تجربتي وأحاديثي معه. لا يشك أحد في أن نيرودا الحقيقي كان رجلًا مهمًا بشخصية مؤثرة، بينما نيرودا الذي في الرواية كان يُرى بعيني ساعي بريد حالم في قرية تشيلية.
– كانت هناك برقية من ضمن الرسائل التي أتى بها ماريو إلى بابلو نيرودا أرسلها الحزب المركزي الشيوعي، وتفيد بترشيحهم إياه للرئاسة، وهذا ما حدث بالفعل سنة 1970 إلى أن تنازل عن ترشيحه وقام بدعم سلفادور الليندي. كما توجد العديد من الأحداث الحقيقية الأخرى، كرسائله الدبلوماسية إلى أصدقائه، وحيازته جائزة نوبل عام 1971. ما الذي دفعك إلى طرح هذه المعالم بأعين سكان شبه أميين من تشيلي ..
– (مقاطعًا) لأن تلك الأحداث كان لها تأثير في حياتي، وحياة نيرودا، والحياة في بلادي عمومًا. الرواية نفسها تُعد استعارة أيضًا، وتلك الاستعارة تعبر عن الحياة الغنية بالأحداث في تشيلي خلال فترة قصيرة جدًا من الزمن. وبما أن الرواية بأكملها مبنية على علاقة بين شخصين غير متكافئين، قررت أن أستخدم هذه الأحداث المتصلة: انتخاب سلفادور الليندي، ذهاب نيرودا إلى باريس، ومن ثَمَّ الإنقلاب؛ وفي النهاية تلك النهاية المأساوية لماريو خيمينيث ساعي البريد. وكل تلك الأحداث كان لها تأثيرها في بلادي.
– كيف كان ردك على الأحداث التي مرت على نيرودا خلال تلك الفترة، من مرضه وحتى العناية به في المستشفى والهجمات على منزله، وغيرها؟ لأننا نرى في غلاف الرواية الخلفي تلك الأزمات والمعارك الوحشية التي جرت سنة 1973، والتي دمرت أحلام نيرودا والكثيرين غيره بتشيلي ماركسية واشتراكية.
– في أيام الإنقلاب، ومنذ أيامه الأولى، كنا نأمل بغد أفضل. كان الكل يريد أن ينجو بحياته في تلك الأيام المأساوية، فيركضون ويختبئون ولم يعيروا اهتمامًا كبيرًا بمن لم يقطن سانتياغو. كان نيرودا يعيش وقتها في إيسلانيدا. – بالمناسبة، دعيني أخبركِ أمرًا: – تُوفي نيرودا بعد عشرة أيام فقط من الإنقلاب، أي عشرة أيام من موت سلفادور الليندي. وحين مات، أحضر جثمانه إلى سانتياغو في سيارة إسعاف. وصلت جثته في المستشفى، وفي اليوم التالي حضرت جنازته. في ذلك الوقت، كان كل من يرتبط به في خطر، لأن احتمال قتله موجود. هكذا بكل بساطة. في يوم الجنازة، قدم العديد من الأشخاص لمرافقة جثمان الشاعر إلى المقبرة. أعتقد بأن كل من مشى مع الجثمان إلى المقبرة كان بطلًا وعلى قدر كبير من الشجاعة، لأنه يخاطر بحياته وأكثر من ذلك. عندما وصلت الحشود إلى المقبرة، بدأت بغناء “النشيد الشامل”.
– هل كنت هناك؟
– لا، لم أكن هناك، كنت مختبئًا. أعتذر [عن هذه الفعلة]، لست من هذا النوع من الأبطال أبدًا، وأقر بذلك. أحترم كل من ذهب إلى هناك في ذلك الوقت. بينما كنت أفعل شيئًا آخر. صحيح أنه ليس بذلك الشيء الاستفزازي كمرافقة الجثمان، لكن كنت مشتركًا بنوع آخر من المقاومة، وليس بذلك البطولي؛ إذ كنت أخبئ بعض الأشياء المهمة بالاشتراك مع عدة رفاق.
– تغيرت حياتك يا أنطونيو سكارميتا بشكل متسارع بعد الانقلاب على سلفادور الليندي في سبتمبر سنة 1973، إذ أرغموك على مغادرة تشيلي. ما الذي حدث لك بالضبط؟
– ليس من الدقيق أن نقول بأني غادرت تشيلي قسرًا. فقد اعتقدت في ذلك الوقت بأنه من الأفضل أن أغادر البلاد، لأن حرية الكتابة معدومة، إذ لم تكن هناك صحافة مستقلة، والكتب ممنوعة، كما طُرد الأساتذة من جامعاتهم، وكنا بلا وظائف. سألت نفسي:”ما الذي أستطيع فعله هنا؟” ولم أعرف الإجابة، لذلك قررت الرحيل. ذهبت إلى برلين الغربية، لأن مدير الجريدة التي أعمل عندها في ذلك الوقت أعطاني تذكرة، وعرض علي منحة لكتابة نص فيلم كان يخطط له. ولهذا السبب انتقلت إلى ألمانيا. لم أعرف كلمة ألمانية واحدة في ذلك الوقت، والمضحك أنني كنت أدرس الفلسفة، وفي ذلك الوقت كانت لفلسفة مارتن هايدغر شعبيتها، وكنت خبيرًا بها. إذ كنت أعرف بعض الكلمات التقنية الفلسفية بالألمانية بينما لا أستطيع قول “نعم” أو “لا” بها.
– إذًا لم تشعر بالتهديد لو بقيت في تشيلي؟
– على العكس، بل شعرت بالتهديد والرعب؛ والسبب أن بعض أصدقائي ممن بقوا، وكانوا معي في نفس الجامعة ويشاطرونني نفس الأفكار، قد دخلوا السجن وتعرضوا للتعذيب، وقد قتل واحد منهم، ورأيت بعضهم يقفزون أسوار السفارات الأجنبية ليهاجروا من البلاد؛ لذلك أعتقد بأني قد قمت بحركة ذكية حين غادرت.
– هل كانت لديك فكرة، حين قدمت إلى برلين، بأن إقامتك ستطول؟
– لم تكن لدي فكرة بذلك في الأيام الأولى، إذ كنت محطَّم المشاعر، ولم أعتقد بأن عنفًا كهذا سيطول، وأن هناك حلًا قريبًا لتشيلي. لكن مع السنوات، أيقنت بأن الحل سيستغرق سنين عديدة. منذ البداية قررت أن أفتح قلبي وعقلي للثقافة الأجنبية: فتعلمت اللغة الألمانية، وقرأت الروايات الرومانسية الألمانية، وبدأت العمل لمجال صناعة الأفلام الألمانية، وأجريت مقابلات، كما قررت أنه إذا كنت أريد الحرية لبلادي، فعلي أن أخبر العالم بما يحدث هناك، وهذا ما فعلته تحديدًا، فعملت بجد، حيث أخبرت الإعلام بمشاكلنا وخيبتنا، وحاولت أن أثير التعاطف لصالح من يناضل في تشيلي من أجل الحرية، وساعدت في إنشاء بعض المعاهد لنشر الثقافة الديمقراطية.
– ما أصعب شيء مر عليك خلال تلك الفترة؟ ما أكثر شيء افتقدته؟
– كان يمور في داخلي حزن عميق، فتشيلي بلد جميل مليء بالأمل، ولا يستحق كل هذا العذاب، ويثير غثياني مجرد التفكير بالأشخاص المعذبين في تشيلي. كان خليطًا من الحزن والقهر، وفي نفس الوقت، تذكرت بأنه كانت لدي عائلة في تشيلي السابقة، وكانوا راضين بمكانهم وبما يعيشون فيه، وكتبت عن ذلك في “ساعي البريد”، وبعدها ذلك الدمار الممتد. بعدها قررت أن أكتب وأنا أنظر لأولادي، وكان الأمر غريبًا لأن أول رواية كتبتها في برلين كانت بعنوان “لم يحدث شيء”، وهي قصة عن تجربة قهر بعيون فتى له خمسة عشر عامًا فقط. أعتقد بأني كتبت القصة بصوته من زاوية مختلفة.،لأن قصة العائلة بأكملها ومسارها، مكتوبة بشخصية ساذجة، ومن دون ذلك النفَس الكئيب لأدبيات القهر. لذلك استطعت أن أكتب شيئًا غير اعتيادي في ذلك الوقت، حيث هناك قصة حول القهر لكن بطابع أقرب للكوميديا، ونجحت.
– عشت في برلين الغربية مابين 1975 إلى 1989، حينما عادت تشيلي للديمقراطية بعد 14 عامًا من الحكم العسكري. هل رأيت أنه من المناسب أن تعود إلى هناك بمجرد عودة الأمور إلى نصابها؟
– غادرت برلين إلى تشيلي لأن شيئًا مثيرًا قد حدث: استعاد الناس حريتهم من بينوشيه. كان الموقف جنونيًا، لأن بينوشيه اعتقد أنه سيفوز ضد خصمه، بينما اكتفى خصمه بطرح سؤال بسيط: “هل ترضون بأن يحكمكم لثمان سنوات أخرى؟”، أما هو فكان واثقًا لأن الإعلام كان يعمل على صنع بروباغاندا له، والتلفزيون كان يذيع لصالحه، وأمضى في الحكم خمسة عشر سنة دون منافس؛ لذلك اعتقد أن الأمر سهل، وأنه سيفوز لا محالة. قامت الأحزاب السياسية المعارضة، بمساعدة العديد من الطلاب والفنانين والمؤلفين، بحملة رفضٍ بديعة، مليئة بالمرح، وبأمل أن يسقط بينوشيه. كان الأمر مفاجئًا، وسقط بينوشيه، وها نحن ننعم بالديمقراطية إلى اليوم. إذًا، عدت لتشيلي بعد الحملة، لكن الحملة كانت تهمني، لأنها أرتني كيف يمكن لها أن تصنع القوة التي غيرت المجتمع.
– هل استطعت أن تزور عائلتك وأصدقائك في تشيلي خلال مكوثك في برلين؟
– مرة واحدة فقط، وكانت تجربة سيئة سنة 1985، في تلك السنة اختطفت شرطة بينوشيه ابن ممثل كنت أعمل معل، وقتل، إذ نحروه. كنت صديقًا جيدًا لأبيه، وتسبب ذلك الحادث لي بألم فظيع ذلك الوقت، فقد مرت قبل تلك الحادثة اثنا عشرة سنة على الانقلاب. مرت تلك السنوات الثقيلة وما زالوا يقتلون الناس بتلك الطريقة الوحشية. في تلك اللحظة فقدت الأمل باسترجاعنا للديمقراطية. لكن غيرت رأيي بعد سنتين، حينما رأيت الجماهير تتحرك للخلاص.
– روايتك الأخيرة المنشورة بالانجليزية دارت حول فترة الديكتاتورية في سانتياغو، والعنوان الإنجليزي للرواية هو “الراقصة واللص” [عنوانها بالعربية: “رقصة النصر”]، وتحوي مفاهيم عديدة حول الجاسوسية والخيانة والتعقيد في العالم الذي صنعته، وسقوط نظام بينوشيه واسترجاع الديمقراطية، وتغلب الخير على الشر، هل يمكنك أن تحدثنا حول الإلهام لكتابة هذه الرواية؟ وماالذي أردت أن تستعرضه وتريه للقارئ؟
– كانت هناك العديد من المشاكل العالقة حين عادت الديمقراطية. إذ أن هناك ناس عانوا ولا سبيل لاسترجاع مافقدوه. وهذا بالضبط ماحدث في “الراقصة واللص”، فشخصية الرواية الرئيسية طالبة في المرحلة الثانوية تود أن تنهي دراستها وتصبح راقصة محترفة، فتعلمت الرقص في أكاديمية جيدة، ونجحت بالأكاديمية وأدت وصلات رقص على مسارحٍ شهيرة في سانتياغو وبوينس آيرس. كانت هذه الشابة تعاني لأنها لم تجد قوى لمساعدتها على إكمال الطريق، إذ أن فيكتوريا – وهذا اسمها – ابنة رجل قتل في زمان الديكتاتورية، وأكملت حياتها من دونه، وأمها امرأة مكتئبة لم تعرف ما الذي تفعله بعد مقتل زوجها في ظروف قاهرة، ومن المحتمل أن فيكتوريا لن تدرك حلمها في أن تكون راقصة محترفة. فهي – إذًا – شخصية تعاني من ظلال الماضي، بكل ذلك الحمل على كتفيها، وبكل ذلك الاكتئاب. كما وجدت هذا الاكتئاب في عدة أشخاصٍ في تشيلي.
– عندما طُردت من المدرسة، كان أحد المدرسين يذكر البقية بمقتل والدها وكيف تم. ردت المديرة بأن “ذلك الأمر حدث قبل 17 سنة، والآن تشيلي ديمقراطية منذ زمن. متى نتوقف عن لوم بينوشيه بكل شيء؟”، وهنا يبرز سؤال معقد، فما هي رؤيتك؟
– لا يمكن للديمقراطية أن تكون كاملة. لكن، في بلد يعيش ديمقراطيته الأولى بعد حكم مجرم سفاح، يقتل الناس ويفكر بطريقة مختلفة كما يعتقد، ويرسل الناس إلى المعتقلات ويعذبهم، لا يستطيع المرء القول إنه لا يُلام. توجد الآن في تشيلي حكومة اجتماعية ديمقراطية لعشرين عامًا، وعما قريب سيكون هناك تغيير. إذ أن الحكومة الجديدة ستنصب خلال الأيام القادمة وهي ممثلة للجبهة اليمينية، ويديرها أشخاص عملوا مع بينوشيه. لا بأس، لا يهمني الأمر، ولا أمانع، ويمكنني أن أسامح وأنسى، لكن سيكون الأمر مختلفًا، لأن الديمقراطية التي فرضت نفسها بالقوة سيستخدمها أناس دعموا بينوشيه. لا بأس، يجب أن أتعايش مع هذا الأمر لأنهم تغيروا، ويجب أن نثق فيهم. لكن، هناك فرق حينما نختلف في آرائنا بمناخ ديمقراطي، وبين اختلافنا أيام بينوشيه. إذ قتل بينوشيه مع رفاقه كل من يعارضونه محاربًا للديمقراطية. الديمقراطية أمر جيد حتى مع رفاق بينوشيه.
– عندما أعود وأقرأ تاريخ تشيلي أيام الانقلاب، أجد أن هناك بلدًا مقسمًا، وتفاوتًا مهولًا في الطبقات. إلى أي مدى ترى البلد حاليًا في انقساماتها؟ هل ما زالت تعيش الماضي؟
– لا، لم تعد كذلك. أعتقد بأن الأشخاص التي قسوا على المجتمع قد تغيروا، وتضرروا بما يكفي من نظام بينوشيه. هم الآن مقتنعون بأن الديمقراطية هي النظام الأمثل لحكم البلاد، وقد طوروا الآن اقتصادًا مذهلًا على النقيض من الموجود أيام الديكتاتورية، ويحظون بالقبول الآن أمام العالم. أؤمن بأن هناك مستقبلًا أفضل لتشيلي، إذ بات الناس على تواصل في ما بينهم بسبب الديمقراطية منذ عشرين عامًا ويجنون الآن ثمار ما فعلوا.
– سعدت بمقابلتك اليوم، شكرًا جزيلًا.
– شكرًا لكِ، وأرجوك أن تعذري إنجليزيتي.. لقد عدت للتو من زلزال.
– (تضحك).
“في صحبة الكتاب” منذ انطلاقه سنة 1990. حاز برنامجها على عدة جوائز، وحازت شخصيًا على ثمان شهادات فخرية جامعية.
الحوار
– حدث للتو زلزال في تشيلي بقوة 8.8 على مقياس ريختر، حدثني عما واجهته وقتها؟
– كان أمرًا سيئًا للغاية. حدث الزلزال فجر الجمعة في الساعة الرابعة، وكنا نائمين تمامًا. كان من السيء أننا لم نستطع المكوث في أسرتنا، وأدركنا وقتها أن الهزة كانت قوية وطويلة مما اضطررنا للخروج إلى الحديقة. ابني الذي يبلغ من العمر عشرين عامًا كان يحتفل مع أصدقائه، وقد نهض مرتاعًا بفعل قوة الزلزال. دام الزلزال لمدة دقيقتين، وبعد ذلك التقطنا أنفاسنا وحاولنا معرفة الأخبار، إلا أننا لم نستطع لأن الكهرباء كانت تتقطع باستمرار. تطلب من شركة الكهرباء طوال اليوم التالي لإصلاح الشبكة. وقتها كنا نحاول البحث عن مذياع لمعرفة ماذا كان يحدث، لكن المذياع والجرائد لم تعطنا معلومات كافية بسبب الرعب. أنا من مواليد تشيلي، وهذا البلد اعتاد كثيرًا على الزلازل، لكن هذا الزلزال كان مختلفًا، كان عنيفًا للغاية، وقد عرفت من اللحظة الأولى أنه سيخلف مأساة لن تمحى.
– هل تتذكر الزلزال الذي حدث سنة 1960؟
– نعم، أتذكره، وكان قويًا أيضًا. لكن هذا الزلزال كان أطول وأفظع. كنا نهتز طوال الوقت والأشياء تتداعى من حولنا. أتذكر أنا أحسسنا بالزلزال القديم وارتعبنا منه، لكنه يبدو لاشيء مقارنةً بالذي حدث توًا.
– صحيح، صحيح. وُلدتَ في أنتوفوجاستو، شمال تشيلي. هل يمكنك أن تحدثني حول تلك المدينة والمنطقة؟ ماالذي كانت عليه حينما نشأت؟
– حين وُلدت في أنتوفوجاستو كانت تصنف كقرية، أشبه بمدن أخرى ككلاما وكتشوكيكماتا، والتي كانت تحتوي المعادن. والمعادن، خصوصًا النحاس، هو صادرنا الأساسي للعالم. ثروة تلك المنطقة، بل ثروة تشيلي بأكملها، تكمن في تصدير النحاس. حينما كنت صغيرًا، لم تكن المدينة حديثة ومتحضرة كما هي اليوم. كنت طفلًا من عائلة مهاجرة، أتت من جنوب كرواتيا. قدم أجدادي في بداية القرن الماضي، ولم يستطيعوا التحدث بالإسبانية. تعلموها بكثيرٍ من المشقة. و…
– (مقاطعة) ماالذي أتى بهم إلى تشيلي؟
– كانت في كرواتيا خلال ذلك الوقت مشكلتان: كانوا يملكون في تلك الأيام كروم عنب، وكانت تعاني بسبب أمراض تسببها حشرة الفيلوكسرا، وتلك الحشرة تتسبب بضرر مهول لكروم العنب، والتي تنتج النبيذ والزيت. لذلك كان هناك فقر مدقع، مما جعلهم يقررون الهجرة إلى أمريكا. المضحك في الموضوع أن وجهتهم لم تكن تشيلي في بادئ الأمر، بل الولايات المتحدة، التي كانت تمثل أرض الوعود، لكن لظرف ما توجهوا إلى تشيلي. قدموا في البداية إلى قريتين هما أنتوفوجاستو في الشمال، وبونتانيراس في أقصى الجنوب.
– أوه، هذه بالفعل في آخر نقطة من تشيلي.
– صحيح، كان يمتلك جدي مخزنًا في ناصية الشارع. وكان يبيع فيه البقالة. وجدتي كانت إنسانة فريدة من نوعها لأنها كانت تحب الأدب كثيرًا، وبما أنها لاتستطيع قراءة الأدب بالإسبانية “لكونها كرواتية” كانت تستعيض عن ذلك بسماع التمثيليات (الميلودراما) على المذياع، وتلك كانت تسليتها. بدأت علاقتي بالأدب من خلال الاستماع لهذه الدراما الإذاعية، والتي كانت مثيرة للشفقة ومليئة بالرومانسية والمؤثرات الصوتية – مذياع، بطبيعة الحال -. وبالحديث عن القصّ، كانت جدتي تهتم بشكل خاص بتدوين تلك المسلسلات عندما كنت في الثامنة من عمري. وذلك الاهتمام بدأ يكبر فيّ عندما كبرت.
– هل شكل الانتماء إلى مجتمع المهاجرين عائقًا لدى أجدادك؟
– كلا، فتشيلي كانت مضيافة للجميع. في تلك المرحلة كانت البلاد تتطلع للنمو، فبالتالي كل المهاجرين من أوروبا كان مرحبًا بهم، وشكلوا في الوقت ذاته قوة حماية لذلك البلد.
– هل يتشارك معك أبواك نفس الثقافة؟ هل ولد أبواك في تشيلي أيضًا؟
– نعم، في نفس المدينة التي ولدت فيها. أبي توفي قبل خمس سنوات، وأمي لاتزال حية.
– وكيف كانت حياة العائلة وقتها؟
– كان أبي شخصية مغامرة بطبعها، جرب العديد من الأعمال دون أن يحالفه النجاح في أيٍ منها. كان ذلك سيئًا للعائلة، لكنه كان جيدًا بالنسبة لي ككاتب، لأني واجهت الواقع بأشكال مختلفة. كنا نبحث عن مستقبلٍ أفضل لذا هاجرنا إلى بوينس آيرس في الأرجنتين. الثلاث سنوات التي عشتها هناك والتي بدأت عندما كنت في العاشرة، كانت أسعد أيام حياتي. وقتها تعرفت على لكنات جديدة، أصدقاء جدد، وإلى أدب رائع أيضًا. لأن المكتبات وقتها في بوينس آيرس كانت ممتعة وجذابة، وكانت الآداب كلها حولك منتشرة. ولاننسى كذلك المسرحيات، والأفلام. دور العرض كانت ممتلئة وبكثرة، وكذلك دُور الأوبرا.
– خلال الخمسينات؟
– نعم. أحببت أيضًا كرة القدم، وبدأت أتعلم الشعر بالسليقة. كنت سعيدًا بالفعل، وأود أن أشكر أبي لأنه أخذنا إلى هناك. بدأت العمل لدى محل خضار وفاكهة منذ وصولنا لأنه لم يكن معنا مال، عملت على توصيلها لمنازل مختلفة، وكنت أتقاضى بعض البخشيش، وأستلم مرتبي كل أسبوع. كنت أستطيع بهذا المال أن أشتري مجلات، وأن أذهب للسينما، في ذلك الوقت كنت أحب الآيسكريم، وتستطيعين أن تلاحظي مافعل بجسمي لأنه كان مليئًا بالدهون (يضحك) . كنت مستقلًا، في عمر العاشرة شعرت بالحرية، والاستقلالية، وكان لذلك تأثيره على حياة أبي.
– وعندما عادت عائلتكم إلى تشيلي، هل توجهتم إلى أنتوفوجاستو؟
– لا، فقد ذهبنا إلى سانتياجو (العاصمة). توجهت إلى المدرسة الثانوية هناك، وبعدها إلى كلية كانت تسمى “المعهد الوطني”، كانت كلية راقية، ودرست بها لمدة ست سنوات.
– كيف ذهبت إلى هناك؟ أقصد، بما أن العائلة لم تملك مالًا لذلك، هل ذهبت إلى هناك بمنحة؟
– كلا، من الأشياء الرائعة التي كانت موجودة في تشيلي قبل حكم بينوشيه والإنقلاب العسكري، أن التعليم بالكامل كان مجانيًا، حتى التعليم الجامعي. كان من الكافي أن تتقدم لمقابلة الجامعة كطالب جيد وتُظهِر اهتمامك بالمعرفة والحياة لتدخل.
– في ذلك الوقت، ماالذي أردت أن تكون؟
– في ذلك الوقت؟ عزيزتي إليانور، منذ اللحظات الأولى في حياتي عندما سألت هذا السؤال لنفسي أجبت بأني أريد أن أكون كاتبًا، ولاشيء آخر. منذ كنت في الثامنة، حكمت علي جدتي بأن أكون كاتبًا خلال حديثٍ معها، وقد تقبلت ذلك الحُكم. دعيني أخبركِ أمرًا آخر. حينما كنت في السادسة عشر من عمري، وكنت أنهي دراستي الثانوية، سألني أبي: “ماالذي تريد أن تفعله في حياتك يابني؟”، وأخبرته بلا تردد: ” أريد أن أصبح كاتبًا ياأبي.”، وعلى الفور، لم يقم أبي بما سيقوم بفعله أي أبٍ تشيلي في ذلك الوقت حينما سمع الجواب، وهو إرسال الابن إلى مصحة عقلية (يضحك)، بل قال: “رائع، عظيم، يالها من فكرة جيدة. اسمع، قم بكتابة قصص واقعية أو أشعار، هاك العديد من الدفاتر، اكتب بقلم الرصاص، وأنا سأطبع ماتكتبه يوميًا على الآلة. وستجده مطبوعًا بشكل ممتاز صباح الغد.”، وقد حدث ذلك بالفعل. أخذت تلك الدفاتر، وظللت أستمر بالكتابة كل يوم. وفي يوم ما، قال أبي: “اسمع يابني، هل كتبت مايكفي من القصص لتنشر كتابًا؟”. لم ألاحظ ذلك في بادئ الأمر، لأن الكتابة كانت محض متعة. لم أفكر في ذلك الوقت بنشر كتاب. رددت بأني لا أعرف، لكن ماذا فعل أبي؟ ذهب بكل قصصي وأرسلها لمسابقة وطنية للقصص القصيرة دون أن يخبرني، وتحت اسم مستعار. بعد ذلك بشهرين، كل ناشر في تشيلي كان يبحث عني لينشر لي كتابًا لأني تلقيت الكثير من المديح بخصوص قصصي. هل يمكنكِ أن تتخيلي كم أحببت أبي بسبب ذلك؟
– نعم، ياله من أمر استثنائي. هل كان والدك قارئًا جيدًا؟
– كان قارئًا. عندما مات أبي، كنت أحاول البحث عن معلومات بخصوص حياته عندما لم أولد. في أحد المرات، وجدت في جريدة تتبع أنتوفوجاستو بعض القصائد المنشورة باسمه. قرأتها، وكانت ناعمة وحساسة بشكل عجيب. أظن أن له اهتمامًا بالأدب الجميل، وقد فكر: “أنا لن أصبح كاتبًا، ولكن إن كان يريد ابني الكتابةَ، فلم لا؟”
– ماذا عن أمك؟ هل كان لديها اهتمام بهذا الموضوع؟
– لاأظن ذلك. أمي امرأة جميلة ومحافظة، وليس لها ذلك الاهتمام الفكري. كانت تحب الاستماع إلى الموسيقى، وخصوصًا موسيقى البوب الرومانسية التي ندعوها “بوليروس”. كانت لديها أغنية محببة اعتدنا أن نرددها دائمًا وهي “نوسوتروس”، وهي أغنية حزينة عن ثنائي لايستطيعان العيش سويًا لسبب مجهول لم توضحه الكلمات. الرجل يقول لفتاته: يجب أن نفترق، أعتذر، ليس هناك مايمكننا فعله.. (يغني مقطعًا من الأغنية).
– وهل لاتزال تغنيها مع أمك؟
– حتى الآن. لقد كبرَت بالسن، وفقدت جزءًا من ذاكرتها. لكن في أي وقت أود إسعادها، أبدأ بغنائها وتعود على الفور مبتهجة للحياة.
– سيد سكارميتا، قلت أنه لوقت طويل كانت تراودك أحلام الهجرة من تشيلي إلى الولايات المتحدة، وتحديدًا نيويورك. لماذا؟
– لأني لم أعرف كندا وقتها (يضحك). اسمعي، كنت دبلوماسيًا في فترة ما، فمتى ماسنحت لي فرصة أن أسدد هدفًا فعلت.
كأشخاص في ذلك الحين، كنا مبهورين بالثقافة الأمريكية. كان الأمر برمته معقدًا، فمن جهة سياسية، كنا يساريين.. ولم تعجبنا سياسات أمريكا. لكن على الجهة الأخرى، كنا مبهورين بثقافة الأمريكان السريعة: موسيقى الروك آند رول، أفلام هوليوود، صنَّاع أفلام مستقلين، والشعر والنثر. لذلك كنا في ذلك الوقت معجبين بشعراء أمثال والت ويتمان، وقاصين أمثال جاك كيرواك، وروائيين مثل سكوت فيتزجيرالد هم كانوا من نقرأ لهم ذلك الوقت. كنا مغامرين بطبعنا، ونرى أن الحياة في مكان آخر وليس تشيلي. صحيح أنها تحمل مناظر ساحرة، وتحوي الزلازل المثيرة، لكن الفن، والثقافة، الحياة، الشاشة الكبيرة.. كانت خارج البلاد في الولايات المتحدة؛ وهذا كان السبب. عندما لاحت أول فرصة للذهاب، أخذت الباخرة، وذهبت مع أصدقائي هناك للتجوال.
– هل كان ذلك قبل حصولك على المنحة لدراسة ماجستير الآداب في جامعة كولومبيا؟
– نعم. لأني كنت أكرر الذهاب إلى هناك بحثًا عن المغامرة. ذهبت أيضًا مع أصدقائي إلى بلدان أمريكا الجنوبية كالبرازيل، البيرو، وبوليفيا، وكنا نعود من هناك لتشيلي. وبقدر مااكتنفت تلك الرحلات من متعة فقد تطلبت أيضًا تضحيات، لأنها كانت محفوفة بالمخاطر. كنا ننام بعض الأحيان في الشارع، كنا لانجد مانأكله، ومرةً جربنا أن نخبز لنأكل. لكني عدت بعد كل ذلك للجامعة، وبدأت دراسة الفلسفة في ذلك الوقت، ومن ثم أتتني المنحة للذهاب إلى جامعة كولومبيا في نيويورك.
– كيف تغيرت نظرتك إلى تشيلي أثناء عيشك في الولايات المتحدة؟
– حسنًا، تغيرت كثيرًا. في ذلك الوقت، لم يكن للثقافة اللاتينية ذلك التأثير في أمريكا. في الواقع، كان نشاطهم خاملًا في المحافل الثقافية، وكانوا لايمثلون سوى قوى عاملة في وظائف قاسية وتدفع أجرًا سيئًا. كان لدى تشيلي في ذلك الوقت مسرحيات لاتجلب الانتباه، وكنت – عمومًا – مستمتعًا بحياتي؛ لكن في لحظةٍ ما، أدركت بأنه يجب علي أن أبحث عن جذوري. عدت إلى تشيلي، وبدأت الاستمتاع بالحياة اليومية. بدأت بمعرفة جوانب من تاريخنا، وبدأت بالنظر إلى الناس بعين أخرى: عين التعاطف والاهتمام. وبهذا السلوك، تغيرت اهتماماتي السياسية. بدأت أيضًا بكتابة قصصٍ تقع أحداثها في تشيلي، وبشخصياتٍ شابة.
– كنت تريد أن تكتبها كذلك كي تصبح كاتبًا أمريكيًا، كجاك كيرواك؟
– نعم، بالطبع. كانت شخصياته تستمتع بحياتها طول الوقت. على ذكر المتعة، أذكر أني كنت في رحلة إلى بوليفيا، وكنت متوجهًا بقطارٍ إلى لاباز (العاصمة)، وكان هناك العديد من الأشخاص يرقصون في المحطة. قابلت فتاة بتلك الملابس البوليفية…
– (مقاطعة) المتعددة الطبقات؟
– نعم. كانوا يرقصون بنشوة. واحدة من الفتيات كانت تخاطبني وتقول: “هي أنت، انزل من القطار.”، ورددت بأني لاأستطيع لأني ذاهب إلى لاباز. كنت في أورورو، وهي مدينة في جنوب بوليفيا. ردت علي بقولها: “لاتذهب، لاحقًا ستموت ويفوتك كل هذا.”، على الفور قفزت من القطار. استقبلتني الفتاة وعلمتني كيف أرقص في هذا المهرجان، أتذكر أنني شربت كثيرًا، وأنني كنت أستمع إلى موسيقى لغتهم، وإلى شعرهم، وكنت مذهولًا للغاية. مثلَت بوليفيا بالنسبة لي ذلك البلد المبشر بالثقافة اللاتينية، ومرجع تلك القارة في الفن والأدب. قلت لنفسي:”يالي من أعمى. كم أحب هذه القارة، وكم أحب هؤلاء الأشخاص.”. وهذا السبب الذي دفعني للعودة إلى تشيلي.
– بدأت بنشر كتبك بنفسك في أواخر الستينات حينما كنت صحفيًا في سانتياجو، وكناقد أدبي، وكمخرج فني، وكأستاذ للأدب في الجامعة. هل كانت تلك الفترة جيدة للفن والثقافة في تشيلي؟
– كانت تلك الفترة هي الأفضل على مدى العصور. لأن في ذلك الوقت، كانت الحياة على أقصى تسارعها هناك، وكانت تسير بالحد الأقصى من المتعة. كان هنالك العديد من الحركات السياسية التي تهدف لتحسين معيشة الفقراء، والعديد من الحركات السياسية الجديدة التي لم تتبع الأطر القديمة للشيوعية أو الخطب الإشتراكية الشعبية. كان لديها الكثير من الطاقة الثقافية. صحيح أنها حركات سياسية كما تظهر، لكنها كانت ثقافية أساسًا. أردنا التقدم والحرية، لكننا أردنا فعل ذلك بطريقتنا. كان الأمر برمته يبعث على الحماس. كانت تلك الأيام ممتعة، ومليئة بالاستقلالية.
– كانت ممتعة إلى أنها لم تعد كذلك (تضحك). كيف كانت الأجواء في السبعينات، حينما كان سلفادور الليندي وحزبه اليساري أول حزب منتخب ديمقراطيًا في تشيلي؟ هل كان هناك دعم للمجتمعات الثقافية والفكرية؟
– بشكل كامل تقريبًا. الفنانون والأدباء كانوا مستمتعين بالمحافل والأجندة التي كانت تقام لهم، الرجل نفسه كان ملهمًا بحق، وحساسًا، كأنما خلق من أجل الثقافة. كان كل فنان وكاتب يعمل بالاتجاه نفسه، وكذلك سلفادور الليندي وأحزابه السياسية. عندما انتهت تلك الفترة بقتل الكثير من قِبل الجيش واعلان الانقلاب، كان من ضمن القتلى العديد من الفنانين والأدباء. تعلمون جميعًا كيف قتل فيكتور خارا، وهذا لوحده مثال مأساوي لما جرى. قبل شهرين، ظهر تقرير حول كيفية إعدامه، وعن الطلقات التي اخترقت جسده. كان معتقلًا في سجون الجيش، وتم إعدامه بأكثر من ثمانين طلقة، مما قطعت جسده إربًا.
– (مقاطعة) تم الاحتفاظ بما تبقى من جثمانه..
– قاموا بتحليل المتبقي من خلال تقرير علمي عالي الدقة، لدرجة أنهم عرفوا توقيت كل طلقة وماهي الطلقة الأخيرة. كان أمرًا مهولًا. الآن ماأود قوله هو، ومن خلال هذا المثال، أن حماس المثقفين والشباب كان مليئًا بالحركة والحرية، لدرجة أنهم دفعوا حياتهم ثمنًا لذلك في مناسبات عديدة.
– أنطونيو سكارميتا، الفترة التي قادت إلى انتخاب سلفادور الليندي كانت الفترة التي جرت فيها أحداث روايتك الأشهر “ساعي بريد نيرودا: صبر متأجج”. ولعل العنوان الأكثر شهرة عند القراء هو “ساعي البريد”، وذلك بسبب الفيلم الجميل الصادر سنة 1994 “Il postino”. القصة تستعرض أحد أيقونات تشيلي الثقافية، وهو الشاعر بابلو نيرودا. هل كنت تكن قدرًا كبيرًا لنيرودا، كشخص وكشاعر؟
– نعم، ولازلت. من بين العديد من الشعراء في كلا الأمريكتين، يبقى نيرودا شاعري المفضل بفارق بعيد عن غيره. وكان أيضًا من تشيلي، وهذا سبب آخر لكي أحبه. لذلك كتبته، وأحببته ككاتب وقارئ، بدأت بدراسته بشكل عميق، ودرَّست شعره لطلابي حينما كنت أستاذًا مساعدًا بالجامعة. عندما نشرت كتابي الأول، قررت الذهاب إلى إيسلانيدا، وهي قرية صغيرة ساحلية تبعد 200 كيلو متر عن سانتياجو، وأخذت معي كتابي الأول. كان عبارة عن مجموعةٍ قصص قصيرة بعنوان: “الحماس”، كان ذلك العنوان مقصودًا. لاحظت في ذلك الوقت أن كل النثر في تشيلي هو نثر محافظ، كئيب، مليء بالشخصيات المسنة والتي تحتضر. وأردت أن أظهر للناس أن الحياة رائعة، وتبعث على الحيوية والمرح والأمل والمغامرة، أردت أن أظهر ذلك منذ بداية الكتاب، أي الغلاف. أخذت الكتاب إلى نيرودا، وطلبت منه أن يقرأه. قال لي:”حسنًا أيها الشاب، أود أن أقرأه، ولكن ليس الآن. سأقرأه خلال شهرين، عد بعد شهرين وسأخبرك حول رأيي في الكتاب.”، لكني عدت بعد أسبوعين. طرقت الباب، وعندما أتى نيرودا إلى الباب قلت له:”مرحبًا، هذا أنا. هل قرأت كتابي الأول، الذي أهديته لك؟”، رد علي بـ:”نعم، قرأته.”، لم أستطع الانتظار فقلت:”ومارأيك به؟”، نظر إلي وقال: “جيد.”، من دون أي حماس. لكن، مجرد سماعي كلمة “جيد” من شفتيه كان كافيًا ليجعلني سعيدًا. كدت أن أقفز من الفرحة، ولكن نيرودا – وأتذكر ذلك جيدًا – أتبع قائلًا: “ولكن، ماقلته لايعني شيئًا. لأن كل كتابٍ أول لمؤلفٍ تشيلي هو كتاب جيد.”
– (تضحك) .. هل استمررت بالتعرف عليه شخصيًا؟ أو أمضيت وقتًا معه؟
– يظن بعض الناس من خلال روايتي والفيلم المقتبس عنها أنني صديق حميم لنيرودا، بينما في الحقيقة لم أكن كذلك. طوال حياتي لم أرَ نيرودا سوى اثنتي عشرة مرة تقريبًا، فيما عدا ذلك لم أره على الإطلاق، ولم أزره بشكل منتظم. في نهاية حياته، عندما كانت الحكومة برئاسة حزب “وحدة الشعب”، خضنا عددًا من الاجتماعات المتكررة لنرى كيف يمكن للمؤلفين المبدعين والفنانين انقاذ حكومة سلفادور الليندي من كارثة محققة. لذلك كتبنا منشورًا مشتركًا إلى المجتمع الدولي نطلب فيه المساعدة لتجنب الانقلاب، ووقتها قابلت نيرودا مرات أخرى. في مرات عديدة، حينما كنا نجتمع مع نيرودا، تكلمنا عن أشياء لايتكلم عنها المثقفون عادةً. تكلمنا عن علاقات حبنا في الماضي والحاضر، عن شعراء آخرين يعيشون في سانتياجو وعلاقات الحب التي لديهم، عن الرحلات، عن أعداء نيرودا، وعن شعراءٍ يكرههم نيرودا. اعتدت أن أمازحه بأن أحور بعض الكلمات في شِعره لتظهر قصائده بشكل مضحك. كانت علاقة جميلة في ذلك الوقت لأني كنت صغيرًا في ذلك الزمان ومستقلًا. لم أنتمي لأي حزب سياسي، وهو كان شيوعيًا حادًا. كانت العديد من مقابلاته مع رؤساء حزبه والعديد من الشخصيات الدولية تتسم بالجدية، لذلك حينما كنت أقابله كان يعلم بأننا سنحظى بالكثير من المتعة والضحك. وربما لهذا السبب كتبته في “ساعي بريد نيرودا” بتلك الشخصية الظريفة، وأعتقد بأنها أتت من تجربتي وأحاديثي معه. لايشك أحد في أن نيرودا الحقيقي كان رجلًا كبيرًا بشخصية مؤثرة، بينما نيرودا الذي في الرواية كان يُرى بعيني ساعي بريد حالم في قرية تشيلية.
– من ضمن الرسائل التي أتى بها ماريو إلى بابلو نيرودا، كانت هناك برقية من الحزب المركزي الشيوعي تفيد بترشيحهم له للرئاسة، وهذا ماحدث بالفعل سنة 1970 إلى أن تنازل عن ترشيحه وقام بدعم سلفادور الليندي. وهناك العديد من الأحداث الحقيقية الأخرى، كرسائله الدبلوماسية إلى أصدقائه، وحيازته لجائزة نوبل عام 1971. ماالذي دفعك إلى طرح هذه المعالم بأعين سكان شبه أميين من تشيلي ..
– (مقاطعًا) لأن تلك الأحداث كان لها تأثير في حياتي، حياة نيرودا، والحياة في بلادي عمومًا. الرواية نفسها تُعد استعارة أيضًا، تلك الاستعارة تعبر عن الحياة الغنية بالأحداث في تشيلي خلال فترة قصيرة جدًا من الزمن. وبما أن الرواية بأكملها مبنية على علاقة بين شخصين غير متكافئين، قررت أن أستخدم هذه الأحداث المتصلة: انتخاب سلفادور الليندي، ذهاب نيرودا إلى باريس، ومن ثَمَّ الإنقلاب؛ في النهاية تلك النهاية المأساوية لماريو خيمينيث ساعي البريد. وكل تلك الأحداث كان لها تأثيرها في بلادي.
– لأننا نرى في غلاف الرواية الخلفي تلك الأزمات والمعارك الوحشية التي جرت سنة 1973، والتي دمرت أحلام نيرودا والكثيرين غيره بتشيلي ماركسية واجتماعية، كيف كان تفاعلكم تجاه الأحداث التي مرت على نيرودا خلال تلك الفترة، من مرضه وحتى العناية به في المستشفى والهجمات على منزله، وغيرها؟
– في أيام الإنقلاب، ومنذ أيامه الأولى، كنا نأمل بغد أفضل. في تلك الأيام المأساوية كان الكل يريد أن ينجو بحياته، كانوا يركضون ويختبئون ولم يعيروا اهتمامًا كبيرًا بمن لم يقطن سانتياجو. كان نيرودا يعيش وقتها في إيسلانيدا. بالمناسبة دعيني أخبركِ أمرًا، تُوفي نيرودا بعد عشرة أيام فقط من الإنقلاب، عشرة أيام من موت سلفادور الليندي. وحين مات، أحضر جثمانه إلى سانتياجو في سيارة إسعاف. وصلت جثته في المستشفى، وفي اليوم التالي حضرت جنازته. في ذلك الوقت، كان كل من يرتبط به في خطر، لأنه كان من المحتمل أن يقتل. هكذا بكل بساطة. في يوم الجنازة، قدم العديد من الأشخاص لمرافقة جثمان الشاعر إلى المقبرة. أعتقد بأن كل من مشى مع الجثمان إلى المقبرة هو بطل وعلى قدر كبير من الشجاعة، لأنه يخاطر بحياته وأكثر من ذلك. عندما وصلت الحشود إلى المقبرة، بدأت بغناء “النشيد الشامل”.
– هل كنت هناك؟
– لا، لم أكن هناك، كنت مختبئًا. أعتذر، لست من هذا النوع من الأبطال أبدًا، وأقر بذلك. أحترم كل من ذهب إلى هناك في ذلك الوقت. كنت أفعل شيئًا آخر، ليس بذلك الشيء الاستفزازي كمرافقة الجثمان، كنت مشتركًا بنوع آخر من المقاومة، وليس بذلك البطولي. كنت بالاشتراك مع عدة رفاق نخبئ بعض الأشياء المهمة.
– أنطونيو سكارميتا، تغيرت حياتك بشكل متسارع بعد الانقلاب على سلفادور الليندي في سبتمبر سنة 1973، أرغموك على مغادرة تشيلي، ماالذي حدث لك بالضبط؟
– ليس من الدقيق أن نقول بأني أرغمت على مغادرة تشيلي. في ذلك الوقت، اعتقدت بأنه من الأفضل أن أغادر البلاد، لأنه لم تكن هناك إمكانية للكتابة بحُرية. لم تكن هناك صحافة مستقلة، الكتب كانت ممنوعة، طرد الأساتذة من جامعاتهم، كنا بلا وظائف. سألت نفسي:”ماالذي أستطيع فعله هنا؟” ولم أعرف الإجابة، لذلك قررت الرحيل. ذهبت إلى برلين الغربية، لأن مدير الجريدة التي أعمل عندها في ذلك الوقت أعطاني تذكرة، وعرض علي منحة لكتابة نص فيلم كان يخطط له. ولهذا السبب انتقلت إلى ألمانيا. في ذلك الوقت، لم أعرف كلمة ألمانية واحدة، والمضحك أنني كنت أدرس الفلسفة، وفي ذلك الوقت كانت لفلسفة مارتن هايدغر شعبيتها، وكنت خبيرًا بها. كنت أعرف بعض الكلمات التقنية الفلسفية بالألمانية بينما لاأستطيع قول نعم أو لا بالألمانية.
– إذًا لم تشعر بالتهديد لو بقيت في تشيلي؟
– لا، شعرت بالتهديد والرعب. والسبب أن بعض أصدقائي ممن بقوا، وكانوا معي في نفس الجامعة ويشاطرونني نفس الأفكار، قد أحضروا إلى السجن، وتعرضوا للتعذيب. واحد منهم قد قتل، رأيت بعضهم وهم يقفزون أسوار السفارات الأجنبية ليهاجروا من البلاد. لذلك أعتقد بأني قد قمت بحركة ذكية حين غادرت.
– هل كانت لديك فكرة حينما قدمت إلى برلين، بأن إقامتك ستطول؟
– في أول الأيام، لا. كنت محطَّم المشاعر، ولم أعتقد بأن عنفًا كهذا سيطول. وأن هناك حلًا قريبًا لتشيلي. لكن مع السنوات، أيقنت بأن الحل سيستغرق سنين عديدة. منذ البداية قررت أن أفتح قلبي وعقلي للثقافة الأجنبية: تعلمت اللغة الألمانية، قرأت الرومانسيات الألمانية، بدأت العمل لصناعة الأفلام الألمانية، قمت بمقابلات، قررت أنه إذا كنت أريد الحرية لبلادي، فعلي أن أخبر العالم بما يحدث هناك، وهذا بالضبط مافعلته، فعملت بجد. أخبرت الإعلام بمشاكلنا وخيبتنا، وحاولت أن أثير التعاطف لمن يناضل في تشيلي من أجل الحرية، وساعدت في إنشاء بعض المعاهد لنشر الثقافة الديمقراطية.
– ماأصعب شيء مر عليك خلال تلك الفترة؟ ماهو أكثر شيء افتقدته؟
– كان يمور في داخلي حزن عميق، فتشيلي بلد جميل مليء بالأمل، ولايستحق كل هذا العذاب. مجرد التفكير بالأشخاص المعذبين في تشيلي يجعلني أمرض. كان خليطًا من الحزن والقهر، وفي نفس الوقت، تذكرت بأنه كانت لدي عائلة في تشيلي السابقة، كانوا راضين بمكانهم وبماهم يعيشون فيه، وكتبت عن ذلك في ساعي البريد، وبعدها ذلك الدمار التي امتد. بعدها قررت أن أكتب وأنا أنظر لأولادي، الأمر غريب لأن أول قصة كتبتها في برلين كانت بعنوان “لم يحدث شيء”، وهي قصة عن تجربة قهر بعيون فتى له خمسة عشر عامًا فقط. بصوته، أعتقد بأني كتبت القصة من زاوية مختلفة. لأن قصة العائلة بأكملها ومسارها، مكتوبة بشخصية ساذجة، ومن دون ذلك النفَس الكئيب لأدبيات القهر. لذلك استطعت أن أكتب شيئًا غير اعتيادي في ذلك الوقت. قصة حول القهر لكن بطابع أقرب للكوميديا، ونجحت.
– أنطونيو سكارميتا، عشت في برلين الغربية مابين 1975 إلى 1989، حينما عادت تشيلي للديمقراطية بعد 14 عامًا من الحكم العسكري. هل رأيت أنه من المناسب أن تعود إلى هناك بمجرد عودة الأمور إلى نصابها؟
– غادرت برلين إلى تشيلي لأن شيئًا مثيرًا قد حدث: الناس قد استعادت حريتها من بينوشيه. كان الموقف جنونيًا، لأن بينوشيه اعتقد أنه سيفوز ضد خصمه، بينما اكتفى خصمه بطرح سؤال بسيط: “هل ترضون بأن يحكمكم لثمان سنوات أخرى؟”، كان واثقًا لأن الإعلام كان يعمل على صنع بروباجاندا له، والتلفزيون كان يذيع لصالحه، أمضى في الحكم خمسة عشر سنة دون منافس، لذلك اعتقد أن الأمر سهل، وأنه سيفوز لا محالة. قامت الأحزاب السياسية المعارضة، بمساعدة العديد من الطلاب والفنانين والمؤلفين ، بحملة رفضٍ بديعة، مليئة بالمرح، وبأمل أن يسقط بينوشيه. كان الأمر مفاجئًا، وسقط بينوشيه، وها نحن ننعم بالديمقراطية إلى اليوم. إذًا، عدت لتشيلي بعد الحملة، لكن الحملة كانت تهمني، لأنها أرتني كيف يمكن لها أن تصنع القوة التي غيرت المجتمع.
– خلال مكوثك في برلين، هل استطعت أن تزور عائلتك وأصدقائك في تشيلي؟
– مرة واحدة فقط، وكانت تجربة سيئة سنة 1985، في تلك السنة اختُطف ابن ممثل كنت أعمل معه من قِبل شرطة بينوشيه، وقتل. قاموا بنحره. كنت صديقًا جيدًا لأبيه، وتسبب ذلك الحادث لي بألم فظيع ذلك الوقت، مرت قبل تلك الحادثة اثنا عشرة سنة على الانقلاب. مرت تلك السنوات الثقيلة ومازالوا يقتلون الناس بتلك الطريقة الوحشية. في تلك اللحظة فقدت الأمل باسترجاعنا للديمقراطية. لكن غيرت رأيي بعد سنتين، حينما رأيت الجماهير تتحرك للخلاص.
– روايتك الأخيرة المنشورة بالانجليزية دارت حول فترة الديكتاتورية في سانتياجو، والعنوان الإنجليزي للرواية هو “الراقصة واللص”، تحوي مفاهيم عديدة حول الجاسوسية والخيانة والتعقيد في العالم الذي صنعته، سقوط نظام بينوشيه واسترجاع الديمقراطية، وتغلب الخير على الشر، هل يمكنك أن تحدثنا حول الإلهام لكتابة هذه الرواية؟ وماالذي أردت أن تستعرضه وتريه للقارئ؟
– عندما عادت الديمقراطية، كانت هناك العديد من المشاكل التي لم تحل. هناك ناس عانوا ولاسبيل لاسترجاع مافقدوه. وهذا بالضبط ماحدث في “الراقصة واللص”. شخصية الرواية الرئيسية هي طالبة في المرحلة الثانوية، تود أن تنهي دراستها وتصبح راقصة محترفة. تعلمت الرقص في أكاديمية جيدة، ونجحت بالأكاديمية وقامت بالرقص على مسارحٍ شهيرة في سانتياجو وبوينس آيرس. كانت هذه الشابة تعاني لأنها لم تجد قوى لمساعدتها على إكمال الطريق، فيكتوريا – وهذا هو اسمها – هي ابنة رجل قتل في زمان الديكتاتورية، وأكملت حياتها من دونه، وأمها امرأة مكتئبة لم تعرف ماالذي تفعله بعد أن قتل زوجها في ظروف قاهرة. ومن المحتمل أن فيكتوريا لن تدرك حلمها في أن تكون راقصة محترفة. إذًاً، هي شخصية تعاني من ظلال الماضي، بكل ذلك الحمل على كتفيها، وبكل ذلك الإكتئاب. وجدت هذا الإكتئاب في عدة أشخاصٍ في تشيلي.
– عندما طُردت من المدرسة، كان أحد المدرسين يذكر البقية بمقتل والدها وكيف تم. ردت المديرة بأن “ذلك الأمر حدث قبل 17 سنة، والآن تشيلي ديمقراطية منذ زمن. متى نتوقف عن لوم بينوشيه بكل شيء؟”، وهنا يبرز سؤال معقد، ماهي رؤيتك؟
– لايمكن للديمقراطية أن تكون كاملة. لكن، في بلد يعيش ديمقراطيته الأولى بعد حكم مجرم سفاح، يقتل الناس ويفكر بطريقة مختلفة كما يعتقد، من يرسل الناس إلى المعتقلات، من يعذب، لاتستطيع القول بأنه لايلام. في تشيلي الآن هناك حكومة اجتماعية ديمقراطية لعشرين عامًا، وعما قريب سيكون هناك تغيير. الحكومة الجديدة ستنصب خلال الأيام القادمة وهي ممثلة للجبهة اليمينية، والتي تدار من قبل أشخاص عملوا مع بينوشيه. لابأس، لايهمني الأمر، ولاأمانع، ويمكنني أن أسامح وأنسى. لكن، سيكون الأمر مختلفًا. لأن الديمقراطية التي فرضت نفسها بالقوة ستُستخدم من قبل ناس دعموا بينوشيه. لابأس، يجب أن أتعايش مع هذا الأمر لأنهم تغيروا، ويجب أن نثق فيهم. لكن، هناك فرق حينما نختلف في آرائنا بمناخ ديمقراطي، وبين اختلافنا أيام بينوشيه. قتل بينوشيه مع رفاقه كل من يعارضونه محاربًا للديمقراطية. الديمقراطية أمر جيد حتى مع رفاق بينوشيه.
– عندما أعود وأقرأ تاريخ تشيلي أيام الانقلاب، أجد أن هناك بلدًا مقسمًا، وتفاوتًا مهولًا في الطبقات. إلى أي مدى ترى البلد حاليًا في انقساماتها؟ هل لازالت تعيش الماضي؟
– لا، لم تعد كذلك. أعتقد بأن الأشخاص التي قسوا على المجتمع قد تغيروا، وتضرروا بما يكفي من نظام بينوشيه. هم الآن مقتنعون بأن الديمقراطية هي النظام الأمثل لحكم البلاد، وقد طوروا الآن اقتصادًا مذهلًا على النقيض من الموجود أيام الديكتاتورية، وهم الآن مقبولون أمام العالم. أؤمن بأن هناك مستقبلًا أفضل لتشيلي، الأشخاص الذين لم يتواصلوا فعلوها الآن بسبب الديمقراطية منذ عشرين عامًا وهم يجنون ثمار مافعلوا.
– كانت فرصة رائعة لأني قابلتك، شكرًا جزيلًا.
– شكرًا لكِ، وأرجوك أن تعذري إنجليزيتي.. كنت عائدًا للتو من زلزال.
– (تضحك).
